الإمام الصدر: بداية المقاومة، ونهاية الاستضعاف

لقد قال الإمام الصدر كل شيء وحدد الأسقف ورسم المسارات.
لقد صاغ بكلماته ونصوصه استراتيجية الأمن الوطني منذ أكثر من خمسين عاماً.

  • الإمام الصدر كل شيء وحدد الأسقف ورسم المسارات.
    الإمام الصدر كل شيء وحدد الأسقف ورسم المسارات.

"إسرائيل شر مطلق وخطر على العرب، مسلمين ومسيحيين، وعلى الحرية والكرامة، ومكافحة إسرائيل خير مطلق… إن إسرائيل نعتبرها خصمنا الأول، وهي تشكل خطراً علينا، سواء كان ثقافياً، حضارياً، اقتصادياً، أم سياسياً."

بهذه البصيرة التي تجاوزت الزمن، حدد الإمام السيد موسى الصدر طبيعة الصراع وعمقه ومداه من دون أي لبس أو غموض، وبشكل حاسم وقاطع. بإيمانه العميق، أطلق الإمام الصدر روح المقاومة في لبنان، معتبرًا أن مقاومة "إسرائيل" ليست فقط حاجة لبنانية، بل هي حاجة فلسطينية أيضًا، بل هي حاجة عربية شاملة، لأن "إسرائيل" تشكل تهديداً كاملاً للأمن القومي العربي بجميع أبعاده الثقافية، الحضارية، الاقتصادية والسياسية.

ومن هذا المنطلق، تعتبر "إسرائيل" خطراً وجودياً حقيقياً على الكيانات العربية المختلفة.

أراد الإمام الصدر أن يدرك الجميع أن القضية الفلسطينية ليست قضية الفلسطينيين فحسب، فـ"إسرائيل" ليست مشروعاً جغرافياً محصوراً في نزاع حول مساحة جغرافية معينة، بل هي مشروع استراتيجي يعيق نهضة المنطقة واستقلالها. يقول الإمام الصدر: "إن إسرائيل غرست في هذه المنطقة في عملية استعمارية كبرى لم يشهد التاريخ لها مثيلاً."

لم يكتفِ الإمام الصدر بتشخيص الخطر الإسرائيلي، بل كان يطرح أيضاً معالم الاستراتيجية المقابلة التي يجب اتباعها في المواجهة. وأساس هذه الاستراتيجية هو الوحدة في التصدي. ساحة المواجهة عند الإمام الصدر هي ساحة واحدة، لا يمكن تقسيمها أو تجزئتها.

إن مفهوم وحدة الساحات، رغم عدم ورود المصطلح نفسه في أدبياته، كان حاضراً بشكل قوي في رؤية الإمام الصدر. وكأنّه هو من أطلق هذا المفهوم، حين قال: "القضية الفلسطينية ليست ملكاً لأحد، إنها مسؤولية هذه الأمة."

أما أساليب المواجهة، فأبرزها المقاومة المسلحة، وليس أي خيار آخر. لم يؤمن الإمام الصدر بالخيارات الدبلوماسية، ولم يكن يرى بديلاً عن السلاح، حيث قال جازماً: "إن إسرائيل زائلة، لذا على كل مسلم حمل السلاح، وكل مسيحي إذا أراد اتباع المسيح، يجب عليه تبديل الصليب برشاش."

هذا ما جاء في محاضرة له في أيلول عام 1974، أي قبل اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية. شدد الإمام الصدر على أن حمل السلاح يأتي في اطار قضية إنسانية ووطنية جامعة، يشترك فيها المسلمون والمسيحيون في معركة واحدة هي معركة مكافحة "إسرائيل".

بذلك، رسم الإمام الصدر معالم استراتيجية الأمن الوطني اللبناني، القائمة على مواجهة ومكافحة "إسرائيل"، باعتبارها الشر المطلق، قائلاً: "السعي لتحرير فلسطين هو سعي لإنقاذ المقدسات الإسلامية والمسيحية، سعي لتحرير الإنسان، سعي لعدم تشويه سمعة الله في الأرض."

يؤكد الإمام الصدر بوضوح أن "إسرائيل" تشكل تهديدًا وجوديًا للبنان، بوصفه وطنًا جامعًا للمسلمين والمسيحيين، وأن الدفاع عن هذا الوطن لا يكون إلا بمواجهة "إسرائيل"، بل بإزالتها.

