الخرائط لا تموت: من سايكس بيكو إلى حلم أنقرة بعيون أميركية

هل تُفضي إدانة سايكس بيكو إلى تبرئة المشروع العثماني؟ وهل يمكن لغبار المظلومية المتأخّرة أن يُخفي حقيقة أنّ هذا المشروع نفسه، في سنواته الأخيرة، كان يتنفّس عبر آليات التتريك، والتهميش؟

  • هل يُراد تفكيك إرث سايكس بيكو لإعادة تركيبه على مقاس النزعة العثمانية الجديدة؟
    هل يُراد تفكيك إرث سايكس بيكو لإعادة تركيبه على مقاس النزعة العثمانية الجديدة؟

في لحظة تعجُّ بالتصدّعات الجيوسياسية، خرج توماس باراك — الذي يجمع بين موقعين شديدَي الحساسية: السفير الأميركي لدى تركيا والمبعوث الخاصّ إلى سوريا — بتصريح لافتٍ حول اتفاقية سايكس بيكو، بدا في ظاهره نوعاً من الاعتراف المتأخّر بخطيئة تاريخية ارتكبتها القوى الاستعمارية. لكنّ التوقيت، والموقع، والسياق، تُحيل هذا التصريح من مجرّد "إدانة أخلاقية" إلى إشارة مقلقة لتحوّل في العقيدة الجيوسياسية الأميركية.

لم تكن سايكس بيكو يوماً مجرّد اتفاقية لتقسيم الأرض، بل كانت لحظة فاصلة أُجهض فيها الحلم العثماني من جهة، وتكسّر فيها مشروع النهضة العربي من جهة أخرى. واليوم، حين يُستدعى هذا الشبح من قبل واشنطن على لسان رجلها في أنقرة ودمشق، فإنّ السؤال لا يتعلّق بالماضي، بل بالمستقبل:

هل نحن أمام لحظة اعتراف أم لحظة إعادة تدوير؟ هل يُراد تفكيك إرث سايكس بيكو لا لمصلحة الشعوب، بل لإعادة تركيبه على مقاس النزعة العثمانية الجديدة، حيث تتقدّم تركيا كقوة وصاية إقليمية تحت غطاء من المظلوميّة؟

إنّ هذا التصريح، في جوهره، لا يُنصف التاريخ بل يستدعيه كسلاح، يوظّف الرمزية ضدّ الخرائط الحالية، ويُشرعن أحلام الهيمنة من جديد.

وفي هذا السياق، يصبح حديث باراك حلقة جديدة في سردية كبرى تتشكّل في الخفاء، حيث تُعاد صياغة الشرق الأوسط لا بأيدي الاستعمار القديم، بل بأدوات المصلحة المعاصرة، وبأوهام الخلافة التي تنكّرت في هيئة شريك استراتيجي للغرب، لكنها لا تزال تسعى لوراثة خرائط ميتة ودفن أخرى حية.

سايكس بيكو بين سردية النهضة وحنين السلطنة

منذ وُقّعت في الظلّ عام 1916، ظلّت اتفاقية سايكس بيكو تُشكّل علامة سوداء في ذاكرة التيارات القومية العربية، باعتبارها المؤامرة الكبرى التي مزّقت الجغرافيا وقهرت الإرادة الوطنية. غير أنّ هذه القراءة، وإن كانت مشروعة في سياقها، تغضّ الطرف عن حقيقة تاريخية موازية: أنّ الاتفاقية لم تكن فقط مؤامرة على العرب، بل عملية دفن معلنة للمشروع العثماني الذي تحوّل في سنواته الأخيرة إلى إمبراطورية مريضة تتشبّث بالسلطة وتحتكر القرار وتُقصي القوميات غير التركية.

بهذا المعنى، لم يكن التقسيم مجرّد خيانة، بل تصفية متبادلة بين الإمبراطوريات الصاعدة والإمبراطورية المتداعية، حيث استُخدمت الجغرافيا كسلاح، والخرائط كمقصلة. واليوم، حين يُعاد استدعاء سايكس بيكو، لا يُراد تصحيح ذلك المسار، بل إحياء الإمبراطورية المدفونة بلبوس سياسي جديد، تحاول فيه أنقرة الظهور كوصي على المشرق، لا بوصفها بديلاً عن الاستعمار، بل كنسخته المعدّلة.

