الصراع في أميركا: أبعد من قانونَي "التمرد" و"بوسيه كوميتاتوس"

يقوم ترامب بخطة واضحة لتقليص الاعتراض داخل إدارته، ولتحسين قدرته على فرض أجندته السياسية، ويظهر ذلك من خلال عملية التطهير الواسعة التي حصلت في المؤسسات الفيدرالية.

0:00
  • الولايات المتحدة تشهد موجة احتجاجات وإخلال بالأمن.
    الولايات المتحدة تشهد موجة احتجاجات وإخلال بالأمن.

تتحضر التيارات المعارضة لدونالد ترامب، سواء من الديمقراطيين أو سواهم، لتظاهرات حاشدة بعنوان "يوم- لا ملوك"، وذلك خلال الاستعراض العسكري الذي سيقام في 14حزيران/ يونيو 2025، بالتزامن مع ذكرى 250 عاماً على تأسيس الجيش الأميركي. ويهدف هؤلاء من الاستعراض العسكري (وهو نادر الحدوث في الولايات المتحدة الأميركية) إلى إظهار "النزعة الملكية الجديدة" لدونالد ترامب، وتحويل رمزية الجيش إلى أداة سياسية تُستخدم في ترهيب الخصوم وتكريس النزعة السلطوية، وإسكات المعارضين في الداخل.

وتشهد الولايات المتحدة موجة احتجاجات وإخلال بالأمن، عقب مداهمات نفذتها إدارة الهجرة والجمارك، استهدفت مهاجرين غير نظاميين، خصوصاً في مدينة لوس أنجلوس في كاليفورنيا.

وفرضت السلطات المحلية حظر تجوّل في عدد من المدن، ووقعت اشتباكات بين المتظاهرين والشرطة. وقامت إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب بنشر قوات الحرس الوطني ومشاة البحرية في لوس أنجلوس، الأمر الذي وصفه حاكم كاليفورنيا، غافين نيوسوم، بأنه تجاوز سلطوي وانتهاك لسيادة الولاية.

- الإطار القانوني للنزاع بين ترامب وحاكم كاليفورنيا:

الإطار القانوني الذي يحكم هذا الخلاف هما قانونان مترابطان، ولكن مختلفان وهما: قانون التمرد (1807) وقانون بوسيه كوميتاتوس (1878).

الفرق بين قانون التمرد وقانون بوسيه كوميتاتوس

من المهم توضيح أن هناك خلطاً شائعاً بين قانون التمرد (Insurrection Act) وقانون بوسيه كوميتاتوس (Posse Comitatus Act)، رغم أنهما قانونان منفصلان ويؤدي كل منهما وظيفة مختلفة تماماً في النظام القانوني الأميركي.

قانون التمرد، الذي أُقرّ عام 1807، يتيح للرئيس الأميركي استخدام القوات المسلحة الفيدرالية داخل الولايات المتحدة في حالات التمرد أو العنف الذي يعوق تطبيق القانون، ويمكن تفعيله حتى من دون موافقة حاكم الولاية في ظروف محددة.

في المقابل، قانون بوسيه كوميتاتوس، الصادر عام 1878، وُضع للحد من استخدام الجيش في الشؤون المدنية، ويُعدّ بمنزلة حامٍ لمبدأ فصل السلطات والحريات المدنية، إذ يمنع القوات الفيدرالية - ولا سيما الجيش الأميركي- من المشاركة في تطبيق القانون داخل البلاد إلا بموجب استثناءات قانونية محددة، مثل تلك التي يمنحها قانون التمرد.
وبالتالي، فإن القانونين لا يتعارضان من حيث المبدأ، لكن استخدام أحدهما (قانون التمرد) هو ما يسمح قانونياً بتجاوز قيود الآخر (قانون بوسيه كوميتاتوس).

حدود القانون العسكري: قانون بوسيه كوميتاتوس

يحظر هذا القانون استخدام الجيش في إنفاذ القوانين داخل الأراضي الأميركية. ومع ذلك، يمكن للرئيس تجاوزه عبر:

قانون التمرد.

دعم حماية الممتلكات الفيدرالية، وهو ما استخدمه ترامب لتبرير نشر المارينز.

