مدرسة الذاكرة
في مدرسة الذاكرة يجب ألّا يقتصر المنهاج على المجازر التي ارتكبها المستعمرون بحقّ الشعوب، بل يجب أن يذكّر الشعوب بتركة الاستعمار التي تركها رابضة على صدورهم.
-
في مدرسة الذاكرة يجب ألّا يقتصر المنهاج على المجازر التي ارتكبها المستعمرون.
في الرابع من كانون الثاني/يناير عام 1948 قامت العصابات الصهيونية بتفجير سيارة مفخّخة إلى جانب سرايا يافا مما أسفر عن ارتقاء 30 شهيداً، وعادت في اليوم الثامن من الشهر نفسه لتفجير سيارة أخرى في المكان نفسه لتكون حصيلة الشهداء هذه المرة 70 شهيداً.
استمرت عمليات القتل في يافا حتى 26 نيسان/أبريل 1948 عندما تمكّنت العصابات الصهيونية من احتلال المدينة وتهجير سكانها الذين شكّلوا بحسب الإحصائيات 15% من اللاجئين الفلسطينيين الذين غادروا وطنهم بعد نكبة عام 1948.
بعد 76 عاماً من نكبة يافا، قام طيران العدو بقصف مدرسة يافا في حي التفاح، ليقتل عشرات النازحين في خيامهم، رافعاً رصيد الشهداء من الأطفال خلال أربعين يوماً من تجدّد العدوان إلى 1000 طفل. يضاف هؤلاء إلى آلاف الشهداء من أهل غزة رجالاً ونساءً وأطفالاً.
يصمّم البعض على اختزال التاريخ ما بين عامي 1948 و2024، ليحمّل المقاومة مسؤولية المجازر التي يرتكبها الاحتلال بحقّ الفلسطينيين في غزة والضفة. حالة فقدان الذاكرة تتغاضى عن كلّ المجازر التي ارتكبها العدو الصهيوني في فلسطين ومصر ولبنان والأردن على مدى كلّ هذه السنوات، وتتوقّف عند السابع من أكتوبر وكأنه بداية الوحشية الصهيونية – الأميركية التي "يبرّرها" بحسب هؤلاء ما يصفونه بمغامرة المقاومة التي انطلقت من غزّة.
سمعنا الحديث نفسه عام 2006، وسوف نسمعه اليوم أو غداً في تبرير لقصف طائرات العدوان الأميركي لمركز احتجاز اللاجئين الأفارقة في صعدة اليمنية الذي أسفر عن 114 بين شهيد وجريح. يخضع هذا المركز لإشراف منظّمة الهجرة العالمية، ومنظّمة الصليب الأحمر الدولي.
لا ينطبق القانون الدولي إلا على الضعفاء، فمن حقّ أميركا أن تقصف أينما أرادت، ومن حقّ العدو الصهيوني قصف مدارس الأونروا، بل وحظر نشاط الأونروا نفسها، ومن حقّ جميع الدول التغاضي عن قرارات المحاكم الدولية، وإنزال العقوبات بها والانسحاب منها بسبب قراراتها التي لا تروق للقوى الاستعمارية. ويصبح واجب الضعفاء القبول، لأنهم إذا لم يفعلوا سينزل بهم عقاب العالم المتحضّر، وسيخرج من بينهم عقلاء يقدّمون النصح، ويسبّحون بحمد الأمم المتحضّرة التي تحمل للشعوب الحرية والديمقراطية.
هذه الأمم الضعيفة بحاجة إلى مدرسة للذاكرة، تعلّمهم ألّا ينسوا ما فعله الاستعمار في كلّ أرض حلّ بها، تقول لهم إننا لا ننتمي لهذه الحضارة، ليس فقط لأنها غريبة عنّا، ولكن لأنها لا تقبلنا ولا ترانا إلّا مصدراً للنهب تملأ من خيراته خزائنها. بالنسبة للحضارة الغربية نحن المنبوذون الذين لا نملك الحقّ إلا بمساحة الحرية التي يختارونها لنا، أموالنا وثروات بلادنا مجرّد وديعة لدينا يأخذونها متى أرادوا وبالشروط المناسبة لهم.
أخطر ما يمكن أن يصيب الأمم هو فقدان الذاكرة الوطنية، عندها يصبح الخضوع حكمة، والتبعيّة لحاق بركب الحضارة، والقبول بالنهب والظلم عقلانيّة، والمقاومة تهوّر ومغامرة. الذاكرة الوطنية ليست ما ارتكبه العدو بحقّنا فحسب، بل هي ما قدّمناه نحن للحضارة عبر تاريخنا. إرثنا النضالي يخبر كيف بذلنا الغالي والرخيص في سبيل حريّتنا واستقلالنا. إذا كنّا القلب والعاطفة كما يصفنا الغرب فنحن المحبّة والسلام، وعقلهم وحداثتهم لم يجلبا للعالم سوى الدمار والخراب.
في مدرسة الذاكرة يجب ألّا يقتصر المنهاج على المجازر التي ارتكبها المستعمرون بحقّ الشعوب منذ بزوغ فجر الرأسمالية وحتى اليوم، بل يجب أن يذكّر الشعوب بتركة الاستعمار التي تركها رابضة على صدورهم، من أنظمة هشّة تابعة وعميلة، إلى اقتصادات منهوبة، حتى الطبيعة لم تسلم من شرور المستعمر فلوّث الأنهار والبحار، وترك سمومه في الأرض كما حدث في مواقع التجارب النووية الفرنسية، وحقول فيتنام التي لم تتخلّص بعد من آثار قنابل النابالم الأميركية، وضحايا القنابل النووية المنسيّين في اليابان.
في مدرسة الذاكرة، نستعيد مشروع الزعيم جمال عبد الناصر، وخطى غيفارا وفيديل في أميركا اللاتينية، وقصص "جواهر لال نهرو"، و"هوتشي منه" في فيتنام، ونسير على درب محور المقاومة الذي تعمّد بدماء سيد شهداء الأمة السيد حسن نصر الله ورفاقه، وقادة المقاومة في غزة يحيى السنوار، وإسماعيل هنية، وصالح العروري ومحمد الضيف ورفاقهم. نتعلّم أننا نحن رسل الحضارة الحقيقيون، حضارة بمضمون إنساني يتوق إلى الحرية والكرامة، ويرفض الذلّ والنهب الاستعماري.
يجب أن نتعلّم أنّ أولئك الذين يحاولون ليّ عنق التاريخ، بدراساتهم الرزينة، ووسائل إعلامهم التي تغرق الفضاء بالأكاذيب، وخطابات زعمائهم التي تسوّق الهزائم، ليسوا سوى أدوات استعمارية مهما بدا كلامهم منمّقاً وعقلانياً. وأنّ العقل لا يبدع إلا في فضاء الحرية، والأمم لا تبنى إلا بإنهاء التبعيّة وحثّ الخطى نحو حضارة جديدة لا تشبه حضارتهم، ولا تتعلّم منها، حضارة تشبهنا نحن الشعوب المظلومة، مبنية على قيمنا، تقدّم للعالم نموذجاً جديداً، اسمه حضارة الأحرار.