مئة يوم على الاجتياح الإسرائيلي لشمال الضفة هل تحقّقت الأهداف؟

تخيّم حالة من شدّ الأعصاب بين أهالي شمال الضفة و"جيشّ الاحتلال، شدّ للأعصاب يفتح فضاء الميدان نحو المفاجآت، وهذا مرتبط بعوامل تتصل باختبار التطبيع الميداني ومستواه.

0:00
  • الاحتلال يقترب سريعاً من التطبيع الرسمي الكامل لمخطّط ضمّ المجمّعات الاستيطانية في الضفة.
    الاحتلال يقترب سريعاً من التطبيع الرسمي الكامل لمخطّط ضمّ المجمّعات الاستيطانية في الضفة.

بعد مئة يوم من الاجتياح الإسرائيلي لشمال الضفة، يظهر "جيش" الاحتلال في مدينة جنين وكأنه في يومه الأول، في وحشية التعامل وطبيعة الانتشار وعمليات التجريف ومستوى المداهمات والتنكيل، هل هو سلوك مقصود في هذا التوقيت؟ أم تكتيك ميداني فرضته طبيعة التطوّرات على الأرض؟أم إقرار بالفشل رغم النجاحات الأمنية الموضعيّة خاصة في تهجير المخيمات وتدميرها؟ وأين وصلت أهداف هذا الأداء العملياتي في أبعاده السياسية والنفسية والأمنية؟

تطبيع وتخريب، مزاوجة إسرائيلية في الأداء الميداني لقوات الاحتلال في شمال الضفة، وهي تكمل مئة يوم من عملية السور الحديدي، فمن جهة يتمّ فتح حاجز الجلمة كلّ سبت منذ شهر، ليدخل أهلنا في الداخل المحتل عام 48، وهو دخول ينتفع من خلاله أهل جنين في تسويق بعض بضائعهم الكاسدة، وقد اعتبر المتحدّث باسم "جيش" الاحتلال أنّ هذا السلوك نوع من التطبيع المعيشي ليعتاد أهل جنين على إقامة طويلة لقوات "الجيش".

بين التطبيع المستعصي واستعادة التوحّش، يقع الأداء العملياتي في أزمة واقعية في حملة الاحتلال على شمال الضفة، فمن جهة تصرّ آليات من قوات الاحتلال على أن تكون موجودة بين المواطنين في سوق جنين ضمن الخط الموصل لمعسكرات "الجيش" المستحدثة في بيوت مخيم جنين وبيوت حارة الزهراء المجاورة، حتى خارج جنين باتجاه معسكر حاجز الجلمة الفاصل بين جنين والداخل المحتل، وهو إصرار يشير إلى أبعاد التطبيع النفسي بعيداً عن المتطلّب الأمني.

تعثّر الأداء التطبيعيّ لـ "جيش" الاحتلال مع أهل الضفة، وكان واحد من أهداف العملية بحسب ما كشف عنه بيان رسمي لـ "جيش" الاحتلال، وهو بيان موجّه للمستوطنين في الداخل المحتل المجاور، والذين اعترضوا على فتح حاجز الجلمة ولو ليوم واحد، ودعوا إلى إغلاق الشارع لمنع عرب الداخل من الوصول إلى جنين، فخاطبهم "جيش" الاحتلال أنّ فتح الحاجز المؤقت جزء جوهري من العملية الميدانية لخلق حالة من الاعتياد والتعامل اليومي بين أهل جنين وجنود "الجيش"، ما يضمن خلق جوّ من الاسترخاء ينقل جنين من كونها عاصمة الإرهاب ما يضمن سلامة الجنود من الخطر، لضمان مواصلة إخلاء المخيّم من سكانه بالقوة الدائمة.

في وقت تراجع فيه الأداء الميداني للمقاومة وانحسر، إلا في حالات قليلة، ما يظهر أنّ البنية الرئيسة للكتيبة تعرّضت لضربات أمنية قاسية، خاصة مع مشاركة أجهزة السلطة الفلسطينية في الهجوم الواسع ضدّ الكتيبة واعتقال المئات من أبنائها وأنصارها ومؤيّديها، مع تعذيب العشرات منهم بشكل وحشي، وقتل وإصابة العديد منهم. وكان آخرهم الفتى عبد الرحمن منى في الحارة الشرقية من مدينة جنين، ومعظم عمليات الأجهزة تتمّ في مناطق سيطرة "جيش" الاحتلال المباشرة.

لا ينفكّ هذا الأداء العملياتي لـ "جيش" الاحتلال عن طبيعته التكوينية في جوهر التوحّش، وليس أدلّ على ذلك من اعتقال أبرز صحافي في جنين علي السمودي، وعدة نسوة والتنكيل بهن في اليوم المئة للعملية، إحداهن ربة بيت لمجرّد أنّ بناتها شوهدن وهنّ يلتقطن بعض الصور لـ "جيش" الاحتلال عبر الهاتف، وأخرى طبيبة تمّ نقلها لجهة مجهولة ربما لأنّ والدتها استشهدت قبل شهرين وهي تؤوي بعض المقاومين من كتيبة جنين، وتبع ذلك اعتقال اثنين من إخوتها.

