قافلة الصمود المغاربية قراءة فلسطينية

رسائل قافلة الصمود أنها تردّ على الرواية والادّعاءات الصهيونية التي تقول بأنّ شعب فلسطين تُرك وحده لتستفرد به "إسرائيل" فجاء الردّ بالآلاف من المغاربة الذين أخذوا على عاتقهم تسيير قافلة للردّ على كلّ الادّعاءات.

  • مواقف الشعوب المغاربية من القضية الفلسطينية ليست وليدة اللحظة.
    مواقف الشعوب المغاربية من القضية الفلسطينية ليست وليدة اللحظة.

سيبقى يوم 9 حزيران/يونيو 2025 يوماً مشهوداً في تاريخ إسناد الشعوب المغاربية للقضية الفلسطينية، وستحتفظ الذاكرة الفلسطينية باليوم الذي انطلقت فيه قافلة الصمود الشعبية المغاربية من تونس والجزائر وليبيا وموريتانيا إلى فلسطين؛ وإنّ هذا ليس الجهد أو الجهاد الأول لشعوب المغرب العربي تجاه القضية الفلسطينية فما بين الشعوب المغاربية وفلسطين تاريخ وحكايات وشواهد وروايات وشهداء وطريق معبّدة بالإسناد والدعم والتضحية من أجل فلسطين. إنّ التعرّض لمواقف ودور وجهد وجهاد الشعوب المغاربية تجاه القضية الفلسطينية موضوع يطول الحديث فيه؛ وهو حضور ممتد على مدار عمر القضية الفلسطينية في كلّ محطاتها ومراحلها.

والمفارقة أنّ هذا الجهد ودعم الشعوب المغاربية يتفوّق ويتقدّم على الدور الرسمي للأنظمة السياسية المغاربية بل ويتعارض معها أحياناً، وتجد أنّ هذا الجهد والدور الفردي المغاربي ممتد في تاريخ الصراع وفي تاريخ القضية الفلسطينية، وتعجب إذ تجد شهداء من تونس ومن ليبيا والجزائر والمغرب وموريتانيا قد قضوا شهداء على طريق الجهاد في فلسطين.

وقع في يدي عام 2011 كتاب عنوانه "صراع الفدائيين.. الفدائيون الليبيون في حرب فلسطين 1948"، وكانت الطبعة الأولى في كانون الأول/ديسمبر 1968، كتبه الدبلوماسي الليبي "محمد حسن عريبي"، وكان فدائيّاً جاء من ليبيا ليجاهد في فلسطين، ويروي في الكتاب تفاصيل رحلته من ليبيا وصولاً إلى فلسطين مشياً على قدميه. 

والكتاب أشبه بمذكّرات يومية لاستشهادي وليس لفدائي فقط؛ والعريبي وحيد أمه وأبيه، هرب من مدرسته وحمل مخلاته وفيها بعض من التمر وقربة ماء، وراح يجوب الصحراء يبحث عن فلسطين، ويبدأ كتابه بمقدّمة يتحدّث فيها عن عدد الشهداء الليبيين الذين سقطوا على أرض فلسطين، ويتحدّث عن معسكرات "مرسي مطروح"، ويقول في كتابه بأنّ عدد الفدائيين الليبيين كان أكبر وأكثر من عدد بعض الجيوش العربية.

إنّ مواقف الشعوب المغاربية من القضية الفلسطينية ليست وليدة اللحظة التي تقرّر فيها تسيير قافلة الصمود إلى فلسطين، وإنني شاهدت وعايشت حبّ الشعوب المغاربية وتعلّقهم بالقضية الفلسطينية وتطلّعهم لمعرفة تفاصيلها وتاريخها مذ كنت طالباً في الجامعة الجزائرية نهاية التسعينيات. وحتى اللحظة لا يزال يتواصل معي أصدقاء وزملاء دراسة وعائلات وأساتذة جامعات بشكل يومي للاطمئنان على أهل غزة والدعاء لهم ورفع معنوياتهم.

