فلسفة التدمير لدى الاحتلال الصهيوني

قام الاحتلال بهدم البيوت لأجل قتل الذاكرة، لكنه لم يكن يعرف أن الفلسطيني الذي ينبعث من الرماد كالعنقاء، سيبني الحكاية من تحت الركام، بيتًا من الحشد والمناصرة.

0:00
  •  البيت في الوعي الفلسطيني ليس مجرد جدران فقط.
    البيت في الوعي الفلسطيني ليس مجرد جدران فقط.

مع تجربة كل نزوح، كان المواطن الفلسطيني المكلوم يعود إلى منطقته ليكتشف أن الاحتلال يقوم بتدمير أوسع وأكبر مستعينًا بأدوات جديدة، وبطرق أبشع من سابقاتها، لدرجة أن رحلة النزوح الأخيرة التي جاءت بعد عملية "عربات جدعون 2" والتي قام الاحتلال على إثرها باجتياح مدينة غزة، بدأت جرافات "D9" بتدمير سريع لكل ما تجده في طريقها، كأنها تسابق الزمن، وصولًا إلى الروبوتات المتفجرة، التي سحقت كل معالم المدينة، وباتت أطلالًا بلا روح. 

هذا السلوك العدواني الذي قام به الاحتلال ينمّ عن حقد ديني فكري في أعماق المؤسسة الصهيونية، مستندًا إلى أسباب توراتية تلمودية وكذلك سياسية وعسكرية ونفسية، إذ إن بعض الجماعات الصهيونية الدينية المتطرفة استحضرت نصوص "عماليق" لتبرير العنف أو السيطرة الكاملة على الأرض، معتبرين أن العرب امتداد لهؤلاء العماليق الذين أمر الرب بتدمير بيوتهم وممتلكاتهم وأطفالهم ونسائهم، ففي سفر التثنية 17:19-25 وسفر صموئيل الأول، الإصحاح 15 يأمر الرب بمحو ذِكر العماليق تمامًا، حتى البهائم، وهذا ما شاهده العالم عندما كان جنود الاحتلال يتلذذون بقتل الكلاب الضالة والدواب وكذلك الطيور. وتعدّ هذه القصة رمزًا في الفكر اليهودي للشر الذي يجب محوه، واستخدمها نتنياهو في خطاباته أيضًا. 

هذا الاحتلال الذي تدعمه، مع الأسف، كثير من الأنظمة الغربية وبعض البلدان العربية، يستخدم تدمير المنازل، ليس فقط لأجل معاقبة أهل غزة على انتخاب حركة حماس أو دعم مشروعية المقاومة، وإنما لكسر إرادتهم وتحطيم روح النضال فيهم، كي لا ينشأ جيل جديد، يواصل مشوار التحرير.

ولأن البيت في الوعي الفلسطيني ليس مجرد جدران فقط، بل هو ذكريات وأحلام وآمال، ورمز للهوية والجذور والذاكرة، فإن التدمير الحاصل هو محاولة محو الذاكرة، التي تربط الإنسان بأرضه، ليجعل الفلسطيني يشعر بالضياع وعدم الانتماء. 

والأخطر في محاولات تدمير المدينة هو إعادة هندسة الجغرافيا وكذلك ديموغرافيا السكان. إذ عبر تدمير المخيمات والأحياء يسعى الاحتلال إلى إعادة رسم الخريطة السكانية في غزة، وخلق مناطق فارغة أو عازلة يسهل السيطرة عليها لاحقًا، خصوصًا مع خوف الناس من العودة إلى ممارسة سياسة الأرض المحروقة التي أودت بحياة أكثر من مئة ألف شهيد، وقادت السكان إلى ربوع وديار غير التي يعرفونها. 

وبالحديث عن الأهداف العسكرية التي يبرر الاحتلال وجودها أسفل البيوت، كالأنفاق والعقد القتالية والبنى التحتية العسكرية ليست سوى مجرد بيوت مدنية تمامًا، يعيش فيها الأطفال داخل غرفة ملونة وألعاب لا تشكل أي تهديد لجنود مدججين بكل أنواع الأسلحة الفتاكة، لكن الأخير يحاول العودة بالفلسطيني إلى النكبة الأولى، والعيش في خيمة الموت والصقيع والذل، حيث يتم انتهاك أنوثة المرأة وطفولة الطفل، وقتل الخصوصية التي جعلت العلاقات الإنسانية العائلية في أضيق صورها المتخيلة. 