كان الإمام الصدر سباقًا جدًا في هذا الطرح، حيث اعتبر أن الوطنية اللبنانية لا تتعارض مع الالتزام بالقضية الفلسطينية "كقضية أمة"، وكقضية "مواجهة مشروع استعماري كبير"، وكقضية تحرير إنسان، بل هي قضية تصل إلى مستوى إيمان المؤمنين بقيمهم وعقائدهم ودينهم. كما قال: "عندما يتنازل الإنسان المسلم أو المسيحي عن القدس، فهو يتنازل عن دينه."

هذا هو السبب في أن الإمام الصدر قدس القتال ضد "إسرائيل"، واعتبره من أوجب الواجبات، فقال: "العودة إلى فلسطين صلاتنا، إيماننا، ودعاؤنا، ونتحمل في سبيلها ما نتحمل، ونتقرب إلى الله في سبيلها."

وبذلك، يُعتبر الإمام الصدر أول من أطلق مفهوم "على طريق القدس"، وجعل كل التضحيات في هذا الطريق تقربًا إلى الله، داعيًا إلى تحمل هذه التضحيات في هذا المسير وهذا الخيار.

لم يرَ الإمام الصدر أن هذا الطرح الواسع والشامل يتناقض مع مبدأ الحفاظ على الكيان اللبناني والهم الوطني، بل اعتبره جزءًا مكملًا له، قائلًا: "إن عدم الشعور بالمواطنة هو الخطر الذي يفتح الباب على مصراعيه للاستعمار، وإسرائيل، وحتى لمن هو أضعف من إسرائيل."

أراد الإمام الصدر أن يوضح لللبنانيين أن الوطنية الحقيقية هي التي تقود حتمًا إلى مواجهة "إسرائيل"، وأن لبنان يعاني نقصاً حقيقياً في مفهوم الوطنية، وهو ما قد يقوده إلى مستنقع الهيمنة، وتحلل السيادة، وإنهاك الاستقلال.

هنا أيضًا تظهر بصيرة الإمام الصدر النافذة. فقد شخّص العلة التاريخية في الكيان اللبناني الذي نشأ ككيان سياسي من دون أن يتحول إلى وطن، يشعر فيه كل مكون أنه معنيّ بالتهديدات التي تطال مكونًا آخر. إن علة لبنان ومرضه هي الأنانية المفرطة والمصالح الخاصة التي تغلب المصالح الوطنية الجامعة، وهو ما اعتبره الإمام الصدر مصدر الوهن والضعف في الجسد اللبناني، وسببًا لفتح الأبواب للطامعين، وعلى رأسهم "إسرائيل". وإن كان من بين هؤلاء من هو أضعف من "إسرائيل"، وهو ما تجسّد اليوم في التهديدات الإرهابية والتكفيرية.

انطلاقًا من هذه الرؤية الثاقبة ومن فهمه لهذا الخلل في المواطنة، أطلق الإمام الصدر تحذيره من بوابة الجنوب، قائلاً: "انهضوا لنصرة الجنوب ونصرة لبنان، ولا تنتظروا وقوع الكارثة. فإما أن نكون شعبًا مؤهلاً للبقاء جديرًا بالاستمرار، أو شعبًا سقط في مستنقعات الوجود ثم انسحق بين دواليب الزمن."

لعل هذه المقولة تصلح لأن تكون مقدمة استراتيجية الدفاع الوطني، ففي مضمونها أبعاد استراتيجية متعددة:

البعد الأول: أن نصرة الجنوب هي نصرة للبنان، بمعنى أن قضية الجنوب ليست قضية جنوبية تخص أهل الجنوب أو طائفة معينة، بل هي قضية وطنية جامعة.

البعد الثاني: أن العمل يجب أن يكون استباقيًا، وعدم انتظار وقوع الكارثة وعند تشخيص التهديد لا يمكن الركون إليه أو القبول به وبالتالي يجب العمل والمواجهة.

البعد الثالث: أن قضية المواجهة هي قضية شعب، لأنها أعمق من أن تكون مسألة سلطة فحسب.

البعد الرابع: أن مسألة الجنوب مرتبطة بوجود لبنان وبقائه.

إن هذه الأبعاد الاستراتيجية لقضية الجنوب هي التي دفعت الإمام الصدر إلى النهوض بتحمل المسؤولية، ولم ينتظر أن تسمع السلطة في لبنان نداءاته المتكررة.