 والحقيقة أنني وجدت اهتمام الشعوب المغاربية بالقضية الفلسطينية ودعمها مُلفتاً ويتفوّق على شعوب عربية أخرى في منطقة المشرق العربي والخليج وهذه ظاهرة بحاجة إلى دراسة، فبينما لا تتوقّف المسيرات الداعمة للشعب الفلسطيني وقضيته في المغرب وتونس وموريتانيا تغيب تماماً عن شوارع وعواصم بعض الدول العربية.

  إنّ تحرّك قافلة الصمود في هذا التوقيت وعلى وقع هذه المحرقة التي يتعرّض لها الشعب الفلسطيني في قطاع غزة ليست مجرّد عملية دعم وإسناد وتأييد ومؤازاة؛ إنها رافعة داعمة تُعيد ترتيب الأولويات وضبط القناعات لدى الشعوب، وتواجه حرب كيّ الوعي محاولات تفكيك العلاقة بين فلسطين وحاضنتها العربية، هذه القافلة تقول وتؤكّد وتُدلّل بأنّ القضية الفلسطينية لا تزال ذات أولوية وحاضرة في فهم وفكر وممارسة الشعوب المغاربية، وهي جهد شعبي يُعيد وضع القضية الفلسطينية على رأس الأولويات واهتمامات الشعوب المغاربية. 

إنّ رسائل ودلالات قافلة الصمود أنها تردّ على الرواية والادّعاءات الصهيونية التي تقول بأنّ شعب فلسطين تُرك وحده لتستفرد به "إسرائيل"، فجاء الردّ بالآلاف من المغاربة الذين أخذوا على عاتقهم تسيير قافلة الصمود للردّ على كلّ الادّعاءات.

 إنّ القراءة الفلسطينية لقافلة الصمود تتعدّى المعاني القريبة وإننا في غزة نرى فيها وإن تأخّرت كثيراً، أنها محاولة استدراك شعبي مُهمة ومُلهمة وأنها تداوي جرحاً من الخذلان كنا نشعر به على مدار ما يزيد عن 600 يوم.

قافلة الصمود البرية بمظاهرها والمشاركين فيها وهي ترفع الأعلام الفلسطينية والمغاربية تستدعي كلّ الأبعاد الإنسانية والسياسية وهي أوّل وأهمّ قافلة برية تسير صوب فلسطين، قافلة الصمود ترمز للتضامن الدولي والعربي والمغاربي، تربط الجغرافيا بالتاريخ والأرض بالإنسان وهي تمرّ وتعبر من دولة إلى أخرى على مدار 14 يوماً تُذكّر العالم بفلسطين القضية والإنسان والمحرقة والإبادة والتجويع. 

لتعيد القضية الفلسطينية إلى عمق النضال المغاربي، وهي محاولة لأنسنة السياسة وإحياء العروبة واستدعاء القومية محمّلة برسائل أخلاقية داعمة ومساندة فيها الشباب والشيّاب ومن كلّ الأطياف والأعمار في دلالة معناها أنّ قضية فلسطين عابرة للأجيال.

 قافلة الصمود تعني التزاماً شعبياً جماعياً مغاربياً بدعم الشعب الفلسطيني ودعم صموده ومعركته، وهي رمز حيّ للإرادة الشعبية التي تتجاوز حسابات الأنظمة السياسية الرسمية، فبينما تكتفي هذه الأنظمة بالإدانة والشجب والاستنكار والبيانات والخطابات والشعارات تقدّمت الشعوب صوب فلسطين براً وبحراً لتُعبّر بصدق عن صدق دعمها للشعب الفلسطيني وانتمائها لقضيته ومظلوميته وعن التلاحم والوحدة.

 إن قافلة الصمود هي استفتاء شعبي حقيقي موضوعي على موقع فلسطين ووقعها لدى الشعوب المغاربية والعربية. وتعكس وعياً جمعياً متقدّماً، حيث تدرك الشعوب أنّ الدعم جبهة ومعركة أخرى ففي كلّ ناشط وكلّ شاحنة وكلّ حافلة تتحرّك صوب فلسطين رسالة مفادها نحن منكم ومعكم نريدكم أن تصمدوا وأن تثبتوا وألّا تنكسروا وألّا تنهزموا إننا نرى أنفسنا فيكم.

