الصراع في إقليم تيغراي الإثيوبي وموسم العودة للحرب
تعني عودة موسم الحرب في إقليم تيغراي أنه لا قداسة ولا حصانة لأيّ اتفاق تسوية وسلام ومصالحة يحدث بين الأطراف المتصارعة في القارة الأفريقية حتى وإن كان بوساطة دولة ثالثة كجنوب أفريقيا.
-
انطلاق شرارة الحرب في إقليم تيغراي يعني أنها ستمتدّ إلى عموم دول المنطقة.
أثبتت النظريات السياسية أنّ واحدة من أهمّ التعقيدات التي تواجه الاستقرار السياسي في الدول تتعلّق بالتركيبة العرقية والإثنية. إثيوبيا التي تُعّد ثاني أكبر دولة أفريقية من حيث عدد السكان وتركيبتهم الإثنية والعرقية واحدة من الدول الأفريقية التي تُعبّر عن تلك النظريات، ويُعّد إقليم تيغراي الإثيوبي نموذجاً واضحاً ومُعبّراً عن العلاقة ما بين الاستقرار السياسي والتنوّع السكاني.
يكشف التوتر الحاصل في إقليم تيغراي الإثيوبي معادلة سياسية مفادُها أنّ تأجيل تنفيذ بنود أيّ اتفاق سياسي بالكامل يُفضي إلى انتكاسة في أيّ مصالحة وطنية قد تشهدها الدول ويُعيدها للصراع مرة أخرى.
بدأت قضية إقليم تيغراي الإثيوبي تطفو على السطح عندما تردّت الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية بين عامي 1983-1985 إبّان حكم الرئيس منغستو هايلي ماريام. ونهشت المجاعة آنذاك بنحو 8 مليون مواطن، الأمر الذي أدّى إلى تشكّل معارضة مسلحة للإطاحة بالرئيس منغستو. وكانت في بدايتها معارضة مفكّكة عبارة عن مجموعات مسلحة، حتى عام 1988 عندما عقدت مؤتمراً في السودان، ضمّ ممثّلين عن 14 تنظيماً إثيوبياً مسلحاً، اتحدت وأعلنت أنها ستقاتل لإسقاط منغستو، وأعطيت قيادة التحالف لجماعة التيغراي.
وتُشكّل جماعة التيغراي نحو 6% من سكان إثيوبيا، و99% من سكان إقليم تيغراي؛ وأصبحت تسيطر على الساحة السياسية في إثيوبيا منذ الإطاحة بمنغستو هيلا مريام عام 1991، لكنّ نفوذهم تراجع عقب تولّي أبي أحمد السلطة عام 2018، حتى انسحبت "جبهة تحرير شعب تيغراي" من الائتلاف الحاكم في 2019. وبات الصراع الضابط للعلاقة والسمة الأبرز في المشهد السياسي للإقليم.
شهد إقليم تيغراي بين تشرين الثاني/نوفمبر 2020؛ وتشرين الثاني/نوفمبر 2022؛ أحد أحدث الصراعات بين الجيش الفيدرالي؛ مدعوماً بقوات من إريتريا، من جهة، ومتمرّدي جبهة تحرير شعب تيغراي من جهة ثانية. وأدّى الصراع الدائر إلى مقتل نحو 600 ألف شخص في هذه المنطقة. انتهى الصراع بالتوصّل إلى اتفاق سلام أُبرم في بريتوريا بجنوب أفريقيا في تشرين الثاني/نوفمبر 2022، لكنّ التأخير في تنفيذ بنود الاتفاق لعدة أشهر حرّك التوترات المتزايدة داخل جبهة تحرير شعب تيغراي التي تحكم المنطقة، والتي كانت مهيمنة على الحكومة المركزية في إثيوبيا. الأمر الذي وضع الإقليم على حافة الحرب من جديد. ولا سيما أنّ اتفاق السلام المبرم لم يخلُ من حسابات سياسية داخلية وإقليمية؛ بقيت تتربّص بالاستقرار المؤقت.