يمكن تفحّص مدى تحقيق أهداف العملية الإسرائيلية في مستوى وحشية الأداء العملياتي، فكلّ توحّش يعني فشلاً وأزمة وكلّ سلوك شبه اعتيادي لـ "جيش" الاحتلال في شوارع الضفة يشير إلى نجاح إسرائيلي حقيقي ولو مؤقت، والحديث هنا عن مناطق مدنية رخوة لم يسبق لها النجاح في إقامة بنى تحتية للمقاومة.

أمنياً نجح "جيش" الاحتلال في كبح نفوذ كتيبة جنين ومثلها في طولكرم وطوباس، وسبق له أن نجح منذ سنتين في احتواء ظاهرة عرين الأسود في نابلس، مع بقاء محدود لكتيبة نابلس ومخيماتها حتى الآن، ويرى الأهالي أنّ هذا النجاح ارتبط أكثر بأجهزة السلطة نظراً لقدرتها على الانسياح السلس نسبياً وسط الجمهور، ونجاحها في اعتقال أو تحييد كثير من المقاومين عبر الترهيب والترغيب مستغلة بعض الأوساط الاجتماعية الضاغطة.

ولكنّ هذا النجاح الأمني في تحييد كتيبة جنين وقوى المقاومة في شمال الضفة، لا يتجاوز الإطار الزمني المؤقت، في ظلّ ما يشاع عن عودة تشكّل حواضن المقاومة في البلدات المجاورة وحاراتها العتيقة، سواء من أهل مخيم جنين المهجّرين، وحتى من أهالي هذه الحارات حيث يتنامى شعور بتجاوز الصدمة، صدمة المشاركة الأمنية لأجهزة السلطة في الحرب على المخيم والكتيبة، وصدمة الاجتياح الإسرائيلي الواسع في ظلّ فشل تكتيكات الكتيبة التي حافظت على الرتابة من دون النظر إلى التطورات الميدانية.

نفسياً قطعت العملية الإسرائيلية شوطاً مهماً، في خلق حالة شعورية من قبول وجود "جيش" الاحتلال وسط السكان ولو بشكل عارض سريع، ولكنه شعور كاذب ومحفوف بالخطر في ظل الوعي الجمعي الشعبي برفض الاحتلال، والنظر لوجوده أو رؤية بعض آلياته كخطر داهم، وهو خطر يضاعفه السلوك الوحشي الميداني، إذ لا يمكن جسر الفجوة النفسية المتعاظمة بين "جيش" مدجّج بالسلاح يقتل ويداهم وينكّل ويهجّر، مع شعب أعزل خاصة في جنين وطولكرم حيث لا بيت فيه إلا ومنه شهيد أو أسير أو جريح أو مطلوب.

أمّا سياسياً فإنّ الاحتلال يقترب سريعاً من التطبيع الرسمي الكامل لمخطّط ضمّ المجمّعات الاستيطانية في الضفة، مع فصل المجمّعات السكنية الفلسطينية عن بعضها عبر بوابات كهربائية دائمة، وهذا مرتبط بعوامل متمّمة تتصل بالحرب على غزة وطبيعة نهايتها، مع استجلاب التفرّغ الأميركي والإقليمي، خاصة في ظلّ تطوّر خطط تطويع السلطة نحو مهمة الحكم الذاتي المفروغ من أيّ طموح سياسي، ويأتي تعيين حسين الشيخ نائباً للرئيس في هذا السياق، وهو المتفرّغ تاريخياً منذ عام 2007 في وظيفة التنسيق مع قيادة الاحتلال في بيت إيل. 

تخيّم حالة من شدّ الأعصاب بين أهالي شمال الضفة و"جيشّ الاحتلال، شدّ للأعصاب يفتح فضاء الميدان نحو المفاجآت، وهذا مرتبط بعوامل تتصل باختبار التطبيع الميداني ومستواه خاصة في مواصلة تخريب البنى التحتية في المدينة، أو قبول بلديتَي جنين وطولكرم للمخيمات المهجّرة كأحياء في المدينة بعد تغيير واقعها الجغرافي هندسياً، وقبول أجهزة السلطة المدنية إكمال ما أنجزته الأجهزة الأمنية في إخضاع الواقع المعيشي لخطط الاحتلال الصريحة، في مقابل احتمال تطوير المقاومة لخططها بعيداً عن الشعبوية وحصر الخيارات بأزقة المخيمات، مع تصاعد الغضب الشعبي الرافض بالفطرة للتطبيع الميداني والمتفاعل بقوة مع تطوّرات الحرب على غزة.

في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 أعلنت كتائب القسام معركة "طوفان الأقصى"، فاقتحمت المستوطنات الإسرائيلية في غلاف غزة، وأسرت جنوداً ومستوطنين إسرائيليين. قامت "إسرائيل" بعدها بحملة انتقام وحشية ضد القطاع، في عدوانٍ قتل وأصاب عشرات الآلاف من الفلسطينيين.