لماذا طالت الحرب الإسرائيلية على غزة؟

أسهم ضعف إدارة الرئيس الأميركي السابق في نجاح خطة نتنياهو في إطالة أمد الحرب، كما أسهم حرص بايدن الأيديولوجي على مصلحة "إسرائيل " في مجاراة نتنياهو وعدم عرقلة مساره مع علمه ببواعثه الشخصية.

  • أسهمت عوامل مختلفة في استمرار الحرب على غزة لفترة أطول مما توقعه أكثر المتشائمين.
    أسهمت عوامل مختلفة في استمرار الحرب على غزة لفترة أطول مما توقعه أكثر المتشائمين.

مرّ نحو عام ونصف على الحرب الإسرائيلية على غزة، ولا تزال الحرب مستمرة وبوتيرة أكثر وحشية وإجرامية وصلت إلى حدّ فرض إغلاق محكم وشامل لجميع المعابر التي تحيط بقطاع غزة، ووقف كليّ للمساعدات الإنسانية الغذائية والطبية والوقود، وحتى قطع خطوط المياه الشحيحة أصلاً، وفصل شامل وكليّ للتيار الكهربائي (تم فصل آخر خط كهربائي كان يغذي محطة صرف صحي بدير البلح بعد استئناف الحر).

مع العلم أن المساعدات الإنسانية كانت بالكاد تغطي جزءاً يسيراً من احتياجات الغزيين إبان سريان الهدنة المؤقتة قبل استئناف الحرب منذ ثلاثة أسابيع تقريباً، والتي ضاعف فيها "جيش" الاحتلال عدوانه واستهدافه العشوائي لمنازل المواطنين الآمنين. ففي اليوم الأول من الخرق الإسرائيلي لوقف إطلاق النار، دمّرت الطائرات الإسرائيلية عشرات المنازل على رؤوس ساكنيها ما أسفر عن استشهاد نحو 400 فلسطيني أكثر من ثلثيهم من النساء والأطفال، الأمر الذي يثير تساؤلاً حول أسباب استمرار الحرب على غزة حتى بعد عام ونصف من اندلاعها، ولماذا فشلت الجهود كافة لوقفها؟

على الرغم من اكتساب الحرب على غزة عند اندلاعها تأييداً ودعماً داخلياً إسرائيليين يشبهان الإجماع، وذلك على خلفية الصدمة الإسرائيلية بعد السابع من أكتوبر 2023؛ والتي ولّدت رغبة جامحة لدى الشرائح الإسرائيلية كافة بالانتقام من غزة بكل ما فيها من بشر وحجر وشجر، بيد أن الإجماع الداخلي الإسرائيلي على استمرار الحرب تراجع مع مرور الوقت وإطالة أمد الحرب، وفي آخر استطلاع للرأي العام، أيّد نحو ثلثي الإسرائيليين إنهاء الحرب، كما تعالت أصوات داخل "الجيش" تطالب بوقف الحرب والإفراج عن الأسرى الإسرائيليين، أبرزها الرسالة التي نشرها نحو ألف طيار وأعقبتها رسائل مشابهة من مئات العساكر في سلكي الاستخبارات والطب، بيد أن رسالة الطيارين كانت الأخطر، وتكاد تكون غير مسبوقة إذ لم تكتف بالمطالبة بوقف الحرب بل اتخذت خطوة عملية برفض الخدمة بسبب ما عدّوه أجندات شخصية وسياسية وراء استئناف الحرب وليس دوافع "وطنية"، الأمر الذي دفع رئيس الأركان الإسرائيلي ايال زمير وبتأييد من رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه إسرائيل كاتس إلى فصل الطيارين النظاميين الموقّعين على الخطاب وعددهم نحو مئة طيار.

أسهمت عوامل مختلفة في استمرار الحرب لفترة أطول بكثير مما توقعه أكثر المتشائمين، بيد أن الأبعاد الداخلية الإسرائيلية والحسابات السياسية "غير المهنية" تعدّ المسبب الرئيسي لإطالة أمد الحرب، كما أسهمت شخصية نتنياهو وسماته الفريدة في الخداع والمراوغة والقدرة الاستثنائية على تسخير مختلف التناقضات كي ينجح في معركة البقاء على رأس السلطة باعتبارها الغاية التي تبرر له الوسائل المشروعة وغير المشروعة، فأسهمت شخصيته في تخطي أسوأ كابوس في تاريخ "إسرائيل" منذ نشأتها من دون أن يستقيل أو يتحمّل المسؤولية الشخصية أو حتى يشكّل لجنة تحقيق رسمية، وسبيله الوحيد للنجاة استمرار الحرب من دون استراتيجية وبأهداف هولامية غير ملموسة ومستحيلة التحقق، حتى إن أحد الكتاب الإسرائيليين تهكّم مستغرباً من بقاء نتنياهو وحكومته بعد عام ونصف على "الكارثة " من خلال افتراضه نزول كائن فضائي بعد هذه المدة فلن يتخيل أن يرى نتنياهو ما زال على رأس الحكومة الإسرائيلية.

نتنياهو حتى الآن نجح في إطالة أمد الحرب من خلال اتباع سياسة الخداع التي يجيدها، ووسيلته الوحيدة ليضمن نجاته من السجن وتماسك حكومته هي الحرب الأبدية، وحجته تثير هواجس الإسرائيليين ومخاوفهم الدائمة بعدم السماح بتكرار "كارثة" السابع من أكتوبر، ومن أجل ذلك، يجب على "إسرائيل" أن تبقى في حالة حرب دائمة مع "أعدائها" الحاليين والمفترضين ويجب ألا تقف عند غزة بل تستمر في لبنان واليمن وتتصاعد في سوريا وتتهيأ لإيران وحتى تستعد لحرب محتملة مع مصر وتركيا.

