غزة بين المطرقة والمجاعة: مشروع التهجير في ثوبه الجديد
التجويع في غزة تحول من كونه نتيجة جانبية للحصار إلى أداة سياسية محسوبة بعناية، تُدار ضمن خطة تم إعدادها جيداً للوصول إلى أهداف صهيونية/أميركية مشتركة لم تعد تخفى على أحد.
-
التهجير عبر المجاعة: نكبة بلا جيوش.
منذ أكتوبر/تشرين 2023، لم يكن العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة مجرد حملة عسكرية عابرة، بل تحوّل إلى مشروع استراتيجي هدفه النهائي هو تفريغ القطاع من سكانه. وفي هذا السياق، لم تستخدم الطائرات والدبابات وحدها، بل تم أيضاً تفعيل سياسات التجويع والحصار الخانق والتدمير الممنهج للبنية التحتية كأسلحة مركبة هدفها دفع السكان إلى خيار واحد: الرحيل أو الموت.
هنا، يتحوّل التجويع من كونه نتيجة جانبية للحصار إلى أداة سياسية محسوبة بعناية، تُدار ضمن خطة تم إعدادها جيداً للوصول إلى أهداف صهيونية/أميركية مشتركة لم تعد تخفى على أحد، فحين يُقطع الغذاء ويُمنع الدواء وتُحاصر المساعدات تحت ذرائع أمنية أو بيروقراطية، فإن الرسالة المراد إيصالها إلى الجمهور العادي، هي: لا مكان للحياة في غزة.
معسكر اليمين المتطرف داخل "إسرائيل" لم يتردد في الكشف عن مشاريعه المستقبلية بخصوص قطاع غزة؛ فمنذ أيام، ورداً على اضطرار بنيامين نتنياهو الإعلان عن "فتح ممرات آمنة في غزة والسماح بإسقاط المساعدات جواً"، دعا وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير، ووزير المالية بتسلئيل سموتريتش، إلى معارضة قرار رئيس الحكومة، مطالبين إياه بالكفّ عن الخضوع للمناشدات الدولية وإرسال القنابل عوضاً عن المساعدات!
اليمين الصهيوني، صاحب الكلمة العليا في "تل أبيب" اليوم، وهو يرى أن السبيل الوحيد لكسب الحرب ضد المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة واستعادة الرهائن هو وقف المساعدات بكل أنواعها، وبشكل كامل، مع احتلال عسكري كامل للقطاع وخلق ظروف معيشيّة تدفع الغزيين إلى الفرار خارج البلاد.
اللافت أنه دون نفي عدوانية وبربرية مجمل التيارات السياسية داخل "إسرائيل"، فإن تلك المجموعات من أصحاب التوجه اليميني القومي المتشدد باتت أخطر ما يهدد مستقبل المنطقة ككل، لا مستقبل القضية الفلسطينية وحدها؛ فهي تتصرف بنوع من الشراسة والجنون، وتبادر بحدّة إلى تحدي المنظمات الأممية والقرارات الدولية، وتدعم التوسع الاستيطاني في الأراضي الفلسطينية، كما ترفض أي نوع من التنازلات السياسية للفلسطينيين.
التهجير عبر المجاعة: نكبة بلا جيوش
في نكبة عام ١٩٤٨، تم تهجير الفلسطينيين من قراهم عبر السلاح والمذابح المباشرة، إذ استولت العصابات الصهيونية حينها على ٧٧٤ قرية ومدينة في فلسطين، ودمرت منها ٥٣١. وقد أدى ذلك إلى تهجير أكثر من ٧٥٠ ألف فلسطيني من ديارهم، ليصبحوا لاجئين في الضفة وغزة والدول العربية المجاورة، أي أن نصف سكان فلسطين العرب تقريباً قد هُجروا بيوتهم خلال تلك الفترة العصيبة.
ما يجري اليوم في قطاع غزة هو بمنزلة نكبة جديدة للفلسطينيين والعرب، يُراد منها الوصول إلى نتائج قريبة من تلك التي تم التوصّل إليها منذ ٧٧ عاماً، وفيها يعتمد الإسرائيليون سياسة الاستنزاف البطيء، وجعل غزة منطقة غير قابلة للحياة، فاليوم ٨٠٪ من مساحة القطاع بات تحت أوامر الإخلاء أو التدمير، وتم إجبار أكثر من ٩٠ ٪ من سكان غزة على النزوح. أما حجم الحطام، فبلغ أكثر من 51 مليون طن، وقد تستغرق عملية إزالة جميع الأنقاض عقدين ونيفاً.
وكان عدد سكان قطاع غزة قبل الحرب قد بلغ نحو 2.23 مليون، بما يمثل أكثر من ٣٠٪ من عدد الفلسطينيين داخل فلسطين التاريخية (الضفة الغربية وقطاع غزة والأراضي المحتلة منذ ١٩٤٨)، وبما يعادل ٤١٪ من سكان دولة فلسطين (الضفة الغربية بما فيها مدينة القدس الشرقية وقطاع غزة). وبحسب الجهاز المركزي الفلسطيني للإحصاء، فقد تراجع عدد سكان قطاع غزة بنحو ٦٪ مع نهاية العام الماضي بسبب استمرار الحرب الإسرائيلية على القطاع.