وهو ما يأخذنا إلى محاولات الاحتلال السابقة عندما تم تدمير مستشفى الشفاء واقتحامه أكثر من مرة، بتبرير وجود الأنفاق أسفل المباني هناك، ووجود قيادة المقاومة داخل الأقسام الطبية، التي رغم تبيان عوار وكذب تلك المبررات كانت المشجب الذي علق عليه "جيش" الاحتلال تدمير أكبر مشفى في قطاع غزة، ونزوح المرضى وعشرات آلاف المواطنين الذين سكنوا حدائق ومساحات المستشفى الواسعة، كنوع من تحطيم الوعي الفلسطيني الجمعي وحصر تفكيره في البحث عن أي حياة، مغمسة بالذل والعذاب. 

إن التأثير النفسي لتدمير المنازل هو تحطيم الروح المعنوية الفلسطينية لأن البيت هو آخر حصن يتمسك به الإنسان في الحرب، وحين يهدم يظن الاحتلال أنه انتصر على كل شيء داخل غزة. لذلك، فإن مقابل هذه الفلسفة القائمة على الحقد الدفين تجاه التاريخ والهوية الفلسطينية العروبية المسلمة لا بدّ من التمسك بالهوية والذاكرة، وتحويل الركام إلى ذاكرة مضادة يروي الحكاية ويحتفظ بالمفتاح والصور وأسماء الشهداء والشوارع والأزقة، كي تبقى الجغرافيا حية في وعي الجيل الجديد المغمس بالحقد على القتلة الذين اغتالوا الحياة والشغف في نفوس جيل تحطم جسده وروحه. 

أيضًا لا بد من الصمود، فهو أحد أهم أنواع المقاومة اليوم في مواجهة التهجير، فكل خيمة تنصب على أرض غزة، كشوكة في قلب الصهاينة، وإعلان ميلاد جديد للحياة بين الركام. كما أن على صناع القرار والنخب الفلسطينية الموجودة في كل مكان، الأحرار في هذا العالم المكتظ بالظلم، أن يعمدوا إلى تعزيز السردية الفلسطينية من خلال ترميم الوعي الفلسطيني والدفاع عن الرواية الفلسطينية أو يوثق الجريمة التي ترتكبها آلة الاحتلال المتطرفة، فهي فعل مقاومة مستمر، لا تقل أهمية عن المواجهة في الميدان. 

ولعل بناء التضامن الإنساني العالمي يجعل مظلومية الفلسطيني رسالة كونية للعدالة وليس مجرد قصة لزمن عابر، خصوصًا مع احتلال إحلالي واستعمار يقتل كل شيء تحت رايات متعددة.

لأن هذا الأمر سيبعث الإيمان في الجيل الجديد، ولعل فوز ممداني وما تكتبه الصحف العالمية عن ارتكاب الاحتلال للإبادة الجماعية بحق سكان قطاع غزة يؤكد أن السردية الفلسطينية نجحت في تعرية هذا الاحتلال المتغطرس، وسيبقى عما قريب وحيدًا في مواجهة الطوفان، خصوصًا مع انفضاض المولد العالمي الذي قام بتسليح هذه "" الوظيفية بكل الترسانة العسكرية التي ستنتهي يومًا ما، وستكون المواجهة من أمة عربية مسلحة بإيمانها بتحرير فلسطين، خصوصًا أن دول الطوق ازدادت التحامًا مع فلسطين بعد الإبادة الجماعية بحق قطاع غزة. 

لقد قام الاحتلال بهدم البيوت لأجل قتل الذاكرة، لكنه لم يكن يعرف أن الفلسطيني الذي ينبعث من الرماد كالعنقاء، سيبني الحكاية من تحت الركام، بيتًا من الحشد والمناصرة، وإعادة ترتيب خطاب السردية الفلسطيني، بالإضافة إلى بناء وعي قائم على استرداد الحق، طال الزمان أم قصر.