يبرر نتنياهو استئناف الحرب على غزة، بعد خرق "جيشه" اتفاق وقف إطلاق النار، بممارسة الضغط العسكري لإجبار المقاومة على الإفراج عن الأسرى الإسرائيليين، وبعد نحو ثلاثة أسابيع سيطر خلالها "الجيش" الإسرائيلي على أكثر من ثلث مساحة القطاع (حتى الآن، من دون مؤشرات إلى تنازلات، أو استسلام، أو خضوع المقاومة)، وتوسُّع الهجمات في سوريا، وتصعيد اللهجة تجاه تركيا، وإطلاق صواريخ من اليمن، وهجمات في لبنان، ومواجهات في الضفة الغربية، وترقُّب الاستعدادات للهجوم على إيران، حتى تحوّلت الحرب إلى واقع ثابت في "إسرائيل" لأنها ليست إلا حرب نتنياهو التي اختارها من دون استراتيجية حتى تستمر لأطول فترة زمنية تمكنه من النجاة والبقاء، من منطلق الإدراك أن صياغة استراتيجية ستثير قضايا معقدة، وستتطلب قرارات ستقوّض وحدة الائتلاف اليميني الحاكم.

لذا، يلجأ نتنياهو إلى الشعارات الجوفاء التي تثير حماسة قواعده الشعبية مثل النصر المطلق في غزة. ويعتمد على الفرضية القائلة إن استخدام مزيد من القوة سيؤدي إلى مرونة "المقاومة"، وأن هناك دائماً "علامات تدل على الانكسار" في المنظمة، والإيمان الراسخ بأن خطة ترامب بشأن غزة قابلة للتحقيق، على الرغم من أنه لا توجد أيّ دولة مستعدة للتعاون معها، وواشنطن نفسها تفقد اهتمامها بها، وأن "الجيش" سينجح، من خلال سحق مخيمات اللاجئين في الضفة الغربية وإفراغها 

، في محو ذاكرة اللجوء من وعي الفلسطينيين، والقضاء على "التطرف" لديهم، وأن "إسرائيل " في طريقها إلى تشكيل شرق أوسط جديد، أكثر استقراراً وأصدق تجاهها.

كلها وغيرها من شعارات نتنياهو الجوفاء والتي أراد بها أن يستبدل هزيمة السابع من أكتوبر بـ"حرب النهضة" على غرار تسمية ديفيد بن غوريون، أول رئيس وزراء بعد احتلال فلسطين، للحرب عام 1948 بـ"حرب النهضة"، فالرجل مهووس بتشبيه نفسه برموز تاريخية كتشرشل وبن غوريون، بيد أن العالم لم يره مؤخراً إلا كتلميذ مطيع بين يدي دونالد ترمب في المكتب البيضاوي.

أسهم ضعف إدارة الرئيس الأميركي السابق جو بايدن في نجاح خطة نتنياهو في إطالة أمد الحرب، كما أسهم حرص بايدن الأيديولوجي على مصلحة "إسرائيل " في مجاراة نتنياهو وعدم عرقلة مساره مع علمه ببواعثه الشخصية والداخلية، على الرغم من الإهانات التي تعرض لها بايدن عبر تصوير نتنياهو له ولإدارته بأنهما لا يمنحان الدعم الكامل لـ "إسرائيل"، وذلك لرغبة نتنياهو في تعزيز فرص دونالد ترامب في الفوز في الانتخابات ولتعزيز شعبية نتنياهو في أوساط اليمين بوصفه القادر على معارضة الإدارة الأميركية من أجل المصلحة الإسرائيلية حتى قال مقولته المشهورة بأن "إسرائيل" إذا اضطرت فستقاتل بأظفارها، وذلك رداً على تهديد بايدن له بحجب نوع معين من الصواريخ التي تزن 2 طن. بيد أن نتنياهو الذي استدعي على عجل لمقابلة ترامب لم يعبّر عن الامتعاض من تصريح ترامب حول بدء المفاوضات مع إيران، وإن بدت الصدمة في ملامحه واضحة، وزادت صدمته بقول ترامب إنه يحب إردوغان، كما لم يتراجع عن فرض الرسوم الجمركية على "إسرائيل" معتبراً أن ما تحصل عليه نحو 4 مليارات دولار سنوياً هو مبلغ سخي للغاية.

على صعيد الحرب على غزة، يتضح أن ما سيجهض مسار نتنياهو في حربه الأبدية هو مصالح ترامب غير الملتزم أيديولوجياً مع "إسرائيل" ولا تحركه إلا مصالحه ونزعاته الشخصية، ويبدو أن وجهة ترامب وزيارته عدداً من دول الخليج الشهر المقبل لدوافع اقتصادية، ستدفع نتنياهو إلى الإذعان للإملاء الأميركي القادم.

 

في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 أعلنت كتائب القسام معركة "طوفان الأقصى"، فاقتحمت المستوطنات الإسرائيلية في غلاف غزة، وأسرت جنوداً ومستوطنين إسرائيليين. قامت "إسرائيل" بعدها بحملة انتقام وحشية ضد القطاع، في عدوانٍ قتل وأصاب عشرات الآلاف من الفلسطينيين.