ليبيا: هل يُجهض صراع الإرادات استحقاق الانتخابات؟!

ما شهدته ليبيا من مشاركة في الانتخابات البلدية يعكس حيوية الشارع الليبي ورغبته بالذهاب صوب الاستقرار والشراكة السياسية والتنمية الاقتصادية.

0:00
  • الانتخابات البلدية في ليبيا اختبار للتماسك الوطني وقدرة الليبيين على إدارة شؤونهم.
    الانتخابات البلدية في ليبيا اختبار للتماسك الوطني وقدرة الليبيين على إدارة شؤونهم.

بعد جمود فرضته الصراعات السياسية والحسابات الحزبية تحرك المشهد السياسي في ليبيا وسط حقل ألغام من التوتر والاضطراب صوب الانتخابات البلدية في مرحلتها الثانية. الرهان المحلي والأممي على تجاوز العقبات والمُعيقات كبير ولكنه اصطدم بواقع أن التجربة الديمقراطية ما زالت في طورها الأول، المهم أن المرحلة الثانية من الانتخابات البلدية مرت وانتهت.

أُجريت الانتخابات في بعض البلديات وتعطلت أو مُنعت في بلديات أخرى، لكن المعطى الأهم هو أن هناك رغبة شعبية ليبية حقيقية في إنجاح التجربة وفي ضرورة اجتياز العوائق، صحيح، لم يخلُ الأمر من معطيات تدلل وتؤكد بأن ملامح الصراع باقية، لكن أن تأتي التجربة ولو متأخرة أفضل من البقاء في مربع التعطيل والجمود.

وشهدت ليبيا انتخابات بلدية في عدة مراكز اقتراع في غرب البلاد وسط منع العملية الانتخابية في مدن الشرق والجنوب الواقعة تحت سلطة حكومة البرلمان وقوات المشير خليفة حفتر، ويبقى السؤال بعد جمود اضطراري لماذا مُنع إجراء الانتخابات في بعض البلديات، وما دلالات ذلك سياسياً؟، هل هناك أطراف سياسيون من مصلحتهم إجهاض التجربة الديمقراطية في ليبيا ولو اقتصرت حتى على مجرد الانتخابات البلدية؟. 

سيبقى يوم 16 آب/ أغسطس 2025، بكل حيثياته يوماً مشهوداً في مسار المشهد الليبي وتحديداً في سياق الانتخابات البلدية؛ سواء لجهة دعم وتأييد الذهاب إلى الانتخابات البلدية أم لجهة المنع والتعطيل، المهم أن هناك عشرات الآلاف من الليبيين - 71% من الناخبين- الذين عبروا عن خيارهم بالذهاب إلى التجربة إلى استكمال مشروع التحول الديمقراطي.

 ورغم المنع والقمع، اختار الشعب الليبي ممثليه في أكثر من 20 بلدية، ولا سيما العاصمة طرابلس، ورغم اضطرار المفوضة العليا للانتخابات إلى تأجيل الاقتراع في العديد من المراكز بسبب مخالفات وحوادث المنع والقمع، إلا أن ما حدث يعد اختباراً حقيقياً وتمهيدياً لاستحقاقات انتخابية أخرى مقبلة، الرئاسة والبرلمان المؤجلة والمعطلة منذ 2021.

وانتظر الليبيون منذ عام 2021 انعقاد انتخابات رئاسية وبرلمانية كان محدداً لها كانون الأول/ ديسمبر من ذلك العام، إلا أنها أرجئت لأجل غير مسمى بسبب النزاع بين سلطات الشرق والغرب.

وجرت الانتخابات البلدية في المرحلة الثانية من انتخابات المجالس البلدية في 26 دائرة، بينما جرى تعليق العملية وإيقافها في 26 بلدية بأمر من الحكومة المكلفة من البرلمان الليبي برئاسة، أسامة حماد، كما جرى ترحيل الانتخابات في 7 بلديات إلى الـ23 من آب/ أغسطس الجاري بسبب تظاهرات وهجوم وحرق لبعض مقارّ مفوضية الانتخابات الليبية.

كادت أن تجهَض التجربة، والسبب هو الصراع والنزاع والانقسام والاقتسام الذي تشهده ليبيا بين حكومة الوحدة الوطنية برئاسة عبد الحميد الدبيبة، المدعومة أممياً، وتتخذ من طرابلس (غرب) مقراً لها، وحكومة في بنغازي(شرق) والتي يدعمها المشير خليفة حفتر والبرلمان.

 وكان من المقرر إجراء الانتخابات في 63 بلدية،41 في الغرب و13 في الشرق و9 في الجنوب. غير أن المفوضية الوطنية العليا للانتخابات أعلنت أن الانتخابات ستقتصر على 26 مجلساً بلدياً فقط، وبالتتالي، بينما كان عدد الناخبين يناهز 380 ألف شخص، جرى اقصاء أكثر من 150 ألف ناخب وناخبة، وأكثر من 1000 مرشح ومرشحة عن ممارسة حقهم في انتخاب من يدير شؤون بلدياتهم ويمثلهم" في المدن بسبب تعطيل الانتخابات في بعض البلديات.

المفارقة أن البعثة الأممية التي يُفترض أن لديها خارطة طريق لتسوية الأزمة الليبية، ويعوّل عليها لإخراج المشهد الليبي من عنق الزجاجة؛ اكتفت بإدانة ما قامت به قوات حفتر.