اعتبر الإمام أن واجبه الوطني والإنساني والديني يحتم عليه القيام بمواجهة "إسرائيل". وقد أدرك أن الظروف لا تحتمل ترف الانتظار والتعويل على أداء سلطة لبنانية ضعيفة ، لا تزال تعاني نقصاً في الوطنية وغياباً للفهم العميق لما يهدد هذا الكيان في وجوده وحضارته.

من هنا، أطلق الإمام الصدر أفواج المقاومة اللبنانية "أمل"، موضحًا الأسباب الموضوعية لذلك بقوله:
"كنا نشاهد أن العدو الإسرائيلي يسرح ويمرح في الجنوب، ويدخل القرى على عمق 16 كم وأكثر، من دون أن يكون في هذه القرى أي فدائي. وكان هذا العدو يقتل ويفجر ويأسر، ولا من يرد عليه. طالبنا طيلة سنوات بضرورة الدفاع عن الجنوب، وعندما تخلت السلطات اللبنانية عن واجباتها في مجال الدفاع عن الجنوب، قلنا:
لماذا ننتظر حتى يحتل العدو الإسرائيلي أرضنا، ثم نشكل فرق المقاومة لاستعادة الأرض المحتلة في جنوب لبنان؟ الأفضل أن نستعد منذ الآن، وأن نحمل السلاح، ونواجه العدو الإسرائيلي قبل تفاقم خطره. وهذا كان قصدنا عندما قلنا: إن السلاح زينة الرجال."

إن كلام الإمام الصدر يتضمن في روحه ومضمونه مجموعة من العناصر التي تشكل القواعد الأساسية لقيام واستمرارية العمل المقاوم:

أولًا: عندما تتقاعس السلطة عن القيام بواجباتها ومسؤولياتها، لا يسقط الواجب الوطني عن الشعب.

ثانيًا: أن مشروعية المقاومة تنبع من تحقق التهديد والعدوان، وأنه لا حاجة لنيل هذه المشروعية من أحد.

ثالثًا: أن حمل السلاح ليس مرتبطًا بوجود الاحتلال فحسب، بل بوجود التهديد، وأن الأمر لا يكون بانتظار تحقق الخطر، بل بالاستعداد لمواجهته.

رابعًا: أن السلاح لا يتناقض مع بناء الدولة، بل هو في صلب هذا البناء، لأن السلاح في إطار مقاومة الاحتلال هو ضمان السيادة والاستقلال، اللذين يشكلان عمود بناء الدولة.

خامسًا: أن السلاح هو "زينة" في ظل المقاومة، وليس منقصة، والمقاومون هم فخر ومجد هذه البلاد.

لقد قال الإمام الصدر كل شيء وحدد الأسقف ورسم المسارات.
لقد صاغ بكلماته ونصوصه استراتيجية الأمن الوطني منذ أكثر من خمسين عامًا. فكان رائد المشروع المقاوم القائم على وحدة الساحات، ومؤسسًا لخيار العمل المقاوم المسلح كخيار رئيسي للأمة، ومتبنيًا لفكرة أن مقاومة "إسرائيل" ومواجهتها هي مسؤولية قومية ووطنية على حد سواء.
شدد الإمام الصدر على أن المقاومة تستحق التضحية، وأن طريق القدس هو الطريق إلى الله، وأن مقاومة اللبنانيين هي واجب ومسؤولية وطنية، وحاجة لاستقرار وطنهم، وأن التهديد الرئيسي على وجود لبنان، هو التهديد الإسرائيلي.

هذه هي أسقف وخطوط الإمام الصدر التي تبنّاها المقاومون على مدى أكثر من خمسين عامًا، فصنعوا كرامة الوطن وسيادته واستقلاله، وتحرير أرضه. واليوم، كما في الأمس، لا يوجد مقاوم واحد مستعد للتنازل عن درجة واحدة من سقف الإمام الصدر.
فالمقاومة باقية، باقية ما دام التهديد قائمًا، وهي شرعية، بل هي شرط وجود لبنان وبقائه.
في ذكرى تغييب الإمام، لا يكون الوفاء إلا بالالتزام بما أقره وأنشأه وصانه، وسخّر حياته من أجله في الحضور والغياب.

إن كلام الإمام الصدر يتضمن في روحه ومضمونه مجموعة من العناصر التي تشكل القواعد الأساسية لقيام واستمرارية العمل المقاوم.