مخطط ترامب – نتنياهو... مرتكزات ونتائج مفترضة
لو نجح الكيان في إسقاط مشروع المقاومة في غزة وتمكّن من فرض سيطرة ميدانية على القطاع لكان من الممكن عملياً أن ينتقل إلى تحقيق مشروعه بفرض السيادة على الضفة بسلاسة لا يعرقلها إجماع عربي فولكلوري رافض.
-
لم تظهر النتائج الميدانية للعدوان ما يمكن ترجمته على أنه انتصار مطلق.
بالتوازي مع حقيقة تقدير الكيان الإسرائيلي والولايات المتحدة لعدم جدّية الموقف العربي وضعف تماسكه وانكشافه أمام أخطر مخطّط لتصفية القضية الفلسطينية منذ مفاوضات مدريد عام 1991 واتفاق أوسلو عام 1993، لا يمكن تفسير دعوة نتنياهو لإقامة دولة فلسطينية على الأراضي السعودية على أنها مجرّد تعبير عن رفض إسرائيلي لمطالب السعودية بإقامة دولة فلسطينية كشرط لتطبيع العلاقات، وإنما يُفترض قراءتها وفق ما يمكن اعتباره يقيناً إسرائيلياً بتوفّر شروط قيام "إسرائيل" الكبرى من خلال مخطّط إفراغ قطاع غزة وفرض السيادة على الضفة، وبالتالي شطب حلّ الدولتين، مع ما يعنيه هذا الأمر من تحقّق حلم الهيمنة المطلقة للكيان في منطقة الشرق الأوسط.
وعليه تظهر ضرورة البحث في الدوافع والأسباب التي قد تجعل من المخطّط الإسرائيلي الأميركي الحالي ممكن التحقّق لناحية إمكانية خضوع الدول العربية، حيث تعكس تصريحات كلّ من رئيس حكومة الكيان والرئيس الأميركي يقينهما المطلق بنجاح مخطّطهما إذ إنهما لا يوليان أيّ اهتمام للمواقف العربية المندّدة والشاجبة لهما.
قد يعتقد البعض أنّ دعوة نتنياهو لإقامة دولة فلسطينية على الأراضي السعودية هي مجرّد رسالة يضغط نتنياهو من خلالها لفرض التطبيع مع المملكة السعودية لقاء أثمان بخسة لا تتعدّى مجرّد استمرار وقف إطلاق النار في غزة، من دون أن ننسى إمكانية اعتبار هذه الدعوة بمثابة تصعيد في وجه الموقف العربي الذي أظهر إجماعاً شكليّاً على الأقلّ، حدوده رفض إفراغ قطاع غزة وتوزيع سكانه على الدول العربية، وبالتالي فإن إعلانه بعد اجتماع الكابينت الأخير وقف محادثات المرحلة الثانية من صفقة الأسرى وإصداره الأوامر "لجيشه" بحشد القوات داخل القطاع قد تدعم هذا الاعتقاد.
في الحقيقة، لا يدلّل الواقع السياسي في الكيان على إمكانية اعتبار مشروع التطبيع مع المملكة ذا أهمية تفترض التفاعل بإيجابية مع المطالب السعودية، وذلك انطلاقاً من عدة أسباب؛ أوّلها الشعور بأنّ شروط السعودية للتطبيع لا تدلّل على اقتناعها بقوة الكيان نتيجة عدم تمكّنه من تحقيق النصر المطلق، وتأكيد حركة المقاومة الإسلامية حماس تمكّنها من الخروج من المعركة بحال أفضل بكثير من المتوقّع.
وثانيها رفض الأطياف السياسية داخل الكيان الرضوخ لمطالب عربية تظهر الاندماج الإسرائيلي في محيطه الإقليمي على أنه نتيجة حاجة إسرائيلية يمكن أن تُترجم على أنها من علامات محدودية قدرات الكيان وضعف موقفه، من دون أن ننسى سلوك دونالد ترامب الذي يهتمّ بإعادة رسم التوازنات في الشرق الأوسط بطريقة تستهدف أولاً وأخيراً ضمان التفوّق الإسرائيلي في الشرق الأوسط من دون إيلاء أيّ اهتمام بما تعتبره الدول العربية، الحليفة له على الأقل، مقبولاً لإنضاج تسوية تنهي القضية الفلسطينية.
لم تظهر النتائج الميدانية للعدوان على غزة ما يمكن ترجمته على أنه انتصار مطلق يمكّن الكيان من تنفيذ مخططاته القديمة الجديدة، التي يمكن اختصارها بإفراغ القطاع من ساكنيه ومن ثم فرض السيادة على الضفة.
فلو نجح الكيان في إسقاط مشروع المقاومة في غزة وتمكّن من فرض سيطرة ميدانية على القطاع لكان من الممكن عملياً أن ينتقل إلى تحقيق مشروعه بفرض السيادة على الضفة بسلاسة لا يعرقلها إجماع عربي فولكلوري رافض. فالدول العربية التي جنحت منذ تسعينيات القرن الماضي نحو اتفاقات السلام المنفردة مع الكيان لم تظهر التزاماً حقيقياً بحقوق الشعب الفلسطيني أو بحلّ الدولتين على الأقل.
