بين الوهم والإنكار... مساهمة في الجدل حول مستقبل السلاح و"المحور"
حروب العامين الأخيرين، استحدثت تغييراً في موازين القوى، بيد أنها لم تنهِ فريقاً ولم تُعطِ الفريق الآخر يداً عليا، ولا سيما أنها تجري في إقليم، يبيت على وضع ويستيقظ على وضع آخر.
-
عبارة "الحضن العربي" باتت مرادفة لسياسات الاتساق والتساوق مع الأميركيين.
وضعت الجولة الأعنف والأخطر، من المواجهة المباشرة بين إيران وكل من "إسرائيل" والولايات المتحدة، أوزارها، وهدأ غبار القصف الجوي والصاروخي المتبادل... لكن الجدل بين عواصم الأطراف، وفي دواخلها، بشأن "النصر والهزيمة"، ما زال محتدماً... حرب سرديات وروايات اندلعت، ولم تضع أوزارها بعد، لأنها ببساطة، حرب على "الصورة"، مدفوعة بعوامل داخلية شديدة الدقة والحساسية.
"النصر المطلق" أو "التاريخي”، مثله مثل "سحق الكيان وهزيمته"، لا يستدعي احتدام هذا الجدل واستطالة أمده، فالحلال بيّن والحرام بيّن، وبينهما أمور "مشتبهات"، وفي ظني أن نتائج هذه الحرب، تقع في خانة "المشتبهات"، فلا "إسرائيل" أنجزت نصراً تاريخياً مطلقاً، كما يزعم نتنياهو و"عصابته"، ولا إيران سحقت "إسرائيل" أو ألحقت بها هزيمة تكفي لـ"ردعها" على الأقل، كما يقول الخطاب الرسمي الإيراني... أحسب أن ترامب، شخصياً، خرج بصورة نصر، أوضح بكثير من تلك الصور التي خرج بها طرفا الصراع المباشر، إذ نجح في "ضبط الحرب على إيقاعاته"، وبتوقيتاته، وخرج بنتيجتها بتمرين عملي لاختبار نظريته الخاصة بـ"السلام المفروض بالقوة"، حتى وإن كانت تصريحاته مفعمة بالأكاذيب والمبالغات والتقديرات الزائفة، التي لا تقبل التحدي والاعتراض، لا من دوائره القريبة ولا من الدوائر البعيدة.
الحليفتان الاستراتيجيتان لم تنتصرا على إيران، وإيران لم تنتصر عليهما، هي جولة حسمت بالنقاط فقط، لا بالضربة القاضية كما يقال، وما كان لها إلا أن تحسم بهذه الطريقة على أي حال، برغم "أوهام" النصر المطلق عند نتنياهو على نحو خاص... لا إيران اليوم "مردوعة" من قبل هذا الثنائي، ولا "إسرائيل" بدورها "مردوعة" كما يجري التبشير بذلك من قبل بعض أطراف "المحور" والناطقين باسمه... إيران، أطلقت الضربة الأخيرة في هذه الحرب، بيد أن "إسرائيل" كانت قد أرسلت أكثر من خمسين طائرة حربية لضرب أهداف في إيران، أعادها ترامب، "مايسترو" الحرب، قبل أن تُفرغ حمولتها، باستثناء واحدة منها أفرغت صواريخها على "الرادار المهجور".
الهجوم الإيراني على قاعدة "العديد"، يعطي مثالاً على "توازنات ما بعد الحرب"، فالضربة الصاروخية الإيرانية التي استهدفت قاعدة أميركية في "ثاني بلد صديق" لإيران في الخليج بعد عُمان، جاءت "مدروسة" ومُبلّغاً عنها مسبقاً، ما حدا بكثيرين للقول بأنها "مسرحية معدّة سلفاً"، بمعرفة الأطراف الثلاثة ورضاهم، ولكن بفرض الأخذ بهذه النظرية، فإن واشنطن ما كان لها أن تقبل بإخلاء إحد أكبر قواعدها في العالم، وارتضاء ضربها بعدة صواريخ، لولا استشعارها الحاجة، للتعامل مع الحسابات والحساسيات الإيرانية، وهذا فعل لا يقدم عليه "المنتصر" مع "المهزوم"... وإيران في المقابل، ما كان لها أن ترتضي بهذا القدر الخفيض من رد الفعل على ضرب "درر التاج النووي" الخاص بها، لولا اعتقادها بأن ثمة حدوداً لما يمكن أن تذهب إليه... ربما تكون الدوحة قد وفرت مخرجاً للطرفين المتحاربين، وربما تكون اشترت في المقابل، زخماً غير مسبوق، لدورها في ميادين الوساطة والحوار وفض النزاعات، وهو دور يتخطى الإقليم، إلى نزاعات بعيدة، كما اتضح في "صفقة سلام" رواندا والكونغو الديمقراطية.
