الخطة الأميركية لغزة: بين الضغوط الإنسانية والتحولات السياسية الكبرى

الخطة الأميركية  تفتح الباب أمام نقاشات جديدة حول طبيعة الإدارة المدنية والإنسانية للقطاع، ما يمنح الدول العربية فرصة حقيقية للتأثير على المعايير الحاكمة لليوم التالي.

0:00
  • الرئيس الأميركي فاجأ نتنياهو بفتح قنوات تفاوض مع طهران.
    الرئيس الأميركي فاجأ نتنياهو بفتح قنوات تفاوض مع طهران.

مع اقتراب زيارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى المملكة العربية السعودية، كأول زيارة خارجية له بعد عودته إلى البيت الأبيض، تمّ تقديم خطة أميركية جديدة لإدخال المساعدات إلى غزة عبر آلية وصفت بـ"غير التقليدية"، تقترح إنشاء كيان مستقل باسم "لجنة غزة" لإدارة العملية، ويجري تداول اسم "ديفيد بيزلي"، المدير السابق لبرنامج الأغذية العالمي، كمرشّح لرئاستها.

تهدف الخطة إلى إنشاء نظام توزيع مساعدات تديره جهات خاصة بتمويل دولي وخليجي، مع دور إشرافي للولايات المتحدة وغطاء أمني من "الجيش" الإسرائيلي، من دون إشراك مباشر للأمم المتحدة أو وكالة إغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "الأونروا".

وبينما تبدو الخطة ظاهرياً إنسانية، فإنّ تفاصيلها وتوقيتها يطرحان أسئلة كبرى حول الأهداف الحقيقية الكامنة خلفها، خاصة في ظلّ تحوّلات ملحوظة في السياسة الأميركية تجاه "إسرائيل"، وارتفاع الأصوات الدولية المطالبة بوقف الحرب وتحذيرات المؤسسات الدولية بحدوث مجاعة في غزة.

تأتي الخطة الأميركية الإغاثية في سياق إقليمي ودولي معقّد، يتخلّله توتر متزايد في العلاقة بين ترامب ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو.

فالرئيس الأميركي فاجأ نتنياهو بفتح قنوات تفاوض مع طهران من دون تنسيق مسبق، كما عارض شنّ هجمات إسرائيلية على منشآت نووية إيرانية، وسرّب ذلك للإعلام، ورفع الغطاء عن الحرب ضدّ أنصار الله في اليمن، من دون اشتراط وقف هجماتهم على "إسرائيل". هذا السلوك يعكس رؤية أميركية ترى في نتنياهو عقبة أمام مشروع استراتيجي أوسع للولايات المتحدة في الشرق الأوسط.

من جهة أخرى، يسعى ترامب إلى استقطاب استثمارات خليجية ضخمة تفوق التريليون دولار لدعم الاقتصاد الأميركي، وتحييد الأثر السلبي لقراراته برفع الضرائب على الواردات، والتي فتحت الباب لمواجهة تجارية مفتوحة مع الصين. وفي هذا السياق، تبدو الخطة الأميركية لغزة جزءاً من إعادة بناء العلاقة الأميركية مع العالم العربي، على قاعدة الشراكة الاقتصادية والسياسية، بعيداً عن الإملاءات الإسرائيلية، الأمر الذي يؤكّده، اعلان ترامب عن فصل الموافقة الأميركية عن المشروع النووي السعودي المدني عن مسار التطبيع مع "إسرائيل".

وفي ضوء هذه التطوّرات، يمكن استخلاص ثلاثة ملامح مركزية تُشكّل الإطار السياسي الأميركي الجديد للشرق الأوسط الذي أُعلنت فيه الخطة الأميركية لغزة:

أوّلاً، لم تعد "إسرائيل" الطرف الوحيد الذي يملي شروط اللعبة في الشرق الأوسط، بل تحوّلت إلى موقع المتلقّي أمام صفقات أميركية كبرى تُصاغ من دون مشاركتها الكاملة.

ثانياً، هناك رغبة أميركية واضحة في تعزيز مكانة السعودية كقطب مستقل في العلاقة مع واشنطن، ما يمنحها فرصة للتأثير المباشر في الملف الفلسطيني من دون المرور عبر البوابة الإسرائيلية.

ثالثاً، بات من الواضح أنّ أمن "إسرائيل" لم يعد مبرّراً كافياً – في عيون ترامب – لتعديل أو عرقلة تفاهماته مع لاعبين إقليميين أساسيين كإيران وأنصار الله في اليمن.