باراك يعيد فتح الجرح العثماني باسم "العدالة الجغرافية"

حين يصرّح توماس باراك، بصفته سفيراً في أنقرة ومبعوثاً إلى دمشق، بأنّ "سايكس بيكو قسّمت سوريا والمنطقة لتحقيق مكاسب إمبريالية لا من أجل السلام"، فإنّه لا يكتفي بإدانة ماضٍ استعماري، بل يُفكّك — ربما من دون أن يُعلن — الشرعية السياسية التي بُنيت عليها كيانات ما بعد العثمانية.

هذه اللغة تنسجم بدقة مع الرواية التركية الرسمية التي تُحمّل انهيار الدولة العثمانية مسؤولية "تآمر الغرب" على قلب العالم الإسلامي، حيث تُصوّر سايكس بيكو كطعنة خيانة، لا مجرّد اتفاق حدودي. وفي هذا السياق، لا تأتي تصريحات باراك كاجتهاد فردي، بل كرأس جسر رمزي يُمهّد لتوسيع الخيال العثماني تحت مظلة شرعية دولية.

إنّ "الإدانة الناعمة" التي يطلقها الدبلوماسي الأميركي تتحوّل إلى ذخيرة رمزية في يد مشروع يستهدف ليس فقط استعادة الدور التركي، بل إعادة قولبة الجغرافيا من جديد، بحيث تتحوّل الحدود إلى ساحة للمراجعة لا إلى خطوط للمناعة.

وهكذا، يفتح باراك الباب مجدّداً أمام ما يمكن تسميته "العدالة الجغرافية بصيغة عثمانية"، حيث يُعاد التاريخ إلى الطاولة، لا لمساءلة الخرائط فحسب، بل لإعادة هندستها بما يُرضي شهية النفوذ ويُعيد رسم مراكز القرار.

من اعتراف التقسيم إلى إحياء السلطنة بصيغة الاستقرار

لم تكن تصريحات باراك، ولا تحرّكات الإدارة الأميركية الأخيرة في سوريا، تعبيراً عن مراجعة أخلاقية لتاريخ الاستعمار، بل تمهيداً ناعماً لإعادة صياغة أدوار اللاعبين الإقليميين، وعلى رأسهم تركيا. فالتقارب الأميركي مع حكومة أحمد الشرع، المدعومة تركياً، لا يمكن قراءته بمعزل عن رغبة واشنطن في تمكين أنقرة من تصدّر مشهد المشرق، بوصفها الوريث المقبول لمرحلة ما بعد سايكس بيكو.

هذا الدور التركي الجديد لا يكتفي بتقديم أنقرة كضامن أمني، بل يسعى لتكريسها كقوة وصاية سياسية، تُعيد إنتاج مشروعها العثماني بملامح معاصرة. واللافت أنّ هذا التموضع لا يجري بقوة السلاح فقط، بل بمباركة دبلوماسية أميركية تتذرّع بـ "إعادة الاستقرار"، فيما تُعيد ترسيم المشهد الإقليمي وفق خريطة ذهنية تستدعي إرث الباب العالي.

وهكذا، تلتقي النيّات الأميركية التي تُجيد الاستثمار في الفراغ، مع شهيّة تركيّة لم تتوقّف عن الحنين إلى المركز، بينما تتراجع أدوار عربية كانت — نظرياً — حجر الأساس في معادلة توازن المشرق.

حين ترسم واشنطن الخرائط بظلٍ تركي

لم يكن تعيين توماس باراك سفيراً في أنقرة ومبعوثاً إلى دمشق قراراً إدارياً بريئاً، بل تجسيداً دقيقاً لمناورة استراتيجية أميركية تستند إلى القاعدة الآتية: ارسم خريطة الشرق من موقع القوة، ولكن بخط يد غيرك.

ففي لحظة فراغ إقليمي وتصدّع في موازين الردع، توكل واشنطن لأنقرة دور "المنسّق الإقليمي"، فتمدّ لها جسور الشرعيّة في الشمال السوري، وتُضفي على حكومة أحمد الشرع طابعاً واقعياً بحكم الأمر الواقع. هكذا، تتحوّل ازدواجية باراك إلى أداة مزدوجة: تُربّت على الكتف التركية من جهة، وتُبارك سحب الشرعيّة من النظام الساقط في دمشق من جهة أخرى.

والنتيجة ليست فقط خريطة جديدة، بل منطق جديد في صناعة الحدود: حدود لا تُرسم في المؤتمرات، بل تُبتلع ميدانياً ثم تُشرعن دبلوماسياً. وبينما تنشغل الشعوب بلعق جراحها، تكون الخرائط قد فُرشت مجدّداً، ولكن بلون مختلف.

