سوريا والمشرق العربي: المعادلات والتوازنات
أصبحت سوريا، ومعها بقية المشرق العربي، من لبنان وفلسطين المحتلة إلى العراق، حلبة للصراعات والنزاعات بين القوى الدولية والإقليمية، وساحة لتصفية الحسابات ذات العلاقة.
-
أصبحت سوريا، ومعها بقية المشرق العربي، حلبة للصراعات والنزاعات.
تشهد سوريا، منذ أكثر من عقد من الزمن تقريباً، حالة غير مسبوقة من الاضطراب وانعدام الاستقرار. كذلك، يعيش العراق، منذ أكثر من عقدين من الزمن، حالة سيئة وخطيرة أيضاً من التصعيد للتوتر، بل تعثّر وتعذّر الحلول المستدامة.
أما لبنان، فهو ليس بأفضل حالاته البتة، ويخوض مخاض الأزمات المتراكمة والمتفاقمة، بالسياسة، الاقتصاد والأمن. وترزح فلسطين تحت نير الاحتلال، وتتخبّط في غياهب العدوان. فما سردية المعاناة بالوجود والمصير؟ وما خلفيّاتها وأبعادها؟
في العلاقات مع القوى الغربية وتأثيرها
فرنسا لا تزال تعتبر نفسها معنية بشؤون وأحداث سوريا والمشرق العربي. هي لم تعد قوة قطبية قادرة على الاستقطاب.
هي ليست قوة كبرى، وتكاد لا تبقى قوة عظمى. هي كانت تراجعت ـــــ كما المملكة المتحدة تماماً ـــــ لحساب الولايات المتحدة الأميركية ومصلحتها. لكن باريس، بعد أن خسرت الكثير في المشرق العربي وفي المغرب العربي، ثم في أفريقيا، تنظر باهتمام وعناية إلى لبنان أكثر منهما إلى سوريا، لأسباب سياسية، ربما تاريخية، ولأسباب اقتصادية، تجارية واستثمارية.
المملكة المتحدة إنما تضطلع بدور مركّب ومعقّد للغاية في المشرق العربي. هي بعد أن تراجعت، وخسرت الكثير في العالم والمنطقة، تقف إلى جانب الولايات المتحدة الأميركية، أو لنقل خلفها، لا تتقدّم عليها حتماً، ولا تتركها حكماً. فهي ملتزمة بالعلاقة الاستراتيجية بين لندن وواشنطن. وهي تؤدّي مهمات عديدة، سياسية، أمنية وعسكرية، من العراق إلى سوريا، لبنان وفلسطين المحتلة: بعضها خطير، وبعضها ثمين.
ألمانيا وإيطاليا بات دورهما، أو دور كلّ منهما، ثانويّاً، وليس أساسيّاً، وربما أمنيّاً، رديفاً ومساعداً، وكذلك بقية القوى الأوروبية، الأصغر حجماً والأقلّ وزناً، كما حضوراً أو نفوذاً، بالمقارنة مع الولايات المتحدة الأميركية بالدرجة الأولى، ثم المملكة المتحدة وفرنسا بالدرجة الثانية.
الولايات المتحدة الأميركية تعيد تموضعها الاستراتيجي في المشرق العربي، وتمدّد وجودها العسكري في سوريا، وربما أيضاً في العراق. كما أنها تغطي "إسرائيل" في الحرب على لبنان، ومن قبله العدوان على القطاع، ومن بعده الاعتداء على الضفة الغربية، وتموّلها وتسلّحها. وبات دورها مكشوفاً ومفضوحاً، في أحداث سوريا سنة 2011، إبّان "الربيع العربي"، وأحداث لبنان سنة 2019، وقبلهما في اجتياح واحتلال العراق سنة 2003، على أثر غزو أفغانستان سنة 2002. هكذا يظهر جليّاً دور واشنطن الحاسم في فرض أجندتها ومقارعة موسكو وبكين وطهران.