 في مشهد يعكس تداخل العسكري بالسياسي والأمني بالقبلي والوطني بالجهوي، قام جهاز الأمن الداخلي التابع للواء خليفة حفتر بإصدار أوامر بوقف الانتخابات البلدية في عدد من بلديات الشرق والجنوب. ما يحيل أي قراءة تحليلية أو استشراف موضوعي إلى ما يمكن أن تكون عليه أي تجربة ديمقراطية مقبلة للانتخابات الرئاسية والبرلمانية، أن تجهَض لرغبة طرف ما في إجهاضها، لأنها تتعارض مع حساباته، فيوعز لأي جهاز أمني بوقفها بدلاً من حمايتها وضمان استمراريتها.

إقحام الانتخابات البلدية في الصراعات السياسية التي تعصف بالمشهد السياسي الليبي تبعاته خطيرة، وإحدى دلالاته أننا أمام إصرار لأطراف بعينهم على إجهاض أي تحول ديمقراطي يُفضي إلى الاستقرار السياسي، وأننا أمام صراع إرادات يقاتل من أجل إجهاض أي استحقاق انتخابي حتى ولو اقتصر على البلديات.

رغم الصراع ومحاولات إجهاض التجربة مبكراً، إلا أن ما حدث في الانتخابات البلدية الليبية في مرحلتها الثانية يعني أن هناك رغبة شعبية ليبية حقيقية بالذهاب صوب الخيار الديمقراطي، وأن هذه الرغبة الشعبية تهدد القوى السياسية المهيمنة، وأن سعيها لإجهاض التجربة لأنها استشعرت أن بساط الغنائم والمكاسب يُسحب من تحت قدميها، فعارضت ثم خربت حتى منعت إجراء الانتخابات في بعض البلديات. 

وما حدث من منع سيُفضي إلى تحول في مواقف القوى السياسية والأممية الداعمة والدافعة بضرورة استكمال تجربة الانتخابات، وما حدث أفضى إلى انكشاف البعض أمام الرأي العام الليبي.

التوظيف السياسي الذي تعرضت له الانتخابات البلدية ولا سيما في المنع والقمع، يعني أن العقلية القبلية ما زالت تتغلب على العقلية السياسية، وأن هناك مشواراً اضطرارياً وإجبارياً يجب أن يمر به الشارع الليبي في طريقه إلى الوعي السياسي والمشاركة السياسية، من دون وصاية من أي طرف، وهذا ممكن، لكنه بحاجة إلى جهد سياسي وطني وحدوي، يغلّب الوطن على الحزب والمواطن على القبيلة. 

إن منع الانتخابات في بعض البلديات مؤشر خطير ومُقلق قد يمتد مستقبلاً إلى منع الانتخابات البرلمانية والرئاسية، وبالتالي، الاحتكام إلى فرض الأمر الواقع بقوة السلاح والعسكرة، ما يعني البقاء في المربع ذاته والاحتكام للمحاصصة والاقتسام، بدلاً من المشاركة والشراكة على قاعدة الانتخابات.

 وبالتالي، فإن إقحام البلديات في الصراع السياسي يحوّلها من مؤسسات خدمية إلى أدوات للمناكفات السياسية، وهذا يوسع من مساحات الانقسام السياسي ويُجهض أي مسار نحو الانتخابات والتحول الديمقراطي والاستقرار السياسي.

ما حدث في الانتخابات البلدية الليبية يُعّد دليلاً قاطعاً على أن هناك تناقضات في الحسابات السياسية، وأن هناك اتجاهاً سياسياً يُعارض ويرفض الذهاب نحو أي تحول ديمقراطي، يُفضي إلى الاستقرار السياسي بواسطة الانتخابات، ويريد إبقاء الوضع على ما هو عليه. وبالتالي، فإن الصراع الآن بين توجه يسعى لتسييس المشهد الليبي وفق مقتضيات الشراكة السياسية، وتوجه آخر يريد الإبقاء على عسكرة المشهد السياسي الليبي. 

رغم المنع والقمع،يُعدّ إجراء الانتخابات البلدية فرصة مهمة جداً لترسيخ مبدأ المشاركة السياسية الشعبية وإشراك الناس في تقرير مصيرهم وممثليهم، والتحلل من تعقيدات الوصاية السياسية والتجاذبات الحزبية والقبلية والجهوية والعسكرية.

 وما شهدته ليبيا من مشاركة في الانتخابات البلدية، يعكس حيوية الشارع الليبي ورغبته بالذهاب صوب الاستقرار والشراكة السياسية والتنمية الاقتصادية.

ختاماً نجاح الانتخابات البلدية لا يُقاس فقط بنسبة المشاركة، بل بقدرة المجالس المنتخبة على إدارة الخدمات، وحماية استقلالها، ومنع توظيفها سياسيًا. كما أنها قد تكون بوابة لاستئناف المسار السياسي العام، إذا استُثمرت بشكل وطني بعيدًا من المحاصصة.

إن الانتخابات البلدية في ليبيا ليست مجرد إجراء إداري، بل هي اختبار حقيقي للتماسك الوطني وقدرة الليبيين على إدارة شؤونهم رغم الانقسام. وإذا ما جرى دعمها وتحصينها، فقد تكون خطوة أولى على طريق المصالحة والدولة المدنية.