عام على الحرب: الانتصار على ثقافة الهزيمة

أثبتت المقاومة في لبنان أنّ الأمم الحرّة هي تلك التي تُحوّل التهديدات إلى فرص. فقد حوّل هذا المجتمع العدوانيّة والحرب إلى فرصة لتعزيز احترام الذات، وترسيخ المبادئ التي بُنيت عليها منظومته الفكرية.

0:00
  •  تُظهر بيئة المقاومة تماسكاً قلّ نظيره، واستعدادات لا مثيل لها.
    تُظهر بيئة المقاومة تماسكاً قلّ نظيره، واستعدادات لا مثيل لها.

لم تتوقّف محاولات ترسيخ "ثقافة الهزيمة" في بلادنا منذ قرون. فقد رافقت هذه الثقافة كلّ موجة استعمارية اجتاحت منطقتنا، وظهرت معها دائماً أبواق مؤيّدة ومتبنيّة لهذا النمط من التفكير، في مقابل مقاومين لم يتوقّفوا عن الفعل المقاوم والمواجهة بكلّ أشكالها.

أدركت شعوبنا منذ وقت مبكر أنّ الخطر الأكبر لا يكمن فقط في الهزيمة العسكرية، بل في تغلغل "ثقافة الهزيمة" في الوعي الجمعي. هذه الثقافة التي وإن اختلفت أدواتها عبر الزمن، فإنّ مضامينها لم تتغيّر، إذ تتسلّل إلى النفوس لتحقيق أهداف عديدة، من أبرزها:

* إعادة تشكيل الهوية على أساس من الدونية والانكسار، وهو ما حذّر منه المفكّر الفلسطيني إدوارد سعيد، الذي رأى أنّ الاستعمار لا يكتفي بتفوّقه المادي، بل يسعى لفرض تفوّقه الرمزي والأخلاقي، وغرسه في وعي المستضعفين أنفسهم.

* إقناع المقهور بتفوّق جلّاده، بما يؤدّي إلى تماهٍ مع القامع، وتقبّل حالة الاضطهاد، كما أوضح فرانز فانون في كتابه "معذّبو الأرض"، حيث بيّن أنّ الاستعمار يغرس في المستعمَرين شعوراً بالعجز والدونية، ويجعلهم ينظرون إلى ثقافتهم بوصفها متخلّفة، وعدوهم كمنقذ.

* إحداث شرخ داخلي في بنية المجتمع، فيبدأ الناس بلوم بعضهم البعض بدلاً من مواجهة العدو الحقيقي. وقد حذّر المفكّر جمال حمدان من هذا المسار، واصفاً إياه بـ"الانتحار الحضاري"، حين تفقد الأمة ثقتها بنفسها، فتنقلب على ذاتها، وتفقد قدرتها على التخيّل والمبادرة. عندها يبدأ الترويج لفكرة أنّ المقاومة عبثيّة، ويُسوَّق للاستسلام باعتباره حكمة وواقعية.

* قتل الخيال السياسي والحضاري، حيث يُصبح الشعب عاجزاً عن تصوّر مستقبل مزدهر خارج هيمنة العدو، كما نبّه إلى ذلك مالك بن نبي، مؤكداً أنّ الشعوب المهزومة فكرياً لا يمكن أن تنتج حضارة.

هذه السياسات ليست حكراً على منطقتنا، فقد شهدت اليابان وألمانيا محاولات مماثلة بعد الحرب العالمية الثانية. إذ سعت سلطات الاحتلال الأميركي إلى إعادة تشكيل الوعي الوطني والهوية السياسية لكلا البلدين، من خلال ترسيخ ثقافة الهزيمة بشكل ممنهج.

ففي ألمانيا، على سبيل المثال، جرى توظيف الإعلام، والتعليم، والخطاب السياسي، لإعادة تشكيل العقل الجمعي، حتى بات كثير من الألمان يشعرون بأنهم ليسوا فقط مهزومين، بل مذنبون أخلاقياً، وهو ما خلق حالة من التردّد في التعبير عن الفخر القومي لعقود طويلة.

أما في اليابان، فلا تزال أصوات عديدة ترى أنّ ثقافة الهزيمة قوّضت كرامة اليابانيين، خاصة مع استمرار وجود القوات الأميركية على أراضيهم حتى اليوم.

ومنذ طوفان الأقصى، نشهد موجة جديدة وعنيفة لتكريس ثقافة الهزيمة، في محاولة مستمرة لزعزعة ثقة الناس بمقاومتهم وقدرتهم على الانتصار.

استعادت "إسرائيل"، في العامين الأخيرين تحديداً، إرث الدول الاستعمارية، محاوِلةً من بوابة لبنان وغزة أن تجعل شعوب المنطقة رعايا في "مملكتها الكبرى"، التي تسود فيها على دول الجوار وتفرض هيمنتها الكاملة.

فالتدمير الهائل، والتجويع، والقتل، والإبادة الجماعية، تتجاوز في أهدافها حدود العمل العسكري المباشر؛ إذ تندرج ضمن استراتيجية مركّبة تستهدف البُعد النفسي، وتسعى إلى إحباط الطرف الآخر ودفعه نحو الاستسلام الكامل، فكرياً ومعنوياً قبل أن يكون عسكرياً.

