استنزاف المواطن الفلسطيني في غزة

صمت العالم لا يُعفيه من المسؤولية، والاستنزاف الذي يتعرض له الفلسطيني ليس حالة قدرية، بل جريمة ممنهجة تُرتكب يومياً على مرأى من الجميع!

0:00
  •  الاحتلال يخوض حرباً نفسية واستنزافية طويلة المدى في غزة.
    الاحتلال يخوض حرباً نفسية واستنزافية طويلة المدى في غزة.

عزيزي القارئ، 

قبل أن تشرع في قراءة هذا المقال، عليك أن تتخيل حجم معاناتي في شحن اللاب توب، والمسافة الطويلة التي أستغرقها للوصول إلى نقطة الشحن بعد تدمير البنية التحتية وخطوط الكهرباء والمياه في قطاع غزة، ثم الصحو لتنفيذ البرنامج اليومي المعتاد لي ولأبنائي في سبيل توفير الحطب أو البلاستيك، أو حتى الملابس؛ لإعداد إفطار لا يتجاوز رغيف خبز واحداً لكل ابن مع علبة فول أو حمص لكل أفراد العائلة، بالإضافة إلى نقل المياه من عربات يتكاثر حولها النازحون، لتصطف في طابور لا ينتهي حتى تقدر على تعبئة قيزان (خزان) مياه صغير لا يكفي يومك، ثم أنت بحاجة بعد ذلك إلى تعبئة مياه لا تصلح للاستخدام الحيواني لتنظيف الحمامات وغسل الأواني والأيدي.. إلخ، ولك أن تتخيل حجم الضغط الذي يقود إلى شجارات متناثرة في الجوار.

بالإضافة إلى محاولة الكتابة على صفيح الحرب الساخن، من الحر الشديد المختلط بالغبار وصوت القذائف وأعداد الشهداء التي تزيد من حالة القهر، لكنها تدفعك أن تكتب وتسجل للتاريخ هزيمة الوعي العربي مع وجود أنظمة متخاذلة، تقتات على قمع النخب وإحباط أي حراك جماهيري. 

وأمام كل هذا، كان لا بد من توثيق عملية استنزاف المواطن الغزي، كي لا ننسى. 

إذ سعى الاحتلال الإسرائيلي طوال عقود طويلة إلى إشغال العقل الفلسطيني بكثير من القضايا العادية ومتطلبات الحياة اليومية، في محاولة لمنعه من تطوير نفسه وتجهيز أدواته المقاوِمة، بل حاول خلال عمليات الاغتيال بحق قادة المقاومة سابقاً إلى تمرير سياسة جز العشب التي تقتضي القضاء على مقومات القتال لدى الفصائل خوفاً من تراكمها وتناميها، الأمر الذي قد يصعب القضاء عليها، وهو ما نجح الاحتلال في تحقيقه من خلال استفزاز حركات المقاومة حتى وصل إلى درجة تغوّل فيها على كل مقومات البقاء الفلسطيني، في ظل الصمت العربي والتواطؤ الأميركي. 

فالاحتلال الإسرائيلي عمد طوال عقود طويلة من الصراع إلى تهويد الأرض مع تشريد الإنسان الفلسطيني، إذ سعى بشكل منهجي إلى استنزافه على جميع الصعد الجسدية والنفسية والاقتصادية والسياسية. فالفلسطيني اليوم لا يعيش فقط تحت الاحتلال، بل تحت ضغطٍ مستمر يُعيقه عن تطوير نفسه أو حتى التنفس بحرية، وهنا تبدأ حكاية "الاستنزاف" التي صارت سياسة ثابتة ضمن أجندة الاحتلال، والتي كان لا بد من تسليط الضوء عليها في ظل هذه الإبادة العظيمة. 

منذ البداية، أدركت المؤسسة الأمنية والعسكرية الإسرائيلية أن قتل الفلسطيني لا يكون بالرصاص وحده، بل عبر إشغاله في دوامة الحياة اليومية، ولم يكن من قبيل المصادفة أن يعيش الفلسطيني في غزة أو الضفة الغربية تحت حصار دائم وبطالة مرتفعة وانقطاع للكهرباء والماء وملاحقات يومية على الحواجز الإسرائيلية، إذ إن تلك التفاصيل الصغيرة ليست عفوية، بل هي جزء من معركة السيطرة على الوعي الفلسطيني، ومنعه من الحلم ومن التنظيم ومن المقاومة.

ولعلّ أبرز ما يدل على هذه السياسة هو ما يُعرف بمصطلح "جز العشب" كما أشرت إليه سابقاً، فهذه الاستراتيجية التي يتبعها الاحتلال في استهداف قادة المقاومة الفلسطينية بين فترة وأخرى، جاءت لمنع أي تراكم في الخبرات أو الإمكانيات العسكرية. كلما نمت قدرات فصيل مقاوم، هرع الاحتلال إلى قصفه واغتيال قياداته. لا لشيء إلا لقصم ظهر المقاومة قبل أن يشتد. وهكذا، يبقى الفلسطيني في غزة تحديداً، في حالة بناء وهدم مستمرين، لا تسمح له بالتقدم النوعي أو الاستقلال الذاتي.

إن الأمر لا يتوقف عند القتل أو الإعاقة، بل يمتد إلى تفكيك البنية المجتمعية الفلسطينية، فالتعليم يعاني وأبناؤنا باتوا في جهل مستطير مع تدمير المدارس والجامعات، الاقتصاد هش مع صناعة أزمات تتعلق بالعملة الورقية و"التكييش" والربا الفاحش الذي يتجاوز 30%، كذلك الخدمات الصحية المنهكة واستهدافها في جنوب القطاع وشماله تحت مبررات فارغة. كذلك يعاني المجتمع الفلسطيني من ضغوط نفسية متراكمة بسبب الحروب المتكررة والحصار والعزلة الدولية. وبالتزامن مع هذا كله، لا نرى سوى صمت عربي مريب وتواطؤ أميركي معلن، يدفعان نحو مزيد من التدهور والمعاناة.

لقد أصبح المواطن الفلسطيني محاصراً ليس فقط بالجدران والحواجز، بل بالقهر اليومي الذي يغذّيه الاحتلال بسياسات مدروسة، ورغم ذلك، ما زال هذا المواطن يناضل في صناعة الحياة، لكن الثمن باهظ، والعبء ثقيل.

إن الاحتلال لا يخوض حرباً عسكرية فقط، بل يخوض حرباً نفسية واستنزافية طويلة المدى، هدفها كسر إرادة الفلسطيني وتفريغه من الداخل. وعليه، فإن مقاومة هذا النوع من الحروب تتطلب وعياً عميقاً واستراتيجية صمود وطنية، لا تقتصر على السلاح بل تشمل بناء الإنسان والحفاظ على روح الجماعة.

في الختام، إن صمت العالم لا يُعفيه من المسؤولية، والاستنزاف الذي يتعرض له الفلسطيني ليس حالة قدرية، بل جريمة ممنهجة تُرتكب يومياً على مرأى من الجميع، لذلك فإن المطلوب هو أن نصرخ ونكتب لنفضح جرائم الاحتلال ونقاوم... كي لا يبقى الفلسطيني وحده في معركته من أجل البقاء.