كيف لا يكون رئيس الشاباك مستعرباً؟

جاء ترشيح نتنياهو لزيني في وقت يشكو فيه معظم المفكّرين في الكيان، من خطر تفكّك القيم الليبرالية والديمقراطية في هذا الكيان، وهو ما دفع بعضهم لمطالبة القضاء الإسرائيلي باعتقال نتنياهو.

0:00
  • يؤمن الجنرال زيني بالأسطورة الدينية التوراتية التي تعتبر العرب مجرّد عبيد.
    يؤمن الجنرال زيني بالأسطورة الدينية التوراتية التي تعتبر العرب مجرّد عبيد.

تأسس جهاز المخابرات الإسرائيلي قبل قيام الكيان الإسرائيلي، عبر شبكة عنكبوتية من خمسة أبعاد تداخلت في مختلف مجالات الحياة، كان عقلها الأساس نواة الاستعراب، وهي التي ظهر نشطاؤها في القرى العربية قبل إقامة "دولة" الكيان الإسرائيلي، وتكفّلوا باختراق المجتمعات العربية، وهم يتقنون اللغة العربية ويمارسون العادات والتقاليد العربية، ويظهرون اطلاعاً واسعاً على الثقافة الإسلامية، وهو ما جعل مؤسس الكيان الإسرائيلي دافيد بن غوريون يتفاخر أنه يندر وجود أكاديمي أو سياسي في "إسرائيل" لم يتثقّف على أيدي مستعربي الاستخبارات، ما خلق في مؤسسات الكيان الإسرائيلي جيشاً من البروفسورات وترسانة من الأدمغة المحيطة بشتى جوانب الحياة العربية.

حرص بن غوريون على دعوة المستشرقين اليهود للتطوّع للمهام الأمنية والصناعية والاجتماعية، بهدف تحقيق الشرعية الأيديولوجية تبعاً لنزعته اليسارية، وليس الاكتفاء بالانتماء اليهودي الديني ما يتجاوز باحثي التوراة، فكان لا بدّ من علماء الفكر والروح وهو ما جسّد تحالفاً غير مكتوب بين علماء البحث وقادة الميدان، ما يفسّر أنّ قائد أركان "الجيش" الإسرائيلي غداة النكبة يغآل يدين كان عالماً للآثار، كما أنّ نائب بن غوريون، موشي شاريت وهو أول وزير خارجية في الكيان الإسرائيلي، عاش في قرية عربية لمدة سنتين هو وأولاده، حتى يفهم البيئة العربية فهماً واقعياً.

تمثّل اللغة العربية جوهر الاستشراق الإسرائيلي المتصل بالبعد الأمني الاستخباري، في كيان يحتل شعباً عربياً ويعيش حرباً مفتوحة مع كل المحيط العربي، ما يفرض على رجل المخابرات اتقان اللغة العربية بالبديهة، وهو ما كشف عنه الباحث الإسرائيلي يونتان ماندل في بحث استقصائي عن تعاون وثيق بين مركزَي جفعات حبيبه وأولبان عكيفا، المعنيين بتدريس العربية في الكيان الإسرائيلي من جهة، وبين جهاز الاستخبارات و "جيش" الاحتلال اللذين يقدّمان الدعم المالي من جهة أخرى؛ لتدريس العربيّة لأهداف أمنيّة واستخبارية، كما يشير إلى أنّ تدريس العربية يتمّ في سياق أمني وعسكري منذ القرن الماضي عبر مراكز متخصصة في القدس وحيفا.

يتبجّح معظم عناصر الشاباك، وهو جهاز المخابرات الداخلي، أنهم يتقنون العربية ويفهمون القرآن والإسلام أكثر من المشايخ، خاصة في أقبية التحقيق حيث مسالخ التعذيب التابعة لهذا الجهاز، ولا يعقل أن يجهل رجال الشاباك اللغة العربية، وكان مفهوم في الأوساط الإسرائيلية وجود مستشرق وعالم آثار عجوز مع قوات جولاني، وهو زئيف إيرلتش في الهجوم على قلعة النبي شمعون قرب قرية شمع في جنوب لبنان نهاية العام الماضي، حيث قتل بهجوم لمجموعة من حزب الله، ما سبّب صدمة في الشارع الإسرائيلي خاصة أنه كانت بصحبة قوات جولاني من دون إذن رسمي.