في العلاقات مع بقية القوى الدولية وتأثيرها
روسيا يكاد ينحسر أو ينحصر دورها بسوريا ضمن المشرق العربي. هي ليست فاعلة، أو حاضرة بفاعليّة، في العراق، ولا حتى في لبنان. وهي تكتفي بالنسبة لفلسطين المحتلة بالتصريحات السياسية، المواقف الدبلوماسية والبيانات الصحافية والإعلامية، مراعاة للجانب الإسرائيلي على حساب الجانب الفلسطيني، أو بالأحرى عدم الإحراج وعدم التصعيد للتوتر على خط العلاقة بين موسكو و"تل أبيب". لم يعد لروسيا غير القاعدتين العسكريتين، الجوية والبحرية، في الساحل السوري، بالمقارنة مع تجذّر وترسّخ الهيمنة الأميركية في منطقة النفوذ الغربي التقليدي.
الصين تبدو غير حاضرة كفاية في المشرق العربي. هكذا هي باستمرار. بيد أنّ مبادرة الحزام والطريق، في إشارة إلى الحزام الاقتصادي لطريق الحرير، التي دشّنتها في العشرية الأخيرة، أضاءت على الدور الصيني، المرتقب أو المفترض أو المحتمل، في المشرق العربي، كما في الشرق الأوسط وآسيا الوسطى، وفي العديد من الأقاليم والمناطق. قد تصبح خيارات ورهانات الصين هنا على المحكّ، أمام الاندفاعة الأميركية. فالصين بعيدة عن الوجود العسكري المباشر، ويكاد يكون دورها سياسيّاً ودبلوماسيّاً، لأغراض اقتصادية، تجارية واستثمارية أيضاً.
الهند قد تكون دخلت مؤخّراً حلبة التنافس أو التسابق الاستراتيجي بين القوى الدولية والإقليمية في منطقة الشرق الأوسط على وجه العموم، ومنطقة المشرق العربي على وجه الخصوص، من باب مشروع خط الإمداد الاستراتيجيّ من الهند، مروراً بالجزيرة العربية، وصولاً إلى "إسرائيل"، أو لنقل فلسطين المحتلة في قلب المشرق العربي، وانتهاء بأوروبا. قد تتداخل هنا حسابات الهند لمصالحها، فتتقاطع، ولا تتطابق، مع حسابات أميركا ـــــ مقابل الصين وحساباتها لمصالحها ـــــ و"إسرائيل" لمصالحهما الجيوسياسية والجيواقتصادية والجيوستراتيجية.
في العلاقات مع القوى العربية وتأثيرها
مصر لم تعد اليوم هي نفسها كما كانت بالأمس، مع الرئيس الراحل جمال عبد الناصر الذي كان يقود ويتزعّم تيار المدّ القومي العربي، سواء على امتداد المنطقة العربية عموماً، أو منطقة المشرق العربي خصوصاً. لم يعد دورها مركزيّاً، ولا محوريّاً. وبات حضورها ثانويّاً، خافتاً، وربما باهتاً. كانت علاقات مصر، في عصرها الذهبي، وسوريا وثيقة، بل عضوية. أما اليوم، فتتابع مصر عن كثب الأحداث في سوريا، وترصد تقدّم تركيا، وتوغّلها في ليبيا سابقاً، ثم في سوريا راهناً، وبالتالي عودة الإخوان المسلمين وصعودهم من غزة إلى سوريا، ابتداء بتركيا وانتهاء بقطر.
الخليج يتصدّر اليوم المشهد العربي. هو في صدارة ومقدّمة الركب العربي، بعد أفول مصر والثورية العربية لمصلحة الرجعية العربية. هو يقود المجموعة العربية، ويتحكّم بجامعة الدول العربية. وهو يشعر بالقلق حيال التسلّل أو التوغّل التركيّين جنوباً في العراق، ثم في سوريا، وربما في شمالي لبنان. بيد أنّ أثر الخليج في المشرق العربي موضع نقاش. ثمة من يؤيّد الدور الإيجابي، ويدافع عنه، بل يطالب به. في المقابل، ثمة من ينتقد الدور السلبي، يعترض عليه ويعارضه. على أية حال، قد تحتاج علاقة الخليج بالمشرق العربي وتأثيره عليه للمزيد من الإضاءة عليهما والإحاطة بهما.