وفي حال نجحت "إسرائيل" بتنفيذ مشروعها الرامي إلى تهجير الغزيّين خارج أراضيهم، تكون قد أعادت إنتاج نكبة ١٩٤٨ بأساليب محدثة ومركبة، وسيكون هذا التهجير المُحتمل بمنزلة حلقة مركزية ضمن استراتيجية صهيونية أوسع لإعادة رسم الخارطة الديموغرافية لفلسطين بأكملها، عبر تقليص الكتلة السكانية الفلسطينية في الضفة الغربية مستقبلاً، وتكريس فكرة أن الفلسطينيين شعب يمكن كسره وترحيله تحت ضغط العيش المستحيل.
الموقف المصري بين الرفض العلني للتهجير والضغوط الدولية الصامتة
تتمسك مصر بموقف رسمي واضح يرفض تماماً فكرة تهجير الفلسطينيين من قطاع غزة إلى أراضيها، وتؤكد في كل المحافل الدولية أن التهجير القسري خط أحمر لن يُسمح بتجاوزه تحت أي ظرف، وتنطلق القاهرة في موقفها من اعتبارات سيادية وأمنية واستراتيجية، إذ ترى أن نقل سكان غزة إلى سيناء لا يمثل خطراً على الأمن القومي المصري فقط، بل يضرب القضية الفلسطينية في جوهرها، ويمنح الاحتلال ما فشل في تحقيقه عسكرياً.
لكن في المقابل تتعرض الإدارة المصرية لضغوط غير مباشرة، خصوصاً مع تعمّق الأزمة الاقتصادية الداخلية وازدياد التبعية التمويلية للمؤسسات الدولية والدول الكبرى، وتُمارَس هذه الضغوط من خلال الاشتراطات السياسية للمساعدات أو محاولات تقديم مشاريع "إغاثية" تتضمّن خطوات تمهيدية لتوطين بعض النازحين مؤقتًا داخل سيناء.
ورغم محدودية إمكانيات معبر رفح اللوجستية مقارنة بالمنافذ الأخرى، فقد أدى دوراً أساسياً في تمرير المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة منذ بداية الحرب، إذ تحمّلت السلطات المصرية العبء الأكبر في تنسيق دخول القوافل الطبية والغذائية والإغاثية من عدة دول. ومع ذلك، فإن مرور هذه المساعدات لم يكن مرهوناً فقط بالإرادة المصرية، بل ظلّ خاضعًا لقيود وضوابط يفرضها الاحتلال الإسرائيلي من جانبه، بذريعة "الفحص الأمني" أو "عدم ملاءمة التوقيت"، وهو ما تسبب في تعطيل آلاف الشاحنات لفترات طويلة.
وتُشير تقارير الأمم المتحدة ومنظمات الإغاثة إلى أن أكثر من ٧٠٪ من المساعدات التي تنتظر الدخول عبر رفح، لا يتم السماح لها بالعبور بسبب العراقيل الإسرائيلية. وفي ظل ذلك، تبقى مصر في موقع الحرج بين دورها الإنساني المعلن والتضييق الإسرائيلي الفعلي الذي يُفرغ جهودها من مضمونها، ويحوّل المساعدات إلى ورقة ضغط إضافية على السكان المنهكين.
الغطاء الدولي للنكبة الثانية: كيف يُدار مشروع التهجير على مرأى العالم؟
لعل أخطر ما يجري اليوم هو الصمت الدولي المنهجي الذي يوفّر غطاءً سياسياً وميدانياً لعملية التهجير الجماعي في غزة، فمنذ أكتوبر 2013 وحتى يوليو2025 ، فشلت الأمم المتحدة في فرض هدنة دائمة أو تأمين ممرات إنسانية، فيما تعثّر أكثر من ٣٥ جلسة لمجلس الأمن – أغلبه اصطدم بالفيتو الأميركي – في إصدار أي قرار ملزم لوقف إطلاق النار أو تجريم سياسات الحصار والتجويع.
ومع سيطرة دونالد ترامب على الأمور داخل البيت الأبيض، تحوّلت السياسة الأميركية من الدعم غير المشروط للعدو الإسرائيلي إلى تبنٍ صريح لرؤية اليمين المتطرف، فقد تعهّد ترامب منذ حملته الانتخابية بـ"القضاء على حماس" و"تطهير غزة من الإرهاب"، وهو ما فُسِّر في "تل أبيب" على أنه تفويض مفتوح لاستكمال عملية الإبادة والتهجير الجماعي.
وبحسب تقارير إعلامية أميركية، فقد صدّق الكونغرس في الربع الأول من عام2026 على حزمة مساعدات عسكرية جديدة لإسرائيل بقيمة تجاوزت ١٥ مليار دولار، مع رفع القيود على استخدام القنابل الفوسفورية والذخائر الثقيلة في المناطق المدنية. وقد تزامن ذلك مع تجميد التمويل الأميركي لوكالة "الأونروا"، وإحباط مبادرات دولية لإنشاء ممرات إنسانية دائمة أو محاسبة الاحتلال أمام المحكمة الجنائية الدولية.
هذا التواطؤ الدولي بالطبع يشجّع منظّري اليمين الصهيوني على طرح مشاريع التهجير العلني من غزة إلى سيناء أو دول أخرى، باعتبارها "حلًا واقعياً للأزمة"، وسط تجاهل تام لمبادئ القانون الدولي، واتفاقية جنيف الرابعة، وحق اللاجئين في العودة.