الجزائر في خطاب روتايو: الشعبوية الانتخابية المقنّعة بالقيم الجمهورية
سلوك روتايو تجاه الجزائر لا يمكن قراءته كمجرّد استجابة ظرفية لأزمة دبلوماسية عابرة متعلـقة بمسألة ترحيل المهاجرين غير النظاميين، بل يُعبّر عن تقاطعات مركّبة بين اعتبارات السياسة الداخلية الفرنسية وطموحاته السياسية.
-
افتعال الأزمات: حين يتحوّل الوزير إلى باعث للتوتر.
لا يستنكف برونو روتايو، وزير الداخلية الفرنسي، عن النفخ في نار الأزمة المتقدة بين الجزائر وباريس مجتذباً بنهجه هذا الأضواء إلى نفسه وسياساته، ومثيرًا في الآن ذاته سيلاً من علامات الاستفهام حول دوافعه الحقيقية، ودوافع التيار الذي أضحى يمثله بوضوح داخل دواليب السلطة الفرنسية، تيارٌ هو حبيس منظور بائد ورثّ، لا يزال رهين ماضٍ كولونيالي بائد عاجز عن تصوّر علاقة ندّية مع الجزائر خارج إرث الهيمنة والوصاية، ومهما حاول إخفاء عدائه للجزائر، سرعان ما يفلت منه ليظهر في خطاباته وسياساته.
افتعال الأزمات: حين يتحوّل الوزير إلى باعث للتوتر
إن من أبرز مظاهر العداء السابق، سعي روتايو المحموم لفرض منطق الابتزاز السياسي على العلاقة بين الجزائر وفرنسا، إذ لا يتوانى عن تجاوز الخطوط الحمر الواحد تلو الآخر، ضمن مسلسل متصاعد من الانتهاكات الدبلوماسية، في محاولة مكشوفة لإخضاع الجزائر لقواعد لعبة قديمة سبق لها أن أعلنت، بوضوح وصرامة، أنـّها لن تكون طرفًا فيها مجددًا.
في ذروة هذه الانتهاكات، تجلّى مشهد جديد يُعرّي النيات الحقيقية خلف سياسة التصعيد الممنهج واستفزاز الجزائر التي تعتري روتايو.
ففي خطوة فردية متجاوزة للأعراف، أقدم الأخير على إصدار قرار يمنع الأعوان المعتمدين لدى سفارة الجزائر في باريس من ولوج المناطق المقيّدة داخل المطارات الباريسية لتولّي مهام نقل الحقائب الدبلوماسية، وذلك من دون أيّ إشعار مسبق لوزارة أوروبا والشؤون الخارجية الفرنسية أو تنسيق معها. إجراء منفلت من قواعد البروتوكول، ينطوي على خرق لاتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية لعام 1961، لا يُلحق الضرر مجدّداً بالعلاقات الثنائية بين البلدين فحسب، بل فيه شبهة محاولة النيل من السيادة الجزائرية ومساس بهيبة تمثيلها الدبلوماسي على الأراضي الفرنسية.
ولم تمضِ ساعات حتى جاء الردّ الجزائري صريحاً وحازماً؛ إذ أعلنت وزارة الشؤون الخارجية الجزائرية، في بيان رسمي صادر يوم 24 يوليو/تموز 2025، التفعيل الفوري لمبدأ المعاملة بالمثل والتطبيق الحرفي له، دفاعًا عن كرامة البعثة الجزائرية، وصونًا لحقها المشروع في أداء وظائفها من دون وصاية أو انتقاص.
جوازات السفر والـ"بدون وثائق": من أزمة قانونية إلى ذريعة للتأزيم
يأتي إجراء روتايو "المستغرب" – بحسب وصف البيان الجزائري الأخير – امتدادًا لسلسلة من التصرفات المريبة التي لا تنفك تصدر عنه على نحو يثير تساؤلات متزايدة بشأن خلفياتها وتوقيتها. فالأمر يبدو غير معزول، بل هو متّسق مع نمط من السياسات الاستفزازية التي بات الوزير ينتهجها تجاه الجزائر.
فقد سبقت هذا التصرف خطوة أخرى لا تقل استفزازًا، أعلن عنها روتايو بنفسه في حوار مع صحيفة لوفيغارو بتاريخ 23 يوليو/تموز 2025، حين أفصح عن نيته التضييق على استخدام جوازات السفر الصادرة عن القنصليات الجزائرية منذ شهر حزيران/يونيو الماضي لفائدة المواطنين الجزائريين غير الحائزين وثائق إقامة (المعروفين باسم "بدون وثائق")، وذلك عبر تعليمة إدارية وجّهها إلى المحافظات الفرنسية تقضي بعدم الاعتراف بهذه الجوازات كوثائق رسمية داخل التراب الفرنسي.
لا يُعزى استهجان هذا الإجراء لما ينطوي عليه من تجاوز خطير للأعراف الدبلوماسية واعتداءٍ ضمنيّ على صلاحيات الدولة الجزائرية السيادية في منح وثائقها الوطنية فحسب، بل لكونه إجراءً عنصرياً يمسّ بكرامة آلاف من الجزائريين المقيمين في فرنسا، ويعرّض وضعهم القانوني والاجتماعي لمخاطر محتملة.
