توم برَاك... تهديد بنتائج عكسية

لا يدلل كلام توم برَاك على إحكام قبضة الولايات المتحدة على لبنان، بقدر ما يدلل على شعور الولايات المتحدة والكيان بأن حزب الله ما زال قادراً على المواجهة.

0:00
  • الولايات المتحدة تشعر بأن حزب الله ما زال قادراً على المواجهة.
    الولايات المتحدة تشعر بأن حزب الله ما زال قادراً على المواجهة.

لم يكد توم براك يغادر لبنان بعد زيارة تسلّم خلالها الرد اللبناني على الورقة الأميركية بشأن نزع سلاح المقاومة وما يمكن اعتباره خارطة طريق لانتقال لبنان نحو علاقات إقليمية منسقة أميركياً، حتى أطلق بعد عدة أيام في حديث مع صحيفة ذي ناشيونال الإماراتية تحذيراً من أن لبنان سيعود إلى ما يسمى "بلاد الشام" إذا لم يتحرك لحل قضية سلاح المقاومة.

وبعيداً عمّا يمكن تقديمه من تبريرات أو محاولات لتصحيح أو تلطيف ما قاله، فإن ذلك الكلام لا يمكن قراءته بشكل منفصل عن الانطباع الذي كوّنه براك في زيارته الأخيرة للبنان.

فالرد الموحد الذي توافقت عليه الرئاسات الثلاث لم يُظهر استعداداً لبنانياً للانصياع لمطالب لا يمكن تحديدها أو تعريفها بمجرد البحث في كيفية معالجة إشكالية السلاح أو قرار الحرب والسلم فقط، وإنما تتعداها للدفع نحو إعادة تعريف الواقع اللبناني وفق سياق تتحدد أطره بين شبيه بذلك الذي استهدفه سابقاً اتفاق 17 أيار 1983 أو التمهيد لفرض وصاية ضمن مخطط أوسع يستهدف إعادة رسم حدود سايكس بيكو.

وإذا نظرنا في الدوافع التي من الممكن أن تشكل إطاراً نظرياً لما صدر عن المبعوث الأميركي توم برَاك حول لبنان، سيبرز المسار الأميركي الذي أظهر اهتماماً استثنائياً بالشرق الأوسط عموماً وبالكيان الإسرائيلي خصوصاً بعد طوفان الأقصى، حيث دفعت الولايات المتحدة بكل ما تملكه من قوة، عسكرية ومالية وعلاقات إقليمية، نحو إعادة ترميم مشروعها في المنطقة بما يضمن ليس فقط إعادة تكريس السطوة الإسرائيلية فقط، أو محاولة ضمان أمنها على المدى البعيد، وإنما محاولة ترتيب علاقات القوة في المنطقة بما يضمن عدم ظهور أي منافس أو مهدد لمشروعها في المستقبل.

وإذا كانت الولايات المتحدة قد أمنت الغطاء لآلة القتل الإسرائيلية في قطاع غزة سعياً لإفراغ القطاع وشطب حركة المقاومة الإسلامية حماس والفصائل الأخرى، إضافة إلى تمهيدها لفرض السيادة على الضفة، فإن الواقع في لبنان قد ظهر مختلفاً في ظروفه عن الواقع في فلسطين لناحية صمود المقاومة واستعادة القدرة على ضرب المدن الحيوية في الكيان، بالتوازي مع نجاح حزب الله في منع توغل الجيش الإسرائيلي في العمق اللبناني، واستعداده لتحمل أثمان جسيمة في سبيل منع احتلال جنوب لبنان، أو حتى السماح للكيان بالتموضع في عمق القرى المحاذية.

وبنتيجة تحول المواجهة التي امتدت طيلة 66 يوماً إلى ما يشبه حرب استنزاف كانت كفيلة في معطياتها الميدانية بإظهار محدودية القوات البرية الإسرائيلية وعجزها المحسوم عن تحقيق هدف الوصول إلى الليطاني، ذهبت الولايات المتحدة نحو تنفيذ مخططها من خلال وسيلة أخرى، أمكن تعريفها بالدفع لتولّي الدولة اللبنانية مهمة القبض على قرار الحرب والسلم، والدفع باتجاه نزع سلاح المقاومة تحت شعار حصرية السلاح بيد الدولة، ومساعدتها على فرض سيادتها على كامل التراب اللبناني.

في هذا الإطار، تقاطع الضغط الميداني الإسرائيلي، من خلال الغارات والاغتيالات المتكررة وربط الانسحاب من النقاط التي يحتلها بنزع سلاح المقاومة، وإظهار الجيش اللبناني فاعليته في تنفيذ المطلوب منه إسرائيلياً، مع الضغوط الأميركية التي بدأتها أورتاغوس واستكملها برَاك، والتي أمكن تعريفها من خلال تشديد الضغوط على الدولة اللبنانية وحصارها، وكذلك من خلال تشكيل وتنظيم جبهة داخلية بأذرع سياسية وإعلامية تستهدف التصويب على المقاومة والبيئة الحاضنة لها، بالتوازي مع ضغوط أمنية تبدأ بالتهديد بإطلاق يد الكيان في لبنان، ولا تنتهي بالإيحاء باستعداد حشود الإرهابيين المتمركزة على الحدود اللبنانية السورية للدخول إلى لبنان تمهيداً لضمّه، كما ظهر أخيراً من خلال كلام برَاك.

