سوريا بميزان السياسات والمصالح

سوريا تخوض مؤخّراً وراهناً تجربة الفرز العسير للمكوّنات والحصص. وهي تشهد مخاض تقاسم مناطق النفوذ بين القوى العالمية والإقليمية.

0:00
  • يبدو الوضع في سوريا برمّته دقيقاً في خضمّ التحوّلات والتبدّلات.
    يبدو الوضع في سوريا برمّته دقيقاً في خضمّ التحوّلات والتبدّلات.

يبقى الحدث في سوريا، بأبعاده كافة، السياسية والأمنية والاستراتيجية، متقدّماً، يلقي بثقله على البلد والمنطقة، ويفرض نفسه، بقوة وبشدّة، على مختلف الأجندات الأجنبية لمجمل الفاعلين الدوليّين والإقليميين، البعيدين والقريبين، الغربيين وغير الغربيين، العرب وغير العرب، في ميزان السياسات الخارجية، الاستراتيجيات العسكرية وحسابات المصالح المشروعة والأطماع غير المشروعة. أين سوريا في هذه اللحظة الدولية والإقليمية؟ وماذا بعد هذه المرحلة السياسية والتاريخية؟

في المواقف الدولية والإقليمية 

روسيا تتطلّع تاريخيّاً للوصول إلى المياه الدافئة، أي منطقة الشرق الأوسط ومنطقة الحوض الشرقي للبحر الأبيض المتوسط. وهي لا تزال تريد ذلك بطبيعةالحال. لقد تراجعت موسكو، وخسرت رجُلَها في دمشق، أو لنقل حليفها. وهي معنية بالحفاظ على القاعدتين العسكريتين هناك، البحرية والجوية.

إيران خسرت أيضاً حليفها في سوريا ضمن محور المقاومة. انحسر نفوذها الإقليمي وامتداده. لكنها لا تزال موجودة وحاضرة في المنطقة كقوة إقليمية. قد تكون طهران خسرت دمشق. مع ذلك، هي تحرّرت من عبء الاضطلاع بأيّ مسؤولية عسكربة أو أمنية هناك حتى إشعار آخر.

تركيا كانت تترقّب وتترصّد اللحظة والفرصة لدخول سوريا والمجيء إليها. باتت أنقرة الآن تحمل عبء المسؤولية الاعتبارية، السياسية والدبلوماسية، عن الإدارة الانتقالية "المؤقتة" في دمشق، لكونها وبصفتها القوة الراعية، بعد أن تدحرجت الأوضاع السياسية والأمنية والاستراتيجية كأحجار الدومينو. 

أميركا تعتزم الإبقاء على وجودها العسكري بسوريا في سياق إعادة تموضعها الاستراتيجي بالإقليم، بعد أن كانت تنوي تخفيض وتقليص حضورها المباشر، وضمنه وجودها العسكري بسوريا وعلى امتداد المشرق العربي. على أيّ حال، لن تقبل واشنطن ولن تسمح بأن تكون أنقرة مطلقة اليدين في دمشق.

"إسرائيل" بدورها دخلت بقوة وبسرعة على خط هذا الصراع الدولي والإقليمي في سوريا والتنافس أو التسابق عليها. وبعد أن قامت  بتدمير جيش سوريا واحتلال جنوب سوريا بعجالة، قد تكون "تل أبيب" الأكثر اندفاعاً نحو دمشق والأكثر حماسة لتقسيم سوريا وتقاسمها لاحقاً، وربما قريباً.

أما الدول العربية، فهي تبدو عاجزة، أو لنقل ضعيفة، حذرة وقلقة، حيال الأحداث في سوريا،  ولا سيما مصر، الأردن، العراق ودول الخليج. هي معنية بالتصدّي للتمدّد التركي مع العثمانيين الجدد والتسلل الإسرائيلي، بالنظر إلى تأثير النفوذ التركي والدور الإسرائيلي في سوريا على الأمن القومي والأمن الإقليمي. 

في الأوضاع الداخلية والوضعيات الفئوية والجهوية 

جماعة الكرد، في منطقة شمال شرقي سوريا، تنزع نحو الانفصال والاستقلال. هي تحظى بحماية الأميركيين، وتقيم علاقات بالإسرائيليين. حسم المسألة ليس بالسهولة، ولا بالبساطة. لكنها أصبحت خارج نطاق الدولة المركزية في سوريا والحكومة المركزية في دمشق. وميليشياتها تواجه الأتراك والسوريين.