جدير بالإشارة في هذا السياق، إلى أنّ القنصليات الجزائرية في فرنسا كانت، إلى وقت قريب، تحصر إصدار جوازات السفر بالمواطنين الجزائريين المقيمين بصفة قانونية، أي الحائزين بطاقات إقامة صادرة عن وزارة الداخلية الفرنسية، ما جعل وضعية الجزائريين المقيمين بطريقة غير نظامية (بدون وثائق) أكثر هشاشة، إذ كانوا عاجزين تمامًا عن تسوية وضعياتهم القانونية أمام المحافظات الفرنسية التي دأبت على رفض ملفّاتهم تلقائيًا بسبب غياب جواز سفر ساري المفعول. وبذلك، كانت كلّ محاولة تسوية من هؤلاء تتحوّل عمليّاً إلى مصيدة قانونية تنتهي غالبًا بإصدار أمر بمغادرة التراب الفرنسي (OQTF).
ويبدو أن التقاء عاملين متوازيين قد عجّل بقرار الجزائر إطلاق مسار تسوية استثنائي لفائدة رعاياها "بدون وثائق" في فرنسا: من جهة، أزمة "أوامر مغادرة التراب الفرنسي" (OQTF) التي تصدر بكثافة ضدّ الجزائريين وتُستخدم ذريعة دائمة للهجوم المتكرّر على الجزائر في الخطاب السياسي والإعلامي الفرنسي؛ ومن جهة أخرى، الوعد الانتخابي الذي قطعه الرئيس عبد المجيد تبون على نفسه خلال حملته الرئاسية مطلع عام 2024، والقاضي بتسوية وضعية الجزائريين المقيمين في أوروبا بصفة غير نظامية، ولا سيما في فرنسا.
هذا التلاقي بين الضغط السياسي الخارجي والالتزام السياسي الداخلي، دفع القنصليات الجزائرية، منذ يونيو/حزيران 2025، إلى الشروع في إصدار جوازات سفر بيومترية "طارئة"، صالحة لسنة واحدة، لفائدة هذه الفئة، في محاولة عملية لتسهيل تسوية أوضاعها القانونية أمام السلطات الفرنسية.
كان يمكن لقرار الجزائر القاضي بتمكين "الجزائريين بدون وثائق" من الحصول على جوازات سفر عبر قنصلياتها أن يُعتبر بادرة إيجابية من شأنها تذليل واحدة من أعقد العقبات التي تواجه ملفات تسوية الإقامة في فرنسا، إذ يُفترض أن يسهم هذا الإجراء في تسهيل تحديد هوية الآلاف، ويحرم بعض الساسة الفرنسيين من ورقة لطالما استُغلّت انتخابيًا، كما يُخفّف في الوقت ذاته عبء الملاحقة والترصد الأمنيين عن أجهزة الدولة الفرنسية.
غير أنّ ردّ فعل وزير الداخلية برونو روتايو، الرافض لهذا التوجّه، وتصريحات صوفي بريماس، الناطقة باسم الحكومة الفرنسية، التي لـمّحت إلى خطّة حكومية ترمي إلى تقييد شروط دخول عدد من كبار المسؤولين والدبلوماسيين الجزائريين إلى التراب الفرنسي في 23 جويلية، والتلويح المتواصل بإلغاء اتفاق 1968 يكشفان بما لا يدع مجالاً للشكّ أنّ النية الفرنسية ليست تهدئة الأزمة، بل تعميقها واستثمارها سياسيًا في الداخل الفرنسي.
من هدنة مؤقتة إلى تصعيد انتخابي بخلفيات يمينية وشعبوية
تؤكد الوقائع السابقة أنّ الصمت الذي خيّم على العلاقات الجزائرية-الفرنسية طيلة الشهرين الأخيرين لم يكن سوى هدنة تكتيكية، ارتبطت بتوقّع إطلاق سراح الكاتب بوعلام صنصال، سرعان ما انقضى أجلها بصدور حكم محكمة الاستئناف بحقّه يوم 01 جويلية 2025 وتثبيت إدانته، ليُستأنف بعد ذلك نهج "الردّ التدريجي" الذي أعلن عنه روتايو منذ مارس/آذار 2025 ويعود إلى معجمه المفضل المترع بمصطلحات "موازين القوة"، و"القبضة الحديدية" و"الردّ الصارم" في التعامل مع الجزائر.
بعيداً عمّا هو مُعلَن، فإنّ سلوك برونو روتايو تجاه الجزائر لا يمكن قراءته كمجرّد استجابة ظرفية لأزمة دبلوماسية عابرة متعلـقة بمسألة ترحيل المهاجرين غير النظاميين، بل يُعبّر عن تقاطعات مركّبة بين اعتبارات السياسة الداخلية الفرنسية وطموحاته السياسية الشخصية.
