الأمن الأوروبي: إعادة التعريف لا تعني استقلالاً

تفتقر أوروبا إلى "استراتيجية أوسع تجاه روسيا"، وتباين النظرة إلى "التصوّرات الأمنية " بين الدول الأعضاء ما يقوّض أيّ نهج "موحّد واستشرافي" لمواجهة المستقبل.

0:00
  • تعمد الدول الأوروبية إلى وضع تصوّراتها الخاصة للتهديد.
    تعمد الدول الأوروبية إلى وضع تصوّراتها الخاصة للتهديد.

بعد قمّة ألاسكا بين الرئيسين الأميركي دونالد ترامب والروسي فلاديمير بوتين، واللقاء الأوروبي ـــــ الأميركي ـــــ الأوكراني الذي تمّ عقده في البيت الأبيض، ورفض ترامب المقترحات الأوروبية وإصراره على السير بما تمّ الاتفاق عليه بينه وبين بوتين، يمكن القول إنّ أوروبا باتت تواجه عدّة تحدّيات، ستؤدّي إلى تبدّل في تصوّرات التهديد خاصة أمام الطبيعة المتغيّرة للتحالف عبر الأطلسي والحاجة الملّحة الجديدة لتحقيق الاستقلالية الاستراتيجية. 

بالرغم من محاولة الأوروبيين إدخال بنود جديدة على اتفاق ألاسكا، أو أقلّه دفع الأمور في أوكرانيا إلى وقف مؤقت لإطلاق النار، كما طالب ترامب نفسه في وقت سابق، تخلّى ترامب عن هذا المطلب بعدما تبيّن له أنّ الروس يرفضونه بشدّة، ويعتبرونه نوعاً من الخداع الاستراتيجي الذي سيؤدّي الى إعادة تسليح أوكرانيا ودعمها لمواصلة القتال. وهكذا انحاز ترامب إلى موقف بوتين الذي يرى أنّ المفاوضات يجب أن تركّز على تسوية سلمية طويلة الأمد مع استمرار الأعمال العدائية من دون توقّف.

ومع موقف ترامب المستجدّ، تبدّلت تصوّرات التهديد الأوروبية، وتوسّعت بتغيّر المعادلات الجيوسياسية، وبالتالي بات التهديد للأمن الأوروبي متعدّد الطبقات، ويحتاج مقاربة مختلفة عمّا كانت عليه سابقاً.

 يعدّ فهم تصوّرات التهديد أمراً بالغ الأهمية لتحليل سلوك الدولة والتنبّؤ به. فالدول تبني قرارات سياستها الخارجية على تصوّراتها للتهديدات، وليس بالضرورة على الحقائق الموضوعية. وهكذا، يمكن أن تؤدّي التصوّرات الخاطئة لنوايا الخصم، التي غالباً ما تغذّيها التحيّزات المعرفية ونقص المعلومات الموثوقة، إلى حروب مكلفة ومدمّرة. 

وتعمد الدول إلى وضع تصوّراتها الخاصة للتهديد، عبر دراسة البيئة الدولية والإقليمية والمحلية. وفي حين تؤخذ العوامل المادية مثل القوة العسكرية، والقوة الاقتصادية، والقرب الجغرافي في الاعتبار، إلّا أنّ تفسير "النوايا" يبقى مهماً، بالرغم من أنّ هذه التفسيرات تتأثّر بتاريخ الدولة وجغرافيّتها، وثقافتها السياسية، والأيديولوجيات السائدة فيها.

وعلى هذا الأساس، لم يعد الأوروبيون ـــــ بعد عودة ترامب إلى البيت الأبيض وسلوكه العدائي معهم ـــــ ينظرون إلى التهديد على أنه متجذّر فقط في العدوان العسكري الروسي، بل في روسيا التي أصبحت أكثر جرأة وتعمل وفقاً لشروطها الدبلوماسية المفضّلة، مدعومة بشريك أميركي على استعداد لإعطاء الأولوية "لإعادة الاصطفاف مع روسيا" على حساب الغرب الجماعي، وكذلك في نظرته إلى حلفائه على أساس المصالح الاقتصادية المجرّدة ولو على حساب التحالف العميق المستمرّ منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية.

واستجابة لهذا التهديد متعدّد الطبقات، بدأت الدول الأوروبية التوجّه إلى العسكرة وهو ما سيكون "نقطة تحوّل" أوروبية شاملة، تشبه إلى حد بعيد "نقطة التحوّل الألمانية" التي أعلنها المستشار الألماني أولاف شولتز بعد حرب أوكرانيا مباشرة.

وهكذا، زاد الإنفاق الدفاعي الأوروبي في كلّ دولة من الدول، وتعهّدت الدول الأوروبية في قمة حلف الناتو لعام 2025، بهدف طويل الأمد يتمثّل في استثمار 5% من ناتجها المحلي الإجمالي في متطلّبات الدفاع الأساسية بحلول عام 2035. 

وعلى صعيد الاتحاد ككلّ، تمّ إطلاق خطة "إعادة تسليح أوروبا" (ReArm Europe) و "الاستعداد 2030" (Readiness 2030) لإعادة تسليح القارة من خلال زيادة الإنفاق الدفاعي وتسهيل النشر السريع للأصول العسكرية. ويشمل ذلك تفعيل بند استثنائي في ميثاق الاستقرار والنمو للسماح للدول الأعضاء بزيادة الإنفاق الدفاعي وإنشاء أداة قروض بقيمة 150 مليار يورو، وهو "الإجراء الأمني لأوروبا" (SAFE)، لتمويل مشاريع دفاعية رئيسية. يضاف إلى ما سبق، إقرار الاتحاد الأوروبي استراتيجية جديدة للبحر الأسود للتحوّل من موقف "ردّ الفعل" إلى موقف أكثر استباقيةً ضدّ "العدوان الروسي" في تلك المنطقة الحيوية.

على الرغم من هذه الإجراءات الملموسة والهامّة، وزيادة الإنفاق الدفاعي، والاستثمار في الصناعات الدفاعية، وتوقيع صفقة تاريخية مع ترامب لاستمرار الحماية الأمنية الأميركية، إلا أنّ تناقضاً استراتيجياً يميّز البيئة الأمنية الأوروبية.

تفتقر أوروبا إلى "استراتيجية أوسع تجاه روسيا"، كذلك تطغى الانقسامات الداخلية على ما يجب فعله تجاه "روسيا"، وتباين النظرة إلى "التصوّرات الأمنية " بين الدول الأعضاء ما يقوّض أيّ نهج "موحّد واستشرافي" لمواجهة المستقبل.

هذا التناقض يعني، أنه حتى في الوقت الذي تستشعر فيه الدول الأوروبية خطورة المرحلة المقبلة، خاصة في ظلّ التقارب الروسي الأميركي، ورغبة ترامب في إخضاع الحلفاء والمنافسين على حدّ سواء، فإنّ أوروبا كانت، ولا تزال، تعمل في إطار من عدم اليقين الاستراتيجي خاصة فيما يتعلّق باعتمادها طويل الأمد على الحماية الأمنية التي توفرّها الولايات المتحدة، وهو ما يثير الشكوك حول نجاح الاستقلال الاستراتيجي الأوروبي.