إن قافلة الصمود ليست حدثاً عابراً إنها تعيد تشكيل الوعي الشعبي العربي عموماً والمغاربي تحديداً لفلسطين وللمقاومة وللاحتلال، هذه القافلة هي حاضنة شعبية للمقاومة ممتدة من سوسة وصفاقس وقابس ومدنين ومعبر راس الجدير؛ وطرابلس ومصراتة وسرت وبنغازي وطبرق، والسلوم، والإسماعيلية وسيناء، إلى رفح وخان يونس ودير البلح وجباليا والشجاعية وبيت لاهيا.

قافلة الصمود نواة وبداية لحراك دولي وأممي مُلهم لشعوب كثيرة أخرى على الطريق؛ وهي تُكمل وتتزامن مع مبادرة سفينة مادلين، وكنت يوم الأحد 7 حزيران/يونيو 2025، قد تحدّثت مباشرة "صوتاً وصورة" إلى طاقم سفينة مادلين التي تزاحم النشطاء فيها كلّ منهم يريد إرسال رسالته إلى غزة، كان حولي مجموعة من الأصدقاء لم يصدّقوا أنّ هؤلاء ركبوا البحر وخاضوا الصعاب من أجل القدوم إلى فلسطين لنصرة غزة ورفع الحصار عنها، بعضهم انزوى وبكي كانت دقائق لا يمكن احتواؤها ووصفها ببضع كلمات، تداعى الأصدقاء ونادوا على بعضهم البعض لرؤية نشطاء السفينة مادلين، كنّا على يقين بأنّ الاحتلال لن يتركها تصل إلى شواطئ غزة، لكننا شعرنا بفخر وبدعم وبجرعة معنويات كافية لمواجهة هذه الإبادة، سفينة مادلين كانت جرعة من التفاؤل من الإنسانية لأكثر من 2 مليون فلسطيني في قطاع غزة. انتظروها لكنها لم تصل!

الآن مصير قافلة الصمود مُعلّق على إرادة سياسية عربية ودولية رسمية قد لا يُسمح للقافلة بالدخول إلى غزة وهذا على الغالب هو السيناريو الذي سيقوم به الاحتلال، لكن هذا لا يُفقد القافلة رسائلها ومعانيها والتقاط الشعب الفلسطيني في قطاع غزة لكلّ ذلك. نتمنّى أن تمرّ القافلة وتحطّ في أرض غزة لكنّ تعذّر ذلك لا يعني أنّ رسائلها لم تصل. وستبقى قافلة الصمود أوّل محاولة مغاربية شعبية تتجه صوب غزة لدعم صمود شعبها ونصرته ومساندته، في وقت انزوت فيه الدول العربية وأنظمتها.

تأتي قافلة الصمود البرية المغاربية ونحن في غزة في أشدّ اللحظات نزوحاً وجوعاً وقهراً وإبادة؛ تأتي في وقتها وتوقيتها لتُعيد إلينا الأمل بالظهير العربي الشعبي؛ إننا لا نرى فيها مجرّد قافلة بل روحاً عربية مغاربية داعمة مساندة رفضت أن تتركنا وحدنا نواجه هذه الإبادة، أملنا فيها كبير وعشمنا بها ممتد؛ ننتظر غيرها وأخواتها ورهاننا عليها عابر للجغرافيا والحسابات السياسية الرسمية. 

ننتظركم في قافلة الصمود لنفرش أهداب أعيننا لكم فإنكم نصرتمونا وناصرتمونا عندما خذلنا وتخلّى عنّا القريب والبعيد. لا حديث هنا في غزة إلّا أنّ المغاربة حرّكوا أسطولاً برياً شعبياً باتجاه غزة وإن قُدّر للقافلة ألّا تصل لأسباب سياسية وصهيونية فإنّ رسائلها قد وصلت بمجرّد أن تحرّكت ووضعت غزة نصب عينيها.