ترامب في مواجهة الحلفاء... ماذا عن الأحادية الاميركية؟
ما مدى قدرة الولايات المتحدة على فرض نموذج جديد مختلف لدولة تستهدف التوفيق بين شعار أميركا أولاً ومدى تمكنها من الحفاظ على إرثها الريادي المهيمن في قلب النظام العالمي؟
-
عمدت الولايات المتحدة منذ انهيار الاتحاد السوفياتي إلى تكريس نموذجها للعولمة.
إذا كان من الممكن اعتبار الأيام الأولى للفترة الرئاسية بمنزلة اختبار لمدى إصرار الرئيس على تحقيق برنامجه الانتخابي وإظهار عزمه على فرض رؤيته ومنهجه في إدارة الدولة، فإن دونالد ترامب قد أظهر عزمه على التأكيد أن حقبته الرئاسية الحالية ستشكل انقطاعاً تاماً عن مرحلة جو بايدن، إن لم نقل عن النهج التقليدي الذي حكم الولايات المتحدة في سياساتها الداخلية وعلاقاتها الخارجية، منذ انهيار الاتحاد السوفياتي، إن لم نقل منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
فمن خلال توقيعه أكثر من 120 أمراً تنفيذياً و33 إعلاناً و31 مذكرة رئاسية حتى اليوم، يتمحور العدد الأكبر منها حول السياسات الخارجية، يمكن القول إن السياق الحالي الذي يتبناه دونالد ترامب يستهدف إعادة بناء مرتكزات السلوك الأميركي، بما يطرح تساؤلاً حول مدى قدرة الولايات المتحدة على فرض نموذج جديد مختلف لدولة تستهدف التوفيق بين شعار أميركا أولاً ومدى تمكنها من الحفاظ على إرثها الريادي المهيمن في قلب النظام العالمي.
فإذا كان الجزء الأكبر من هذه الأوامر التنفيذية يستهدف إعادة صياغة مفهوم السيادة التقليدي الذي يسعى إلى تكريس الحمائية في التعاطي مع الآخرين، فإن هذا التوجه سيكون مناسباً مع شعار أميركا أولاً، إذ أنه من المتعارف عليه أن الدولة المتمسكة بسيادتها وبالمفهوم التقليدي الضيق للمصلحة القومية ستتبنى في علاقاتها مع الآخرين سياسة يمكن تقديرها وفق المنطق الحسابي البسيط للربح والخسارة من دون أي التفات لما يمكن تقديره على أنه مرتبط بالنظام العالمي والمصالح الجيوسياسية التي تحتاج إلى تحليل عميق بعيد المدى، لتقدير مدى أهميتها وتأثيرها على الداخل. وعليه، فإن هذا التوجه، المتماهي مع شعار أميركا أولاً، سيفترض حتماً انكفاءً أو انعزالاً، أو بأقل تقدير، تخلياً عن دور ريادي عالمي مهيمن، بذلت الولايات المتحدة من أجله جهوداً جبارةً منذ أكثر من أربعين عاماً.
لقد عمدت الولايات المتحدة منذ انهيار الاتحاد السوفياتي إلى تكريس نموذجها للعولمة وفق أطر تفترض ارتباطاً سياسياً واقتصادياً وأمنياً عالمياً بها. وبالتالي، يمكن القول إن الثمن الذي دفعته حتى وقت قريب نتيجة هذا النموذج كان مرتبطاً بما تعتبره مكسباً يمكن تعريفه بتسليم الآخرين بتفوقها وحفاظهم على مصالحها الجيوسياسية.
فالكلفة الاقتصادية والمالية التي تكبدتها نتيجة ربط أسواقها بسلاسل إنتاج وتوريد أجنبية، كلَفتها الكثير على مستوى ميزانها التجاري، لم تكن من دون جدوى، حيث استطاعت بسبب ذلك أن تتسلل إلى كل المواقع الاستراتيجية العالمية، وضمنت لها تفوقاً دولياً وانصياعاً عالمياً كرّسها كمتحكّمة في السياسات الدولية، إن لم نقل بمسار التاريخ.
وعليه، فإن أي تحليل بسيط للمسار الذي يستهدفه دونالد ترامب من خلال أوامره التنفيذية وكيفية إدارته لسياسات الولايات المتحدة مع الحلفاء والأخصام، سيؤكد تخليه عن هذا الشكل من التفوق والريادة. فإذا كان من الممكن قراءة سياساته في مواجهة الأخصام شكلياً، على أنها تستهدف مواجهة طموحهم بتغيير واقع النظام الدولي وسعيهم لبناء نظام تعددي، فإن شمول هذه السياسات لإجراءات تستهدف الحلفاء سيفتح نقاشاً حول مدى تأثيرها على ريادة الولايات المتحدة ومستقبل النظام العالمي ومدى توافق مرتكزاته مع سياقاته التقليدية. فالأحادية الأميركية لم تكن لتستمر لولا دعم هؤلاء الحلفاء وتسليمهم بقيادة الولايات المتحدة وقناعتهم بأن الثمن الذي يجبونه من خلال هذا التسليم مُجْزٍ.