وينص قانون التمرد أنه "عندما يحدث تمرد في أي ولاية ضد حكومتها، يجوز للرئيس، بناء على طلب مجلسها التشريعي أو حاكمها، إذا لم يتمكن المجلس التشريعي من الانعقاد، استدعاء قوات من ميليشيا الولايات الأخرى إلى الخدمة الفيدرالية، بالعدد الذي تطلبه تلك الولاية، واستخدام القوات المسلحة التي تراها ضرورية لقمع التمرد".

وخوفاً على الحريات الفردية التي يقدسها الأميركيون، يحظر "قانون بوسيه كوميتاتوس" على القوى العسكرية الفيدرالية – في الأوقات العادية- المشاركة في إنفاذ القانون المدني في الولايات. وبالرغم من هذا الحظر، فإن قانون "التمرد" استخدم 30 مرة منذ 1807، من أبرزها:

أ‌- الحرب الأهلية الأميركية بأمر من الرئيس لينكولن (1861- 1865).

ب‌- حماية الطلاب السود في ليتل روك، أركنساس بأمر من الرئيس أيزنهاور (1957).

ت‌- حماية مسيرة الحقوق المدنية في ألاباما بأمر من الرئيس ليندون جونسن (1965).

ث‌- قمع أعمال الشغب في لوس أنجلوس (1992) بناءً على طلب حاكم الولاية.

ج‌-  هدد الرئيس ترامب باستخدامه عام 2020 خلال احتجاجات جورج فلويد، لكنه لم يُفعّله.

وحالياً، استند ترامب إلى المادة 10 U.S.C. § 12406 التي تخوّل الرئيس نشر الحرس الوطني (من دون موافقة حاكم الولاية) في حالات تمرد أو تعذر تنفيذ القوانين بالقوات النظامية.

 السياسة أبعد من القانون

لا شكّ، تعكس هذه التظاهرات الاستقطاب السياسي الحاد الذي يطبع المجتمع الأميركي، والخلاف الذي بات يتخطى الانقسام الحزبي التقليدي في الولايات المتحدة، حيث يستفيد ترامب من "الموجة الحمراء" الساحقة التي حصلت في الانتخابات الأخيرة، لتركيز السلطات في يديه، ومحاربة خصومه ومنعهم من تكرار ما قاموا به خلال فترته الأولى.

يقوم ترامب منذ وصوله إلى البيت الأبيض بخطة واضحة لتقليص الاعتراض داخل إدارته، ولتحسين قدرته على فرض أجندته السياسية، ويظهر ذلك ليس من خلال تحدي حكام الولايات ونشر القوات الفيدرالية من دون إذنهم فحسب، بل في عملية التطهير الواسعة التي حصلت في المؤسسات الفيدرالية، وفي اشتباكه مع الجامعات وآخرها جامعة هارفارد، وما تمّ نشره حول إعادة هيكلة مجلس الأمن القومي، حيث جرت إقالة مستشار الأمن القومي مايك والتز مع عدد من الأعضاء الذين لا يتفقون تماماً مع أجندته، بمن فيهم من يعدّون من أبرز داعمي "إسرائيل" وبنيامين نتنياهو.

في المقابل، يتحرك الديمقراطيون وتيار العولمة، مدعومين بأجنحة من "الدولة العميقة" والمتضررين من سياسات ترامب، في محاولة لعرقلة هذا التوجه ومنعه من تنفيذ أجندته بالكامل، في تكرار لما استطاعوا فعله خلال فترته الأولى حين أغرقوه بالدعاوى القانونية والمظاهرات والاتهامات بالتعامل مع روسيا وغيرها بحيث كبّلوا يديه ومنعوه من تحقيق أجندته في السياسة الخارجية والداخلية.

وبالنتيجة، تشكّل المظاهرات التي انطلقت من كاليفورنيا أكثر من مجرد احتجاجات على الهجرة، بل مؤشراً على اشتباك داخلي حول شكل النظام الأميركي ذاته: هي رأس جبل الجليد في صراع أجنحة داخل الدولة العميقة، وصراع بين ترامب وتيار العولمة، يتخذ عنواناً إعلامياً: "النزاع بين النزعة السلطوية الترامبية من جهة، والتعددية والحريات والفصل بين السلطات من جهة أخرى"، لكنه في الحقيقة صراع أعمق من ذلك بكثير.