الهجرة المعاكسة ..مؤشرات داخلية وتحولات استراتيجية

ظاهرة تنامي الهجرة من "إسرائيل" وتحديداً بعد معركة طوفان الأقصى ليست مؤشّراً على ظاهرة اجتماعية فحسب، بل تعكس أزمة فعلية حقيقة يصعب تجاوزها.

0:00
  • زيادة ملموسة في أعداد المستوطنين الذين يغادرون
    زيادة ملموسة في أعداد المستوطنين الذين يغادرون "إسرائيل".

شهدت "إسرائيل" بعد تاريخ السابع من أكتوبر عام 2023، ومع مضي 18 شهراً من الحرب المستمرة في قطاع غزة تحوّلات ديموغرافية لافتة وظواهر تصاعدت بشكل واضح بفعل الظروف التي أفرزتها تلك الحرب، سجّل أبرزها ظاهرة ارتفاع مؤشرات الهجرة من "إسرائيل" إلى الخارج أو ما أطلق عليها الهجرة العكسية وتحديداً إلى الدول الأوروبية، واللافت هنا أنّ هذه الظواهر باتت محلّ رصد ومتابعة من قبل جهات رسمية داخل "إسرائيل" نفسها أظهرت من خلالها قلقاً متزايداً إزاء تداعيات هذه الظواهر وتحديداً ظاهرة الهجرة إلى خارج "إسرائيل" حيث مسقط الرأس الأصلي وفقدان الأمل في المستقبل سياسياً واجتماعياً في آن واحد. 

طبقاً لإحصائيات حديثة صادرة عن مؤسسات متخصصة وبحوث وكتابات موثّقة في "إسرائيل" تشير جلّها إلى بروز ثلاث ظواهر خلال معركة طوفان الأقصى باتت تشكّل خطراً حقيقياً على وجود ومستقبل "إسرائيل".

تشير معطيات حديثة اطلعت عليها وهي تقارير رسمية موثوقة إلى زيادة ملموسة في أعداد المستوطنين الذين يغادرون "إسرائيل" للاستقرار في الخارج، ووفقاً لهذه التقارير في مقارنة دقيقة بين عام 2023 قبل تنفيذ عملية طوفان الأقصى وبداية العام الجاري 2025، فقد ارتفعت معدلات الهجرة بنسبة تصل إلى 45.63%، كما ارتفع عدد المستوطنين المهاجرين في نهاية عام 2024 بمقدار 14.732 مستوطناً مقارنة بعام 2023.

تعزى هذه الزيادة الواضحة إلى مجموعة من العوامل، أبرزها استمرار الحرب على غزة وهو ما يغذّي عدم الشعور بالأمن الشخصيّ للمستوطنين والأمان العامّ داخل "إسرائيل"، وعدم الاستقرار السياسي الداخلي، حيث يعاني النظام السياسي من أزمات متلاحقة واحتجاجات داخلية واسعة، والصعوبات الاقتصادية الناتجة عن الحرب وطول أمدها وما ترتّب عليها من تكاليف اقتصادية باهظة، والتراجع في الحريات العامّة والخوف الكبير من اندلاع حرب إقليمية شاملة، ولا سيما مع تنامي التهديدات الإسرائيلية بضرب إيران واستمرار التوتر مع اليمن.

أما على الصعيد العامّ، فقد وصل عدد المستوطنين المقيمين في الخارج باختيارهم وليس نتيجة ضغوط إلى 630 ألف مستوطن إسرائيلي، وهو ما يعادل 8% من السكان المستوطنين في "إسرائيل"، وهذا رقم يتجاوز المعدّل البالغ 3.6% وفق تقارير أممية، ناهيك عن أنّ من الملاحظات البارزة في هذا السياق هو أنّ 50% من المهاجرين إلى خارج "إسرائيل" في عام 2024 هم من المولودين في الخارج، مقارنة بنسبة 15% فقط قبل طوفان الأقصى، ما يعكس شعوراً متزايداً بالحنين إلى الموطن الأصلي وتراجع الانتماء للوطن الموعود وتزايداً في سيطرة شعور المستقبل المجهول.

ما سبق من معطيات ليست مجرّد أرقام عابرة، بل هي ذات أهمية بالغة تشير إلى دلالات مهمة، إذ لا يمكن اختزال مثل هذه الظاهرة في كونها مجرّد ردّ فعل آني أو عاطفي أو تأثير للحرب المستمرة أو نظراً لظروف أمنية هنا وهناك، بل هي انعكاس حقيقيّ لأزمة وجودية بنيوية أعمق تعكس وتضرب جوهر المشروع الصهيوني على الأرض الفلسطينية، وتعكس حقيقة التصدّعات المتراكمة في بنية "الدولة" والمجتمع الإسرائيلي، لكنها تطرح في الوقت ذاته تساؤلات جوهرية حول مستقبله، وعليه يمكن تفسير مثل هذه الظاهرة بجملة دلالات أبرزها.