وبالتالي، فإن السياسات التي يعتمدها ترامب في مواجهة هؤلاء الحلفاء سيدفعهم إما إلى محاولة الضغط عليه للعدول عنها وإما إلى التفكير في جدوى استمرار دعمهم وتسليمهم بالشكل الجديد للريادة الأميركية التي تُفسر اليوم على أنها خضوع غير مبرر وفق الشكل الذي يريده ترامب.
وعليه، يُطرح السؤال حول مدى قدرة الحلفاء على تقبّل هذا السياق في تعاطي الولايات المتحدة معهم. فإصرار دونالد ترامب على رسم إطار العلاقات الدولية وفق شعار أميركا أولاً بالتوازي مع الحفاظ على الريادة الأميركية بشكلها الجديد، يستلزم اقتناع الحلفاء بأن الحفاظ على هذه العلاقة لم يعد حاجة أميركية في الدرجة الأولى، إذ إن العولمة وفق منظور الإدارة الحالية لم تعد إلا مجرد سلاح يُستخدم ضد الولايات المتحدة ويجب التخلص منه، وإنما تتعلق فقط بحاجاتهم.
وعليه فإن النظام العالمي الذي يناسب دونالد ترامب اليوم يتوافق أكثر مع التوجه الاستعماري الذي كان سائداً بين القرنين السابع عشر والتاسع عشر. وبالتالي، فإنه يكرس شكل المواجهة التي يريدها اليوم، وفق منطق عدم تحمل مسؤولية النظام العالمي والاكتفاء بالتحرك متى استوجبت المصلحة الأميركية الضيقة ذلك، بما يعني التخلي عن علاقة تكاملية جمعت الولايات المتحدة بحلفائها طيلة الفترة السابقة.
وبالتالي، قد يكون الفراغ الذي سيخلّفه التحول الأميركي معززاً لسعي الدولي إلى تغيير شكل النظام الدولي، حيث ستجد أقطاب النظام الدولي الأخرى المساحة لاستعادة حقوقها الجيوسياسية بما قد يؤدي إلى مواجهة غير محسوبة أميركياً.
فاعتماد الولايات المتحدة على اقتصادها المعقد والمتطور، إضافة إلى امتلاكها جيشاً على مستوى عالٍ من الكفاءة، لن يكونا كافيين لتكريس الواقع الذي تريده، إذ إن بعض القوى الدولية، كالصين وروسيا، من دون أن نهمل أن بعض القوى الإقليمية الأخرى، لن تتردد في محاولة إضفاء لمستها على شكل النظام الجديد. فالقوى المناهضة للولايات المتحدة، كما بعض القوى الحليفة، لن تتوانى عن السعي إلى عقد تحالفات جديدة بهدف العمل على كبح جماح ترامب، أو على الأقل، احتواء التداعيات السلبية لسياساته ومحاولة الاستفادة من توجهه المنكفئ.
فالقناعة التي يكرّسها ترامب في الوعي الجماعي العالمي، عبر تخليه عن أدواته الناعمة في الصراع، من ضمنها تخلّيه عن حلفائه، سيساعد بطريقة غير مباشرة في إضعاف الجهود الأميركية لاحتواء الخصوم. فنجاح هذا الاحتواء لا يمكن أن يتم، إلا من خلال دعم الحلفاء ومساعدتهم في تخطي حاجاتهم، لتمتين علاقاتهم مع هؤلاء الخصوم. وبالتالي يمكن التقدير أن نتائج هذا التوجه الترامبي المستجد، وإن كان يشبع غرائز بعض السياديين الأميركيين على المدى القريب، فإنها ستسهم في تقليص فعالية وحدة التحالف الغربي الذي نجح طيلة عقود مضت، في ضمان هيمنة فاعلة على العالم بأسره.
على أقل تقدير، يمكن القول إن المرحلة الحالية ستشهد ضغوطاً متزايدة على الإدارة الأميركية من حلفائها التقليديين الذين لن يتخلوا بسهولة عن تحالفهم مع الولايات المتحدة، نتيجة الحاجة أولاً، والخوف من المستقبل ثانياً، لعلّهم ينجحون في ثني إدارة ترامب عن استكمال تنفيذ مخططها. وبغض النظر عن نجاحهم في هذه المهمة أو عدمه، فإن ذلك سيترك حتماً تأثيراً سلبياً على موقع الولايات المتحدة، حيث إن الحلفاء لن يستعيدوا الثقة بها بسهولة، وحيث إن الخصوم لن يوفروا جهداً للاستفادة من هذا الواقع.
ففي عالم تتسارع فيه الأحداث ولا يكاد يمر يوم من دون أي تغيير عن اليوم الذي سبق، فإن استعادة الولايات المتحدة لموقعها المهيمن ولعلاقاتها مع حلفائها في المستقبل، لن يكون كافياً للجم طموح الخصوم وسعيهم إلى فرض رؤيتهم لطبيعة النظام العالمي، الذي يريدونه بديلاً عن النظام الذي تربّعت الولايات المتحدة على عرشه لفترة طويلة.