جماعة العلويين، في منطقة الساحل في شمال غربي سوريا، ليسوا في أحسن ولا أفضل حال. تفيد المعلومات من التسريبات والتقارير بتعرّضهم للتنكيل السياسي، وربما سواهم من السوريين أيضاً. مما يعني أنّ الأوضاع السياسية والأمنية هناك قد تكون مرشّحة لأن تتفاقم وتتدهور أكثر، إن عاجلاً أم آجلاً.

جماعة الموحّدين الدروز، في منطقة جنوبي سوريا، أعلنوا وأطلقوا الإدارة الذاتية، وأبلغوا الإدارة الانتقالية في دمشق، وذلك حتى وضع دستور جديد وتأسيس جيش جديد. ما يعني أنهم أمسوا، إلى حد ما، بحلّ من أيّ ارتباط مع العاصمة وبقيّة الدولة. وهم على تماس مع وجود "إسرائيل" جنوبي سوريا. 

جماعة المسيحيين في سوريا أصبحت من الأقليات الدينية، المهمّشة والمهدّدة أكثر من أيّ وقت مضى. وهي لم تعد ذات وزن ديموغرافي، ولا حتى سياسي، نتيجة الهجرة والتهجير من سوريا والعراق وبقيّة المشرق العربي، بحيث إنها تستشعر، وتواجه أيضاً، تحديات وتهديدات ومخاطر وجودية. 

جماعة المسلمين الشيعة في سوريا من الأقليات الطائفية والمذهبية، قليلة العدد وصغيرة الحجم والوزن، المستهدفة والمضطهدة. هي كانت تحظى بدعم إيران، أو لنقل حمايتها. لكنها اليوم تشهد حالة غير مسبوقة، مع تصاعد وتفاقم العوارض والإرهاصات لمظاهر ومشاهد العنف الديني.

أما جماعة المسلمين السنة في سوريا، فهي تمثّل الأكثرية العددية في البلد، ولا سيما الوسط والشمال. هي ليست متجانسة، ولا منسجمة، من حيث الاتجاهات والتموضعات والاصطفافات السياسية، بخلفيّاتها الأيديولوجية وتجسيداتها الميليشياوية. فهي  تتراوح بين من يدور بفلك الإخوان المسلمين السياسي في تركيا ومن يقع بالفلك السياسي للعرب في الخليج. 

في التقديرات السياسية والأمنية والاستراتيجية 

أحدثت سرعة مغادرة الرئيس وسقوط النظام مفاجأة لدى المراقبين والمتابعين والمعنيين في الداخل والخارج. هي لم تكن متوقّعة. كان التقييم والتقدير لدى الأميركيين والإسرائيليين والأتراك التفاوض عند السيطرة على حلب وحماة، وربما حمص، لانتزاع التنازلات وفرض الشروط. فجاءت مشهدية النتيجة مدوّية، وتركت صدمة عند الإيرانيين أكثر من الروس.

بعد انقضاء فترة أشهر عديدة على الحدث في سوريا، تبدو الوحدة السياسية والسلامة الإقليمية للدولة في خطر، وربما على المحكّ. لا يبدو البلد بوضع سليم، ولا حتى صحي. قد يستهلّ الحدث سلسلة من الأحداث الدرامية. الدولة المركزية بسوريا ضعيفة، تعاني الوهن السياسي والتشتّت الجغرافي والديموغرافي، بعد سنوات من الحرب، ومن ثم السقوط والارتطام.

قد لا تتوقّف التغييرات عند عتبة نظام الحكم السياسي، أي النظام السياسي والدستوري. سوريا تخوض مؤخّراً وراهناً تجربة الفرز العسير للمكوّنات والحصص. وهي تشهد مخاض تقاسم مناطق النفوذ بين القوى العالمية والإقليمية، الفاعلة والضالعة، التي انغمست وانخرطت برسم المشهد وتقرير المصير بين حدّين: التقسيم الواقعي سابقاً والتقسيم الرسمي لاحقاً.

يبدو الوضع في سوريا برمّته دقيقاً في خضمّ التحوّلات والتبدّلات. هي البداية، وليست النهاية. ما زال ينتظر سوريا الكثير من الأحداث السياسية وغير السياسية. هي تعيش مؤخّراً وراهناً مخاض التغيير الكبير والعظيم، بمحاذيره ومخاطره، بغياهبه ومتاهاته، كما باحتمالاته وفرصه. وقد أفضى إلى سقوط النظام السابق، مع تنحّي الرئيس السابق عن الحكم والسلطة ومغادرته البلد، ودخول سوريا حقبة سياسية وتاريخية جديدة. قد تشهد الأخيرة المزيد من المستجدات الطارئة، مما يؤدّي لإعادة خلط الأوراق ورصد الاتجاهات والمسارات.