في الحالة اللبنانية، تُرجم ذلك من خلال ترويج دعاية خطيرة ترتكز على جملة من الادّعاءات، أبرزها:

* أنّ السيطرة الاستخباراتية الإسرائيلية، المعزّزة بالذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا المتقدّمة، باتت قدراً لا مفرّ منه.

* أنّ المقاومة وبيئتها عاجزتان عن مواجهة هذا المستوى من الاختراق والسيطرة الأمنية.

* أنّ زمن المقاومة التي تحمي وتبادر قد انتهى، وأنها اليوم غير قادرة حتى على حماية نفسها، فكيف تحمي الوطن؟

* أنّ خيار المقاومة بات انفصالاً عن الواقع، وأنّ "الواقعية" تقتضي الانضمام إلى الركب الأميركي، ولو على حساب السيادة والكرامة الوطنية.

هذه الدعاية تبنّتها جهات داخلية في لبنان، حيث انخرطت فيها بعض المؤسسات والشخصيات الإعلامية والسياسية إلى أبعد الحدود، بدءاً من معركة الإسناد، ومروراً بحرب "أولي البأس"، وصولاً إلى استغلال جريمة "البايجر" واغتيال قادة المقاومة في أقصى محاولات الاستثمار في الهزيمة النفسية.

غير أنّ مرور عام على الحرب كشف كم كانت هذه الدعاية مفصولة عن الواقع. فقد فشل مروّجوها، ومن يقف خلفهم، في فهم طبيعة بيئة المقاومة وثقافتها.

لقد سقطت "ثقافة الهزيمة" إلى حدّ كبير، أمام التكامل الصلب بين المقاومة العسكرية وبيئتها الشعبية. فالمقاومون ثبتوا على خطوط المواجهة الأمامية لستة وستين يوماً، من دون تراجع. وتمكّنت المقاومة، تحت النار، من ترميم قدراتها واستعادة زمام المبادرة، مؤكّدة أنّها لا تملك فقط الإرادة، بل أيضاً الأمل.

أما البيئة الشعبية، التي صبرت واحتملت وساندت، فقد حافظت على ثقتها بالمقاومة وقيادتها، بل وتقدّمت أحياناً بخطوات، بإرادة لا تقلّ صلابة، وبأمل لا ينضب.

واستمر هذا التماسك بعد الحرب، حيث سُجّلت عدة محطات أظهرت تلاحم المقاومة مع جمهورها. من أبرز تلك المحطات؛ الهبّة الشعبية بعد انتهاء مهلة الستين يوماً، حيث عاد أهالي القرى المحتلة معلنين استعدادهم للمواجهة المكشوفة مع العدو وآلته العسكرية، رغم ما فقدوه من أعزاء وممتلكات. في أقل من شهرين، كانوا مستعدّين لتقديم المزيد من التضحيات، شهداء وجرحى وأسرى.

ثم جاء تشييع السيد الشهيد حسن نصر الله، بمشاركة جماهيرية مليونية، متحدّين الطقس القاسي وحملات التهويل الإعلامي، في مشهد صادم لخصوم المقاومة، ومُعطّل لمحاولاتهم استثمار نتائج الحرب سياسياً ونفسياً.

استمرّ هذا الحضور الشعبي المذهل منذ عام حتى اليوم، في كلّ مناسبة تُحييها المقاومة، مترافقاً مع خطاب سياسي عبّر عنه الأمين العام لحزب الله، الشيخ نعيم قاسم، مشدّداً على الثبات والصمود والاستعداد للذهاب بعيداً في خيار المقاومة من دون أيّ تراجع أمام التهديد أو التهويل.

وفي هذا السياق، حضر أهالي شهداء وجرحى جريمة "البايجر" بمواقفهم القوية، ليس فقط في قلب الأحداث، بل في مقدّمة الميدان، مكرّسين موقعهم المتقدّم في المعركة.

رغم قسوة الحرب وفداحة الخسائر، ظهرت هذه البيئة الشعبية واقفة على قدميها، مرفوعة الرأس، حاملة شعار: "نحن على العهد"، رمزاً للاستمرار في خيار الصمود والمقاومة. وأكدت أنّ الانتصار على ثقافة الهزيمة ليس فقط ممكناً، بل ضروري، كخطوة لاستعادة المبادرة وفرض معادلات ردع جديدة.

أثبتت المقاومة في لبنان أنّ الأمم الحرّة هي تلك التي تُحوّل التهديدات إلى فرص. فقد حوّل هذا المجتمع العدوانيّة والحرب إلى فرصة لتعزيز احترام الذات، وترسيخ المبادئ التي بُنيت عليها منظومته الفكرية، انسجاماً مع المقولة التاريخية للإمام علي (ع):
"الموت في حياتكم مقهورين، والحياة في موتكم قاهرين".

هكذا تُظهر بيئة المقاومة تماسكاً قلّ نظيره، واستعدادات لا مثيل لها، وطاقة متجدّدة، ورفضاً للتبعيّة، وقدرة على الحلم، والفعل، والمواجهة.