يعني ذلك من ضمن ما يعني، أن أوهام النصر والسحق والانتصار، وهيمنة حالة "الإنكار"، تبدو "مفهومة"، لأغراض تعبوية وسياسية، داخلية بالأساس، فيما الصراع بين الأطراف يقترب من مفترق الحسم، فإما السير في مسار دبلوماسي، يفضي إلى حل شامل ونهائي للأزمة متعددة الصفحات والملفات، وإما العودة إلى جولة جديدة، لا نعرف متى ستبدأ ولا كيف ستنتهي.
نتائج هذه الحرب، كرّست وضع "إسرائيل" "التابع" للولايات المتحدة، وشيئاً فشيئاً، تَحَولَها إلى واحدة من "جمهوريات الموز"، ولا سيما بعد التدخلات الوقحة لترامب في المسار القضائي لمحاكمة نتنياهو، هذا لا يحدث مع دولة مستقلة، قادرة على الحياة بالاعتماد على ذاتها... حدود القوة والجبروت الإسرائيليين، تكشفت في العامين الأخيرين، وبدا أن "الأسد" الإسرائيلي الصاعد، مثله مثل عربات جدعون، لا أنياب له ولا مخالب من دون واشنطن، ولا وقود لهذه العربات ولا ذخائر، من دون واشنطن كذلك... "إسرائيل" تحت نتنياهو، تحولت إلى ماكينة قتل وعربدة، تقودها الولايات المتحدة تحت دونالد ترامب وصحبه، غير الكرام.
ونتائج هذه الحرب، وضعت إيران على مفترق حساس، بين السعي لاستعادة الردع، بمظلة نووية حامية ومُهابة، أو العودة إلى لعبة الاحتكام لـ"فن التفاوض"... بين عضوية نادي السلاح النووي، أو عضوية نادي "سويفت"، وثمة في إيران، مناصرون كثر، لكلا الخيارين، وتوازنات القوى الداخلية، هي من سيقرر الوجهة التي ستسلكها إيران في قادمات الإيام.
ويعني ذلك من ضمن ما يعني كذلك، أن إيران وحلفاءها، ما عاد بمقدورهم إدارة المرحلة التاريخية الجديدة بالأدوات القديمة.... ثمة مفاهيم ونظريات ومعادلات سقطت وتغيرت، ويتعين استبدالها بمفاهيم جديدة، وربما من خارج الصندوق.... فإما الذهاب إلى "التصعيد"، وتوفير أدواته ومقوماته وضماناته، وإما الذهاب إلى اعتماد أشكال جديدة في "العمل المقاوم"، سياسية واقتصادية ودبلوماسية وحقوقية...وهذا ينسحب على بقية أطراف المحور، بأقدار متفاوتة وأشكال متباينة، تبعاً لتفاوت ظروف كل فريق، وتباين السياقات التي يعمل في إطارها.
أرجح أن طهران ستتخذ مساراً وسطاً بين المسارين المذكورين... ستذهب إلى التفاوض والخيار الدبلوماسي، وفي جعبتها الكثير لطمأنة "المجتمع الدولي" إلى سلمية ومدنية برنامجها النووي... ليس ثمة ما يشي بأن طهران، بصدد مراجعة "عقيدتها النووية"، على المدى المرئي على أقل تقدير... لكنها في المقابل، ستعمل على سد "ثغرتين استراتيجيتين" كشفت عنهما الحرب الأخيرة: أولاهما؛ الاختراق الأمني الاستراتيجي غير المسبوق في تاريخ الحرب والصراعات... وثانيتهما؛ تملّك نظم دفاعات جوية متطورة بأي ثمن، لمواجهة الاستباحة الإسرائيلية لأجوائها وسيادتها، وإعادة بناء قوة جوية قادرة على الردع ومنع التهديد... دولة بموقع إيران وحجمها وإرثها، لا يمكن أن تقبل بتجريد نفسها من عناصر القوة والردع، وإن كان السؤال إلى أي حد وبأي مستوى.
حزب الله وسلاحه، هو الأكثر والأسرع، تأثراً بتطورات المشهد الإيراني، في بعديه الداخلي والخارجي، وسلوك طهران في المرحلة المقبلة، سيكون له انعكاس مباشر على سلوك الحزب وخياراته الاستراتيجية، بدءاً بالدور "الإقليمي" لسلاحه، الذي لن يظل قائماً حال اختارت طهران طريق الدبلوماسية والتكيف مع معطيات ما بعد الحرب، ليبقى دوره الوطني، مرتبطاً بمآلات الجهود الرامية لإنفاذ "حصرية السلاح"، وإبرام مقايضة مع "إسرائيل"، فتنهي احتلالها وتغلق ملفاتها العالقة مع لبنان، نظير حصر السلاح، شمالي الليطاني وجنوبه... لكن الأمر لن يتكشف على نحو جليّ، قبل أن تتكشف خيارات طهران الكبرى، وربما لهذا السبب، ثمة سباق مع الوقت، بين دعاة "نزع السلاح"، والمطالبين بعدم التخلي عن واحدة من أهم أوراق قوة لبنان، وحرقها مجاناً، وقبل أوانها.