أولاً، يبرز رهان روتايو على كسب الرأي العام الفرنسي من خلال اللعب على وتر ثلاثية الهجرة، والأمن، والهوية الوطنية. ففي ظرف سياسي مشحون تتزايد فيه شعبية اليمين المتطرّف -خاصّة بعد أن أكدت استطلاعات مركز Toluna/Harris Interactive تصدّر جوردان بارديلا نيات التصويت في رئاسيات 2027 بنسبة تراوح بين 36% و37% - يسعى روتايو إلى ترميم موقعه المتأخر في السباق الرئاسي من خلال خطاب هجومي تجاه الجزائر يُخاطب به مشاعر القلق والخوف لدى جزء من الناخبين المحافظين والمتشددين الذين تستميلهم خطابات اليمين المتطرف.
إن التركيز على "عدم تعاون الجزائر" في ملف الترحيل ليس إلا ذريعة سياسية مضخّمة، يوظفها روتايو وجناحه لتوجيه الأنظار نحو "التهديد الخارجي"، في محاولة لإعادة رسم صورته كمرشّح قوي في ملف السيادة والأمن، وهي أوراق يتقن اليمين المتطرف استثمارها منذ سنوات.
ضمن هذا المنظور، يسعى روتايو جاهداً إلى تقديم نفسه كمرشّح "القيم الصلبة" داخل حزب الجمهوريين (LR) وممثلاً للجناح المحافظ التقليدي، ورافعاً لخطاب قومي متشدّد في قضايا الهجرة، والأمن، والهوية العلمانية للجمهورية. وفي ظلّ تنامي قوّة اليمين المتطرّف، وتصدّر جوردان بارديلا نيات التصويت للرئاسيات المقبلة، يجد روتايو نفسه مضطراً إلى خوض معركة رموز ومضامين مزدوجة: من جهة، التميّز عن بارديلا من خلال تأكيد انضباطه الجمهوري وخلفيته المحافظة غير المتطرّفة؛ ومن جهة أخرى، مزاحمة اليمين المتطرّف على ملفاته التقليدية بلهجة صارمة تتبنى موقفاً "سيادياً" من الجزائر، من دون الانزلاق إلى الخطاب الراديكالي الصريح.
إن مردّ التركيز على الجزائر في هذا السياق مرتبط بمكانتها في المخيال السياسي لليمين الفرنسي كرمز مركزي للتحديات المرتبطة بالهجرة، والإدماج، والهوية. وعليه فإن برونو روتايو يستثمر هذه الرمزية للتهجّم على الجزائر لأسباب متعدّدة: لإظهار صرامته في ملف طرد الأجانب غير المرغوب فيهم؛ لاستغلال خيبة أمل شرائح من الفرنسيين من أصول غير أوروبية من فشل سياسات الإدماج؛ ولإعادة إحياء خطاب الهويّة الفرنسية في مواجهة ما يصوّره كتراخٍ مؤسساتي.
في هذا السياق، لا يتوانى روتايو عن تقديم الجزائر باعتبارها دولة "ترفض استعادة المهاجرين المطرودين"، و"تُصدّر التطرّف"، و"تُخِلّ بالتزاماتها الثنائية"، ما يسمح له بتوجيه رسائل حادّة إلى عدّة فئات: الناخبين المحافظين القلقين من فقدان السيطرة على الحدود، والناخبين السابقين لليمين المتطرّف الباحثين عن بديل أكثر حدّة، والمسؤولين المحليّين في الضواحي المهمّشة الذين يحمّلون الهجرة مسؤولية العنف والتهميش الاجتماعي.
بهذا، يتحوّل ملف الجزائر -وخاصة في بعده المتعلق بالهجرة- إلى أداة لشرعنة صرامته السياسية من دون فقدان شرعيته الجمهورية، وهو توازن دقيق يسعى روتايو لاستثماره في سبيل استعادة مكانة حزب الجمهوريين كقطب يميني قادر على المنافسة في انتخابات 2027.
أخيراً، يساعد التهجم على الجزائر على توظيف الذاكرة الاستعمارية كأداة في خطاب روتايو الانتخابي، حيث يُلمّح في أكثر من مناسبة إلى ضرورة "قطع الحبل السري الاستعماري" الذي يمنح الجزائر حسبه امتيازات غير مبرّرة داخل فرنسا، مثل تسهيلات إصدار الوثائق الرسمية أو الامتيازات القنصلية والثقافية. هذا النوع من الخطاب يلقى صدى قويّاً لدى شرائح من اليمين المتشدّد الرافض لأيّ اعتذار تاريخيّ، كما يستقطب دعم فئات الحركى، وقدماء المحاربين وأحفادهم الذين يشكّلون كتلاً انتخابية نشطة تتقاطع أولوياتها مع سرديات اليمين المتطرف.
بهذا، تتحوّل الجزائر من مجرد ملف خارجي إلى رمز محوري في "معركة الهوية والذاكرة"، حيث يُعاد استحضارها كمحفّز للعاطفة القومية ومسرح للتنافس على "الوفاء للتاريخ"، في مشهد انتخابي فرنسي شعبوي باتت فيه الرموز لا تقل أهمية عن البرامج.