أثار ترشيح نتنياهو للجنرال دافيد زيني لرئاسة الشاباك موجة سخط عارمة، تجاوزت كون هذا الترشيح جاء بعد ساعات من إعلان المستشارة القضائية للحكومة عدم شرعية إقالة رئيس الشاباك رون بار، ما يعني عدم شرعية أي تعيين بديل، كما تجاوزت حالة السخط أن هذا المرشح لرئاسة الشاباك ما زال على رأس عمله في "الجيش" ويخضع لقيادة مباشرة من رئيس هيئة الأركان، وأيّ تواصل بين ضباط الجيش والمستوى السياسي يتم فقط عبر مكتب هيئة الأركان، والمفاجأة أن حالة السخط هذه فتحت ملفاً حساساً عبر القناة الـ14 وهي قناة إعلامية يمينية مؤيدة لنتنياهو، لأنّ المرشح للمخابرات لم يعمل سابقاً في المخابرات وهو حتى لا يتقن اللغة العربية، على الرغم من أنه يهودي من أصول جزائرية.

يشير عدم انتماء زيني المسبق للشاباك، وجهله بأبجديات العمل الاستخباري في واقع إسرائيلي يستند الأمن فيه على المخابرات ومدى اختراقها للنسيج العربي، إلى حجم الفجوة الآخذة بالاتساع بين المستوى السياسي والمستوى الأمني في الكيان الإسرائيلي، إضافة إلى الفجوة العميقة بين الأطماع السياسية لنتنياهو وبين أصول عمل قادة مؤسسته الأمنية، خاصة أن هذا المرشح بحسب وصف نتنياهو السابق له، متعصّب دينياً لذا استبعده من الترشيح لرئاسة الأركان منذ فترة وجيزة.

يؤمن الجنرال زيني بالأسطورة الدينية التوراتية التي تعتبر العرب مجرّد عبيد وخدم لشعب الله المختار، وهو ما تبجّح به والد زوجته الحاخام كشتئيل صراحة وهو يتناول الخلل الجيني عند العرب، والأخطر أنّ هذا المرشّح يعتقد أنّ العرب يخطّطون طوال الوقت لقتل اليهود، لذا هو يؤمن بالحرب الأبدية بين الطرفين، وفي غزة تحديداً فهو أعلن صراحة أنها حرب أبدية حتى لو كانت على حساب حياة الأسرى الإسرائيليين، وهنا ترى عوائل هؤلاء الأسرى أنّ هذه القناعة عند زيني هي السبب الرئيس لترشيحه من قبل نتنياهو.

جاء ترشيح نتنياهو لزيني في وقت يشكو فيه معظم المفكّرين والباحثين في الكيان الإسرائيلي، من خطر تفكّك القيم الليبرالية والديمقراطية في هذا الكيان، وهو ما دفع بعضهم لمطالبة القضاء الإسرائيلي باعتقال نتنياهو حماية لهذه القيم التي قامت عليها أسس الكيان.

ويبدو أنّ نتنياهو يتخوّف بالفعل من هكذا احتمال لهذا هو يستبق التطوّرات، ويبدو بروز نجم زيني كجنرال متعصّب دينياً يؤمن بالتعليم التوراتي، ويطبّق أحكام التوراة لهذا أنجب 11 طفلاً، وهو بالأساس ترعرع وسط عائلة توراتية كثيرة الأبناء، يأتي الآن ليقود أخطر أجهزة "الدولة" وهو بينه وبينها بون شاسع في طبيعة التخصص، خاصة وهو لا يملك أدنى مساحة في محاولة فهم عقل العدو العربي، ليمثّل إضافة جديدة لافتة في تحوّل الكيان الإسرائيلي عن طبيعة الدور المناط به وسط حرب لا يراد لها أن تتوقّف.