لحماس سياق آخر، يرتبط بما يُعدّ للمسألة الفلسطينية برمتها من مشاريع و"تسويات"، يبدو ظاهرها استجابة لتحولات ما بعد السابع من أكتوبر، بيد أن باطنها فيه الكثير من "الثأر" و"تصفية الحساب"، مع الحركة التي سيُكتب في سجلها، بأنها من وجّه "الصفعة الأقوى" لـ"إسرائيل" في تاريخها... لكن المؤكد أن الحركة، تدرس بعمق خياراتها للمستقبل، مدركة أن إعادة إنتاج السابع من أكتوبر، قد لا تكون خياراً لسنوات، وربما لعقود عديدة مقبلة.
اليمنيون، أهل العهد والوفاء، تنتظرهم جولات مع "إسرائيل" بعد أن تفرغ من تداعيات حربها مع إيران وعلى بقية جبهات الاسناد... لكن القرار الأخير بشأن ذلك، إنما يقع في "جيب" ترامب، لا نتنياهو... قد يكون مسموحاً لـ"إسرائيل" ممارسة المزيد من عملياتها الاستعراضية في اليمن، بيد أن القرار الاستراتيجي بشأن أنصار الله وكيفية التعامل معهم، قد خرج من بين يدي نتنياهو، ليستقر بين يدي ترامب، ولا أستبعد لجوء الأخير إلى أسلوبه المفضل في المزج بين التهديد والوعيد من جهة، والبحث عن الصفقات والمقايضات من جهة ثانية... وأنصار الله، وحدهم، وأكثر من غيرهم، من أطراف "المحور"، من لا يزالون يحتفظون بمقدراتهم وقدرتهم على الفعل والتحرك الفاعل والمؤثر.
فصائل المقاومة الإسلامية العراقية، تبدو في وضع تحسد عليه، قبل الحرب الإسرائيلية على إيران وبعدها، ومنذ زمن "الإسناد"، فثمة بيئة عراقية غير مواتية تماماً لعمل هذه الفصائل، حتى من داخل بيئتها الحاضنة، ومن ضمن "الإطار" الشيعي النافذ في العراق... وأثبتت تجربة الحرب وما قبلها، أن العراق لا يشكو "تغولاً" إيرانياً، بقدر ما يشكو من "التغول" الأميركي، الذي أبقى أجواءه مكشوفة بلا دفاعات أرضية مناسبة، ولا سلاح جو فاعلاً، فضلاً عن توجهات سياسية تنأى بنفسها عن الصراع الإقليمي الأكثر احتداماً، تحت شعارات "العودة إلى الحضن العربي"، و"النأي عن المحاور المتصارعة"، و"رفض التحول إلى صندوق بريد بين الأطراف"... ترجمة هذه الشعارات، لم تخدم هذه الفصائل، التي أخذت تعاني تآكلاً في دورها، ومحدودية في قدرتها على التحرك والإسناد، برغم ضجيج البيانات والتصريحات النارية التي تصدر عنها بين الحين والآخر.
المؤسف حقاً، أن عبارة "الحضن العربي"، حيثما استُخدمت، وأينما استُخدمت، باتت مرادفة لسياسات الاتساق والتساوق مع الأميركيين، وتوطئة لسلام وتطبيع مع "إسرائيل"، بدل أن تكون تعبيراً عن هوية هذه المنطقة ونزوع أهلها للحرية والاستقلال والسيادة والرفاه والازدهار.
حروب العامين الأخيرين المتنقلة بين غزة ولبنان وسوريا والعراق واليمن، استحدثت تغييراً في موازين القوى وتوازناتها وديناميّاتها، بيد أنها لم تنهِ فريقاً ولم تُعطِ الفريق الآخر يداً عليا، ولا سيما أنها تجري في إقليم، يبيت على وضع ويستيقظ على وضع آخر مختلف تماماً، وليس في الشرق الأوسط، كما قلنا ذات مقال، طريق واحد ذو اتجاه واحد، فكل طرقه باتجاهين، والكثير من فتحات الاستدارة والدوران...
لكن المؤكد أن مختلف الأطراف بحاجة إلى مراجعات، لتقييم وتقويم في السياسات والممارسات، فالحرب أغلقت جولة من جولاتها المتكررة، ولم تضع أوزارها بعد، وليس في جعبة القوى الساعية للهيمنة في هذا الإقليم والعالم، ما يعِد بالخير العميم والرفاه المقيم لشعوبنا، بل وليس في جعبتها، ما يحفظ ماء وجه قادتها، دع عنك تلبية حقوق شعوبها واستعادة ميزان العدالة.