وبالتالي لم يكن من الواقعي أن يُفسّر الحراك العربي لوقف العدوان على غزة على أنه جدّي، إذ إنّ اكتفاء البعض بتأدية دور الوسيط الحيادي والتزام البعض الآخر بالصمت، كان يدلّل على التزام عربي بتوجّه أميركي يسمح للكيان بتحقيق مشروعه بإسقاط المقاومة. غير أنّ الواقع الذي فرضته المقاومة في غزة، لناحية ما أظهرته من قوة وتماسك طيلة فترة العدوان وخلال تنفيذ اتفاق وقف إطلاق النار، قد وضعت الموقف الرسمي العربي أمام إشكالية تتعلّق بموقفه من الإصرار الأميركي والإسرائيلي على تنفيذ المخطّط الإسرائيلي بوسائل مختلفة تجعل الدول العربية تتحمّل بشكل رئيسي تبعات تنفيذ هذا المخطّط.
في هذا الإطار، تكمن إشكالية النظام العربي الحالي في عدم امتلاكه للأدوات التي تجعله قادراً على رفض التنفيذ، أو بحدّ أدنى دفع الولايات المتحدة والكيان الإسرائيلي لتعديل مخطّطهما بما يسهّل إمكانية تسويقه. فالهرولة العربية، من مصر إلى الأردن مروراً بدول الخليج وبعض دول المغرب العربي نحو تطبيع علاقاتها مع الكيان مقابل بعض الضمانات التي تخلو من أيّ إلزام بالتنفيذ، معطوفاً على ارتباطهم السياسي والاقتصادي والأمني المطلق بالولايات المتحدة الأميركية، مع ما يعنيه هذا الالتزام من فقدان الحصانة في مواجهة غضب الولايات المتحدة، سيجعل الموقف العربي ضعيفاً لا يتخطى إطار الاعتراض الذي لا يفسّر إلا في إطار تسجيل الموقف. فالتاريخ الحديث لم يدلّل على أيّ تحرّك جدّي لدفع الكيان لتنفيذ اتفاق أوسلو رغم مساوئه.
إذاً وبالقياس على ما تقدّم، لم تظهر الدول العربية المعنية بهذا المخطّط أنها تمتلك الرؤية التي قد تمكّنها من تبنّي مسار حقيقي يفشل مخطّط شطب القضية الفلسطينية. فالاكتفاء بمجرّد الرفض والتهافت لزيارة الرئيس الأميركي لبحث المخطط الأميركي الإسرائيلي من خلال تأثيراته على مصالح دولهم واستقرارهم بما يوحي بتخلّيهم عن القضية الفلسطينية كقضية عربية تهدّد تأثيراتها الأمن الإقليمي بشكل عام يمهّد أكثر من نصف الطريق أمام نجاحه، إذ إنه سيكون من السهل على الإدارة الأميركية أن تقدّم لهم ثمناً مقبولاً. فإعلان الرئيس ترامب أنه لم يهدّد حتى الآن بقطع المعونات الأميركية عن الأردن ومصر يكفي لتقدير ما يمكن أن يكون دافعاً لانصياع الأردن ومصر وتنفيذهما ما يُطلب منهما في هذا الإطار.
في هذه اللحظة تبرز إشكالية مقاربة الدول العربية لهذا المخطط انطلاقاً من تقديرها لإمكانية تأثيره فقط على الأمن القومي للدول المعنية به في المدى المنظور، وبالتالي تحاول هذه الأخيرة التخفيف من نتائجه السلبية عليها من دون إيلاء أيّ اهتمام بالتحوّلات التي سيفرضها على المنطقة. فالموقف العربي الحالي يظهر تضامناً حدوده الوقوف إلى جانب الأردن ومصر ولا يتعدّاه إلى محاولة استعادة التأثير في حلّ القضية الفلسطينية.
فنجاح الكيان الإسرائيلي في تنفيذ مخططه الذي سيدفع الأردن لاستقبال أهالي الضفة وجزء من أهالي قطاع غزة بما يحوّله إلى وطن واقعي بديل للفلسطينيين، والذي سيؤدّي إلى تحقيق ما طرحه غيورا آيلاند عام 2000 لناحية تقديم القاهرة لتنازلات عن أراضٍ في سيناء لصالح الدولة الفلسطينية، من دون أن ننسى خطط توطين الفلسطينيين في سوريا ولبنان والدول التي لجأوا إليها منذ النكبة، لا يمكن حصر نتائجه في إطار تصفية القضية الفلسطينية فقط وإنما يتعدّاه إلى إعادة رسم خارطة الشرق الأوسط بما يؤدّي إلى زوال دول وتقسيم دول أخرى وانضمام أكثرها إلى نادي الدول الفاشلة.
فما يحدث اليوم لا يمكن تصنيفه إلا كإحدى مراحل مخطّطات اللوبيات الصهيونية الحريصة على تحقيق حلم "إسرائيل" الكبرى حيث عملت سابقاً على هزيمة النظام الرسمي العربي عسكرياً، ثم كرّست فيما بعد تبعيّة معظم دوله سياسياً واقتصادياً للولايات المتحدة، لتعمل اليوم على نزع اعترافها بتفوّق الكيان وحقّه بالتوسّع والتطوّر على حساب محيطه الإقليمي وحساب شعوب المنطقة الأصليّين.