المغرب العربي هو أقلّ تأثيراً وتأثّراً مع المشرق العربي على الدوام، ولا سيما مملكة المغرب العربي. قد تكون ديناميكية تونس في التفاعل أكثر حيوية. وتبقى الجزائر أكثر تفاعلاً من جهة المغرب العربي مع المشرق العربي. مع ذلك، أدوار المغرب العربي ودوله وحكوماته محدودة في سوريا، كما في المشرق العربي.
في العلاقات مع بقية القوى الإقليمية وتأثيرها
إيران كانت حاضرة على امتداد ساحة المشرق العربي من فلسطين المحتلة إلى العراق مروراً بلبنان وسوريا. حضورها كان وازناً، وربما ثقيلاً بحسب البعض من هنا وهناك، بل مؤثّراً في مسار تطوّر الأمور في أكثر من موضع ومقام وفي أكثر من محطة ومناسبة. ثمة من يعتبر أنّ دور إيران كان إيجابيّاً، ولا سيما في مقابل أميركا و"إسرائيل". وثمة من يعتقد أنّ تأثيرها كان سلبيّاً، بل يرى أنه كان فئويّاً. تراجع حضور إيران، وانحسر نفوذها، في سوريا خصوصاً، وفي المشرق العربي عموماً. مع ذلك، تبقى إيران حاضرة. هي موجودة على تماس مباشر، من زاوية الجغرافيا السياسية والجيوبوليتيك. وهي تؤثّر وتتأثّر بالمعطيات المجاورة، المستجدّات والأحداث الإقليمية، لأسباب ذاتية وموضوعية.
تركيا كانت تحاول، إبّان العقد الماضي، الدخول إلى سوريا بطريقة أو بأخرى، ومنها إلى المشرق العربي، ولا سيما منه المنطقة الشمالية. فكان لها ما تريد بالتنسيق والتعاون مع الأميركيين والإسرائيليين. باتت تركيا موجودة وحاضرة في دمشق والوسط وفي حلب والشمال. هي تحمل الآن العبء السياسي والأمني والعسكري. هي باتت أقرب للجزيرة العربية والخليج، ومصر والأردن بطبيعة الحال. ما يجعل بقاءها واستمرار وجودها في مرمى أهداف الإرادتين الأميركية والإسرائيلية.
أما "إسرائيل"، فهي تضطلع بالدور الأكثر خطورة على امتداد المشرق العربي. هي تقوم، مع أميركا بالتحديد، بتفكيك وتدمير العراق وسوريا، ولا سيما الجيش والاقتصاد في كلّ منهما. كما تقومان بتفريغ وتجويف فلسطين المحتلة ووأد شعبها ومقاومتها وقضيتها. وتقومان أيضاً بتطويق وتطويع لبنان. جوهر وجود "إسرائيل" يكمن في تقسيم هذه المنطقة، وفي التوسّع الاستيطاني، بقصد السيطرة أو الهيمنة الإمبرياليتين عليها بإحكام في زمن الوصاية الأميركية وفي عصر السطوة الإسرائيلية.
مناطق متشظّية
لقد أصبحت سوريا، ومعها بقية المشرق العربي، من لبنان وفلسطين المحتلة إلى العراق، حلبة للصراعات والنزاعات بين القوى الدولية والإقليمية، وساحة لتصفية الحسابات ذات العلاقة.
كان حريّاً ببلدان إقليم المشرق العربي أن تمضي نحو مأسسة التكامل الإقليمي، بلغة المصالح المشتركة والمتبادلة، للخروج من أزماتها.
لكنها صارت أشبه بمنصة متشظّية للتراشق والتقاتل، منزوعة الحصانة والقدرة على المبادرة.