بدأ التطوّر الأبرز والأحدث والمختلفة أطرافه هذه المرة لعودة الصراع الذي يشهده إقليم تيجراي في مطلع آذار/مارس 2025، لكنه هذه المرة لم يكن بين جبهة التيغراي والحكومة المركزية الإثيوبية، لقد أصبح صراعاً بين فصيلين متناحرين داخل جبهة تحرير شعب تيغراي.
تشكّلت حيثيات الصراع بعد أن عيّنت الحكومة الفدرالية السياسي غيتاتشو رضا رئيساً للإدارة المؤقتة، والذي واجه معارضة شرسة من ديبريتسيون جبريمايكل، القائد السابق للجبهة. وبلغ التصعيد ذروته عندما سيطرت القوات الموالية لديبريتسيون في 11 آذار/مارس 2025؛ على مدينة أديغرات، ثاني كبرى مدن الإقليم، بعد أن أوقفت إدارة غيتاتشو أربعة من كبار القادة العسكريين لقوات جبهة تحرير تيغراي.
ورداً على توقيف القادة، قامت مجموعات عسكرية تابعة لقوات الجبهة، التي لم يكتمل تسريحها بموجب اتفاق سلام بريتوريا، بالسيطرة على عدد من الإدارات الحكومية في عدد من المدن، واندلعت مواجهات مع موالين لرئيس الإدارة المؤقتة للإقليم.
غير أنّ فصيل زعيم جبهة تحرير تيغراي، ديبريتسيون جبريميكايل، صعّد الأزمة بالسيطرة على محطة "مقلي" الإذاعية ومكتب رئيس البلدية في عاصمة الإقليم، في الوقت الذي كان فيه غيتاتشو رضا في العاصمة الإثيوبية أديس أبابا لعقد مؤتمر صحافي حول مجريات الأحداث، ولقاء رئيس الوزراء الإثيوبي. وفي المؤتمر الصحافي، اتهم غيتاتشو زعيم جبهة تحرير تيغراي، ديبريتسيون، بشنّ انقلاب على الإدارة المؤقتة للإقليم، التي تمّ تشكيلها بموجب اتفاق بريتوريا للسلام بين الحكومة الإثيوبية وجبهة تحرير تيغراي.
شرارة التصعيد تلك باتت تُنذر بعودة موسم الحرب في ظلّ التدخّلات الدولية والإقليمية في عموم منطقة القرن الأفريقي وليس في إقليم تيغراي الإثيوبي فقط. وفي عين العاصفة بين إثيوبيا وإرتيريا.
انطلاق شرارة الحرب في إقليم تيغراي يعني أنها ستمتدّ إلى عموم دول المنطقة لا بفعل الامتدادات العرقية والإثنية، أو الحسابات السياسية الإقليمية والدولية فقط، ولكن لأنّ المعطيات والبيانات تلوح بذلك. فهذا الجنرال تسادكان غيبريتنسا، أحد قادة قوات تيغراي، يتحدّث علناً عن احتمال اندلاع حرب جديدة "في أيّ لحظة"، بينما صرّحت الحكومة الإريترية بأنّ إثيوبيا تشنّ حملة سياسية وإعلامية ضدّها.
إن تفجّر الصراع الحاصل في إقليم تيغراي بمختلف أطرافه ومكوّناته يعني العودة إلى موسم الحرب، ويعني ترسيخ ظاهرة استقواء الأطراف الداخلية المتصارعة بقوى إقليمية طامحة لتأدية دور سياسي وطامعة في مقدّرات المنطقة، ويبدو أنّ هذه الفرضيّة حاصلة ومتحقّقة من خلال تبادل الاتهامات بين الأطراف المتصارعة في الإقليم ولا سيما بين إريتريا وإثيوبيا. وقد حذّر الفريق صادقان جبر تنسائي، نائب رئيس الإدارة المؤقتة لإقليم تيغراي، من أنّ الحرب بين إثيوبيا وإريتريا "تبدو حتميّة"، مشيراً إلى أنّ الاستعدادات العسكرية بلغت "مراحلها النهائية".