الدلالة الأولى/ كما نعلم أنّ المشروع الصهيوني أقيم وتأسس على جملة من الوعود أبرزها أرض الميعاد والأمن والازدهار، لكنّ الواقع الحالي يشير بشكل كبير إلى أنّ اعداداً متزايدة من المستوطنين باتوا يدركون أنّ هذا الوعد أصبح سراباً ووهماً، وهو ما بدأ يدفعهم للعودة إلى مسقط رأسهم الأصلي أو البحث عن بيئات خارجية أكثر أماناً واستقراراً.

الدلالة الثانية/ الانقسامات الداخلية في "إسرائيل" بين المكوّنات الديموغرافية خلقت حالة من التنافر والتفكّك والتأكّل في الشعور الجمعي بالانتماء وهو ما دفع كثيرين لإعادة تقييم علاقتهم بالمشروع الصهيوني، وهذا الحال يعكس بشكل واضح هشاشة العقد الاجتماعي في "إسرائيل".

الدلالة الثالثة/ التغيير الحاصل في البيئة الإقليمية جعل "إسرائيل" غير قادرة على فرض الردع، وتوسّع جبهات المواجهة على مدار أشهر الحرب سواء مع لبنان واليمن وطول أمد المواجهة المستمرة في غزة خلق حالة من الشعور بعدم الأمان، ليس فقط في المستوطنات المحاذية لقطاع غزة أو حتى المحاذية للحدود مع لبنان في الجبهة الشمالية بل حتى في العمق الإسرائيلي ومراكز المدن مثل "تل أبيب".

الدلالة الرابعة/ عنوانها الاقتصاد لم يعد صمام أمان في ظلّ تصاعد وتفاقم الأزمة الاقتصادية وحال الاستنزاف التي أحدثتها الحرب أثّرت على كثير من القطاعات الاقتصادية المهمة مثل الاستثمارات وخلقت واقعاً اقتصادياً معقّداً وخسائر كبيرة في كثير من القطاعات، ما دفع العديد من أصحاب الخبرات والكفاءات للبحث عن أماكن أكثر أماناً خارج "إسرائيل". 

ظاهرة تنامي الهجرة من "إسرائيل" وتحديداً بعد معركة طوفان الأقصى ليست مؤشراً على ظاهرة اجتماعية فحسب، بل تعكس أزمة فعلية حقيقة يصعب تجاوزها كما يصعب تجاوز الأرقام أو الإحصائيات الصادرة في هذا الصدد، أزمة في الهوية والانتماء، وأزمة في انعدام الثقة في المستقبل.

سنن الحياة تقول إذا ما بدأت شعوب تفقد ثقتها بكياناتها السياسية وتهاجر منها طوعاً فإنّ ذلك يعدّ مؤشّراً استراتيجياً مهماً على مرحلة الانحدار التي وصلت إليها "إسرائيل، ومؤشراً إضافياً على تحوّلات اجتماعية سياسية مقبلة ستعيد رسم معادلات الصراع في المنطقة بأكملها، وهي رسالة واضحة أنّ المشروع الصهيوني يواجه مرحلة تأكّل داخلي حيث تتفكّك الروابط التي جمعت المستوطنين كافة من أنحاء العالم.

في ظلّ استمرار الحرب الإسرائيلية على غزة وأمام استمرار القتل والإبادة الجماعية والحصار والتجويع والتدمير باتت هذه السياسة تؤثّر في المشهد الدولي والغربي تحديداً، ومع تصاعد الحراك الإقليمي والدولي الرافض للجرائم الإسرائيلية في قطاع غزة، فإنّ مثل هذه الظاهرة مرشحة للازدياد أكثر، ما سيؤثّر بشكل ملموس على التوازنات الديموغرافية وقدرة "إسرائيل" على الصمود في مواجهة هذا الواقع الجديد الآخذ في التوسّع.

واقع يعكس مؤشّرات تفتح الباب أمام تساؤلات استراتيجية حول مستقبل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي ومستقبله  ومآلاته خاصة مع تأثير فعل المقاومة وتراجع ثقة المستوطنين بمستقبل وحلم "دولتهم" التي أنشئت على أسس القومية والديمقراطية والازدهار.