من تقويض سايكس بيكو إلى تصفية إرثه الهاشمي

لا تقف تصريحات باراك عند حدود "التشخيص التاريخي"، بل تندرج — وفق قراءات متقدّمة — في سياق أوسع يُمهّد لتشكيل تحالف إقليمي جديد، تتقاطع فيه أجندات تركيا وقطر والسعودية، تحت سقف هندسة أميركية، وبمشاركة متنامية للكيان الصهيوني كفاعل "شرعيّ" في معادلات المنطقة.

في هذا التصوّر، لم تعد سايكس بيكو المشكلة، بل بات إرثها العقبة. ومن هنا، يصبح تفكيك آثار الاتفاقية — بما في ذلك النظام الهاشمي في الأردن — خطوة ضرورية لإعادة توزيع النفوذ الرمزي والسياسي، حيث لا يبقى للمقدّسات وضعها التاريخي، بل تُعاد وصايتها وفق خطوط التحالف لا حدود السيادة.

ويذهب بعض المحلّلين إلى حدّ التأكيد أنّ الوصاية الهاشمية على المسجد الأقصى قد تكون في طريقها إلى الزوال، تمهيداً لإرساء وصاية سعودية تتماشى مع منطق "الشرق الأوسط الجديد"، حيث تتحوّل القدس من رمز للمقاومة إلى بند في مفاوضات تقاسم الأدوار.

حين يُستخرج التاريخ كسلاح أبيض

لم تعد سايكس بيكو مجرّد وثيقة في أرشيف المأساة العربية، بل تحوّلت إلى مرآة تعكس لحظة إعادة التشكّل الجيوسياسي، حيث تُستدعى الخيبات الكبرى لا بوصفها دروساً، بل بوصفها ذرائع لتبرير خرائط جديدة.

فتصريحات باراك، في ظلّ منصبه المزدوج وموقعه بين أنقرة ودمشق، ليست استذكاراً بريئاً لاتفاق استعماري، بل هي تعبير دقيق عن لحظة مفصلية يجري فيها تسويق العثمانية كبديل ناعم للاستعمار الغربي، لا بصفته استمرارية مباشرة، بل باعتباره حلاً وسطاً "إسلامياً-ليبرالياً" يقبله الغرب ويطمئن إليه.

بهذا المعنى، تصبح الإدانة الأميركية لسايكس بيكو ليست إنصافاً للشعوب، بل تصفية حساب متأخّرة مع خريطة أجهضت الحلم العثماني ذات يوم، وتعبيداً ناعماً لطريق بعثه، بلسان تركي ولكن بعباءة التحالفات الإقليمية. فحين يُستخرج التاريخ كسلاح أبيض، لا يكون الغرض من النبش هو الفهم، بل الفتح مجدّداً — وإن بلغة مغايرة.

سؤال المرايا المشروخة: هل تبرّئ المظلومية الاستبداد؟

في زحمة الاستدعاء الانتقائي للتاريخ، يفرض السؤال الأخلاقي والسياسي نفسه بإلحاح:

هل تُفضي إدانة سايكس بيكو إلى تبرئة المشروع العثماني؟ وهل يمكن لغبار المظلومية المتأخّرة أن يُخفي حقيقة أنّ هذا المشروع نفسه، في سنواته الأخيرة، كان يتنفّس عبر آليات التتريك، والتهميش، وقمع التعدّد، ما دفع الشعوب العربية إلى أحضان الفكرة القومية؟

ما يجري اليوم يبدو — في جوهره — استبدال سردية استعمارية بأخرى محدّثة، تختلف في اللسان وتشترك في الجوهر: مركزٌ واحد، وشعوب هامشية، وخريطة لا تعترف إلا بمنطق القوة، لا بحقوق المكوّنات.

... فهل ننتبه ونحن نُساق إلى خرائط جديدة، أم نكتشف بعد فوات الأوان أنّ المأساة ليست في من رسم الخرائط، بل في من أعاد إحياءها تحت اسم "الاستقرار"؟

أما أنا، كمن عاش عقوداً يرقب تقاطعات الجغرافيا والتاريخ، فلا أرى في هذه اللحظة سوى انعكاس لمرآة قديمة: تتغيّر فيها الوجوه، لكن تُستنسخ فيها الخطايا.