عملياً، شكّل الرد اللبناني المشترك الذي بلورته الرئاسات الثلاث رفضاً لبنانياً للانصياع للضغوط الأميركية والإسرائيلية. وإذا كان من الممكن البحث في جوهر هذا الرد ودوافعه، فإنه إلى جانب الموقف العقلاني والوطني لرئيس الجمهورية الرافض لأي محاولة لابتزاز الدولة اللبنانية أو تعريضها لخطر الانفجار، عبر مواجهة تضع الجيش اللبناني في وجه المقاومة وبيئتها، إضافة إلى قناعة رئيس الجمهورية بأن المخطط الأميركي ينبثق من متطلبات الكيان الإسرائيلي بالدرجة الأولى، ويتعاطى مع مفهوم السيادة اللبنانية باستخفاف، يظهر موقف الرئاسة الثانية مستنداً إلى أسس أوسع من مجرد الحفاظ على لبنان ومنع انفجاره، حيث تبرز إشكالية العلاقة مع النظام الطائفي الجديد في سوريا، وموقع لبنان على خارطة القضية الفلسطينية وتبعاتها الإقليمية.

في هذا الإطار، تبرز بالتوازي المواقف التي أطلقها الأمين العام لحزب الله في مقابلته الأخيرة على قناة الميادين لتشرح بدقة واقع لبنان الحالي، حيث تحدث بثقة وقوة عن واقع المقاومة والتحديات التي تواجهها، إضافة إلى إصراره على فرض ضوابط تحكم العلاقة مع الواقع الإقليمي المستجد، واستعداده للمواجهة متى كان ذلك ضرورياً أو يشكل حاجة للحفاظ على لبنان.

وإذا كان من الممكن أن نصف هذه المقابلة بالقوية، حيث إن الأمين العام قد تطرق إلى كل ما يمكن أن يثير تساؤلاً أو يتطلب موقفاً من المقاومة، فإن إخراجها بتوقيت حساس بعد انتهاء لقاءات توم براك في لبنان كانت بمنزلة رسالة تحدٍ تعبّر عن استعداد المقاومة لقلب طاولة المطبخ الأميركي الإسرائيلي متى تخطت حدود المقبول شعبياً ووطنياً في لبنان.

وعليه، رغم كل ما يُحكى عن مهنية برَاك وقدرته على إخفاء أي رد فعل غير مهني على أي موقف لا يناسبه، وهذا ما ظهر واضحاً في مؤتمره الصحافي بعد لقائه بالرؤساء الثلاثة، جاءت مواقف الأمين العام لتخرج المبعوث الأميركي عن طوره وتدفعه للبوح بحقيقة ما يخفيه المشروع الأميركي في لبنان، حيث أكد من خلال تصريحه للصحيفة الإماراتية أن المعادلة الأميركية الإسرائيلية التي يجري العمل وفقها لا تخرج عن إطار: إما أن يسقط لبنان تحت المظلة المشتركة الاميركية الإسرائيلية وإما أن يجري العمل على تفجيره، وصولاً إلى إلغائه وشطبه من الخريطة.

عملياً، لا يدلل كلام توم برَاك على إحكام قبضة الولايات المتحدة على لبنان، بقدر ما يدلل على شعور الولايات المتحدة والكيان بأن حزب الله ما زال قادراً على المواجهة.

من ناحية أخرى، ستشكل محاولة التهديد بأدوات أو مشاريع لا تتميز بالواقعية، حيث إن الإدارة السورية التي يجري التهديد بضم لبنان إليها، غير قادرة على فرض سلطتها في السويداء أو اللاذقية أو البادية أو المناطق الكردية، مدخلاً لتحقق فرضيتين لا تناسب أي منهما التوجه الأميركي في لبنان.

فالتهديد الأميركي المعلن بإمكانية ضم لبنان إلى سوريا أو المضمر بتحريك الجماعات التكفيرية على الحدود، سيؤدي حتماً إلى تحقق فرضية استنزاف الدولة اللبنانية وقواتها المسلحة، حيث إن خط الدفاع الأول في المواجهة المفترضة على الحدود السورية، لن يكون حزب الله وإنما الدولة اللبنانية، التي تأخذ دائماً على عاتقها مهمة الحفاظ على لبنان، وهذا ما يناقض الحرص الأميركي على الدولة وقواتها المسلحة، وسيؤدي أيضاً إلى تحقق الفرضية الثانية التي تتمثل بتكامل الجيش مع المقاومة في الدفاع عن لبنان الكيان، وستؤدي بالتالي إلى تكريس قناعة بضرورة الحفاظ على سلاح المقاومة، والاعتراف بدوره المحوري والحيوي في الدفاع عن لبنان.