وقال تنسائي، الذي كان رئيساً لأركان الجيش الإثيوبي وقاد الحرب الإثيوبية الإريترية بين عامي 1998-2000، إنّ صراع السلطة الحالي في تيغراي جعل الإقليم محوراً رئيسياً لصراع وشيك مع إريتريا، قد يمتدّ ليشمل المنطقة بأكملها، بما في ذلك السودان، ويؤثّر على أمن البحر الأحمر بشكل مباشر. وأنّ الحرب "ستؤدّي إلى إعادة رسم الخريطة السياسية للقرن الأفريقي على حدّ وصفه.
ويتهم رئيس الإدارة المؤقتة لإقليم تيغراي قادة عسكريين موالين لزعيم جبهة تحرير تيغراي بالتواصل مع إريتريا والتنسيق معها لإسقاط الحكومة الإثيوبية من خلال تحالف ثلاثي يضمّ القوات الإريترية، وقوات جبهة تحرير تيغراي، ومجموعات "الفانو" في إقليم أمهرة.
وبالتالي لن يقتصر التصعيد في إقليم تيغراي على حدود منطقة جغرافية بعينها يمكن احتواؤها، فالإقليم الواقع شمال إثيوبيا، تحدّه من الشمال إريتريا ومن الشرق عفر ومن الجنوب إقليم أمهرة ومن الغرب السودان، ويحدّ ولايتين من الولايات السودانية (كسلا والقضارف) المضطربتين أصلاً؛ بسبب انتشار النزاعات القبلية فيهما.
وعليه تميل المؤشرات الحاصلة والمعطيات الميدانية إلى أنّ الخيارات المتاحة أمام الأطراف المعنية في الحكومة المركزية في إثيوبيا وفي جبهة تحرير شعب تيغراي محدودة وأنّ سيناريو التدحرج باتجاه الحرب ممكن ووارد؛ إذا لم تُسارع الأطراف المتصارعة للجلوس إلى طاولة المفاوضات واستدراك الأمر. سيتحوّل الصراع على السلطة بإقليم "تيغراي"؛ بين الفصيلين المتناحرين إلى حرب إقليمية شاملة تهدّد استقرار جُلّ دول منطقة القرن الأفريقي.
إن تدحرج الصراع وتمدّده خارج جغرافيا إقليم تيغراي، من أهمّ محدّداته ودوافعه الموقع الجيوسياسي لمنطقة القرن الأفريقي في أجندات الاهتمام والتنافس الدولي روسيا والصين والولايات المتحدة الأميركية وبعض الدول العربية، ثمّ التوتر المستتر بين إثيوبيا وإريتريا وطموح رئيس الوزراء الإثيوبي أبي أحمد لإنشاء مرفأ على البحر الأحمر.
تعني عودة موسم الحرب في إقليم تيغراي أنه لا قداسة ولا حصانة لأيّ اتفاق تسوية وسلام ومصالحة يحدث بين الأطراف المتصارعة في القارة الأفريقية حتى وإن كان بوساطة دولة ثالثة كجنوب أفريقيا في اتفاق السلام بين إثيوبيا وجبهة تيجراي. وأنّ الاتفاقات الموقّعة هشّة ويمكن للأطراف الإقليمية الخارجية أن تخترقها وتنسفها وتعبث بالاستقرار السياسي الداخلي.
ستفضي عودة الصراع في إقليم تيغراي الإثيوبي إلى تعطيل جهود التنمية البشرية والاقتصادية التي بدأت القارة الأفريقية تخطو خطواتها الأولى صوبها، وتعني استنزافاً بشرياً واقتصادياً لكلّ الجهود المبذولة أفريقياً من أجل النهوض الاقتصادي والاستقرار السياسي، ومخطط الاستنزاف هذا يخدم الأجندة الغربية الاستعمارية.
الحرب إن عادت في إقليم تيغراي تعني فتح باب التدخّلات الدولية وتوظيف الاختلافات الإثنية والعرقية للجماعات والمكوّنات، ودعمها بالسلاح ليُصبح الاحتكام للقتال هو المسيطر بدلاً من التداول السلمي والاحتكام لصناديق الانتخابات، والاقتتال بين الفرقاء هو النموذج الذي تريد الدول الاستعمارية تصديره وتوظيفه لسرقة مقدّرات الدول الأفريقية، وهناك من يساعدها بقصد ومن دون قصد في ذلك. في حروب لا منتصر فيها.