هذه المعادلات مجتمعة تُبرز حجم التحوّل في الرؤية الأميركية للمنطقة، وتفتح هوامش نافذة استراتيجية أمام الأطراف العربية لصياغة دور جديد أكثر تأثيراً في اليوم التالي لغزة.

قد تشكّل الخطة الأميركية مدخلاً للضغط على "إسرائيل" لإنهاء الحرب عبر صيغة أميركية مقبولة دولياً، تتجاوز لغة "اليوم التالي" الإسرائيلية الضيّقة، المحصورة في تصوّر احتلالي وإحلالي صرف، يقوم على السيطرة الكاملة على غزة، وإقامة إدارة عسكرية مرنة على من تبقّى من سكانها بعد التهجير الواسع.

أضف إلى ذلك، أنّ الخطة الأميركية  تفتح الباب أمام نقاشات جديدة حول طبيعة الإدارة المدنية والإنسانية للقطاع، ما يمنح الدول العربية فرصة حقيقية للتأثير على المعايير الحاكمة لليوم التالي، خصوصاً إذا نجحت في فرض مرتكزات الخطة المصرية كإطار ملزم لأيّ إعادة إعمار.

فقد سبق للجامعة العربية أن تبنّت رسمياً خطة مصرية لإعادة إعمار غزة، تقوم على دعم وحدة الأراضي الفلسطينية، ورفض التهجير أو إعادة تشكيل الواقع السياسي والديموغرافي في القطاع.

في المقابل، لا يمكن إغفال التهديدات الكامنة في بنية الخطة. أوّلها، أنها تستبعد الأونروا، وتستبدلها بكيانات خاصة تحت مظلة أميركية-إسرائيلية، ما يُنظر إليه كخطوة عملية باتجاه تصفية قضية اللاجئين الفلسطينيين. وهذا يبرّر رفض الأمم المتحدة رسمياً الخطة، معتبرة أنها لا تستوفي المعايير الإنسانية الأساسية المتمثّلة في الحياد، والاستقلالية، وتوزيع المساعدات من دون تدخّل سياسي. كما حذّر مسؤولون أمميون من أنّ توزيع المساعدات عبر آلية مدعومة من "الجيش" الإسرائيلي قد يعرّض طواقمهم للخطر.

التهديد الثاني يتعلّق بتسييس المساعدات وتحويل الخطة من مشروع إنساني إلى أداة للضغط السياسي، بل وربما للترحيل الصامت.

وفي هذا السياق، يصبح من الذكاء السياسي أن يطالب العرب بتضمين ركائز هذه الخطة المصرية في الهيكلية التنفيذية للخطة الأميركية، بما يمنع انزلاقها إلى أدوات تهجير ناعمة أو تصفية سياسية للقضية الفلسطينية. والسعودية، بصفتها الدولة العربية المركزية، تملك هامش تأثير على بنية الخطة من خلال علاقتها الخاصة بترامب، ودورها في ترتيب التمويل الخليجي المشروط.

الخطة الأميركية لغزة لا يمكن أن تلبّي الحقوق الفلسطينية الجوهرية بالكامل، ولا الولايات المتحدة الأميركية هي الدولة المنوط بها فعل ذلك، بل هي شريك للاحتلال الإسرائيلي، لكنّ السياسة كثيراً ما تُبنى على اختيار الأقل سوءاً من بين الخيارات السيئة المتاحة. وإذا كان التهجير والحصار والإبادة الجماعية و المجاعة هي السيناريوهات البديلة، فإنّ فرض صيغة دولية – حتى وإن لم تكن مثالية – قد يكون مدخلاً لحماية ما تبقّى، والبناء عليه.

نجاح هذه الخطة سيعتمد على حجم الضغط الأميركي على "إسرائيل"، ومدى القدرة العربية – ولا سيما السعودية، فضلاً عن قدرة العرب على تجنيد المواقف الأوروبية لصالح غزة، خصوصاً الفرنسية، التي ترفض استمرار الحرب وتدعم بقاء سكان غزة في أرضهم.

وعلى الجميع أن يستشعر ثقل وخطورة اللحظة التاريخية، إنها لحظة مفصلية، قد تحدّد ليس فقط مستقبل غزة، بل طبيعة النظام الإقليمي المقبل برمّته.