لبنان بين الدبلوماسية القسرية و"التفاوض غير المتكافئ"

يفاوض لبنان اليوم في إطار "استراتيجية البقاء" مستخدماً الدبلوماسية كآخر الحصون للخروج من مأزق لا حلّ له، في مواجهة آلة القتل الإسرائيلية التي تتغوّل في كلّ المنطقة.

0:00
  • ابنان.. تفاوض غير متكافئ!
    ابنان.. تفاوض غير متكافئ!

يشهد ملف التفاوض بين لبنان و"إسرائيل" تحوّلاً بنيوياً في الآليات والتمثيل، يتجاوز الطابع التقني ـــــ العسكري الذي ساد سابقاً في اجتماعات الناقورة الثلاثيّة التي سبقت الحرب الأخيرة، والتي تطوّرت لاحقاً إلى ما يُسمّى لجنة "الميكانيزم" التي أُضيف إليها ممثّلون عن الدول الضامنة (الولايات المتحدة الأميركية وفرنسا). 

إنّ خطوة لبنان بضمّ السفير السابق سيمون كرم إلى اللجنة ـــــ "الآلية"، والتي قابلها تعيين "إسرائيل" لمبعوث من مجلس الأمن القومي، تشير إلى تحوّل مفصلي، يستدعي قراءة لمعرفة مدى قدرة لبنان على استثمار هذا المسار للتخلّص من التهديدات والحرب العسكرية والنفسية التي تمارس عليه.

أولاً: حالة "النضج" في النزاعات

وفقاً لنظرية "النضج" التي ابتكرها ويليام زارتمان فإنّ المفاوضات تبدأ بجدّية عندما يصل الطرفان إلى "مأزق مؤلم متبادل"، حتى لو لم يكن بشكل متكافئ. تساعد هذه النظرية في تفسير سبب مقاومة الأطراف للتفاوض لفترة طويلة ثم قبولها فجأة.

الاعتبارات النظرية لمبدأ "النضج":

-الجمود المؤذي المتبادل: هذه هي الحالة الجوهرية التي يتورّط فيها الأطراف في صراع يضرّ بجميع الأطراف، ولا يمكن لأيّ منهم تحقيق نصر حاسم منه.

-المخرج المُتصوَّر: بعد الجمود المؤلم، يجب أن تؤمن الأطراف بوجود طريق للحلّ، مما يجعل التفاوض أو الوساطة بديلاً مرغوباً فيه لاستمرار الصراع.

-"لحظة النضج": هذه هي اللحظة المحدّدة التي يتحقّق فيها كِلا الشرطين، مما يخلق لحظة مناسبة للتفاوض. يمكن أن تنشأ هذه اللحظة من خلال حصول حرب، أو لتجنّب حرب قد تتسبّب بالمزيد من الألم والدمار.

- مع الوصول إلى هذه المرحلة من الجمود، واقتناع الأطراف بضرورة تجنّب أوضاع أسوأ، يتدخّل طرف ثالث فيقدّم أفكاراً جديدة ومرنة لكسر الجمود.

ثانياً: تفاوض غير متكافئ

في الواقع، يعرف اللبنانيون بأنهم يخوضون "تفاوضاً غير متكافئ". الموقف الإسرائيلي يزداد تعنّتاً مع كلّ مبادرة يطلقها رئيس الجمهورية اللبنانية جوزاف عون.

منذ وقف إطلاق النار، تتبنّى "إسرائيل" ومعها الولايات المتحدة الأميركية، استراتيجية "الدبلوماسية القسرية" والتي تعني استخدام التهديد بالقوة، أو استخدام قدر محدود منها، لإجبار الخصم على التراجع أو القبول بشروط معيّنة من دون الحاجة لخوض حرب شاملة ومفتوحة.

وعملياً، تمارس الولايات المتحدة و"إسرائيل" تقسيماً وظيفياً للأدوار لتحقيق هذا المبدأ:

1. الذراع الإسرائيلي (الضغط الحركي): استمرار العمليات العسكرية والضغط الميداني والتهديد بحرب شاملة لخلق واقع يفرض تنازلات.

2. الذراع الأميركي (الخنق الاستراتيجي): استخدام أدوات الاقتصاد والسياسة والدبلوماسية للضغط على لبنان، بهدف دفعه للقبول بالشروط الإسرائيلية كخيار "أقل كلفة" من استمرار الحرب.

أما حالة "النضج" التي يشار اليها في الإطار النظري، فهي تبدو مفروضة قسراً، وليست نتاج قناعة متبادلة بالحل، والأكيد أنّ "الجمود المؤذي" ليس متكافئاً بين لبنان و"إسرائيل": 

أ‌- يريد لبنان الخروج من الأزمة المتصاعدة والتخلّص من الاستنزاف المكلف، أو إبعاد شبح حرب إسرائيلية.

ب‌- بينما تدرك الولايات المتحدة، ومعها "إسرائيل"، أنّ حرباً إسرائيلية على لبنان، وحتى لو كانت مدمّرة للبنان، ومؤلمة لحزب الله وبيئته بشكل غير متناسب، فإنها قد لا تؤدّي إلى نزع سلاح الحزب بالضرورة، أو دفعه لتسليم سلاحه من دون مقابل.

وعلى هذا الأساس، يكون التفاوض غير متكافئ في الأهداف أيضاً، حيث يسعى الجانب الأميركي ـــــ الإسرائيلي الى تحقيق مبدأ جوهري صاغه المفكّر الصيني صن تزو، في كتابه "فنّ الحرب" حيث يقول: "إنّ قمّة المهارة ليست تحقيق مئة انتصار في مئة معركة، بل إخضاع العدو من دون قتال".

في المقابل، يستخدم لبنان الدبلوماسية كأداة لـ "شراء الوقت" و"سحب الذرائع" من الإسرائيليين لتبرير عدوانهم على لبنان. يفاوض لبنان اليوم في إطار "استراتيجية البقاء" مستخدماً الدبلوماسية كآخر الحصون للخروج من مأزق لا حلّ له، في مواجهة آلة القتل الإسرائيلية التي تتغوّل في كلّ المنطقة من دون رادع.