مصر بين ضغوط الخارج وتحديات الداخل: معركة الاستقلال والسيادة
مصر تقف اليوم عند مفترق طرق حاسم، بحيث تواجه ضغوطاً خارجية تستهدف قرارها السيادي، وأوضاعاً داخلية تحتاج إلى إصلاحات عميقة تضمن الاستقرار، اقتصادياً وسياسياً.
-
مصر.. تحريض أميركي ممنهج وضغوط متزايدة.
منذ عقود، تواجه مصر ضغوطاً خارجية تهدف إلى التأثير في قرارها المستقل، لكن، تتصاعد اليوم حملة تحريضية ممنهجة، تقودها أصوات يمينية متصهينة داخل الولايات المتحدة، تسعى لفرض إرادة واشنطن على القاهرة، عبر التلويح بورقة المساعدات والاتهامات المغلوطة. ليس جديداً أن تستخدم أميركا هذه الأدوات للضغط على الدول، التي ترفض الانصياع لأجنداتها، لكن المستجد هنا هو شراسة هذه الحملة وتوقيتها الحرج، في ظل التطورات المتسارعة في فلسطين والمنطقة.
مصر، التي لطالما حافظت على موقفها الوطني المستقل، وجدت نفسها اليوم في قلب استهداف أميركي سافر، بحيث يتصدّر هذا التحريضَ مقالٌ نشره الكاتب يوجين كونتوروفيتش في صحيفة "وول ستريت جورنال"، في محاولة لإثارة الضغوط على الإدارة الأميركية لدفعها إلى تقييد الدعم العسكري لمصر. يزعم الكاتب أن القاهرة تنتهك معاهدة السلام عبر تحركاتها العسكرية في سيناء، متجاهلاً حقيقة، مفادها أن هذه التحركات تأتي لحماية الأمن القومي المصري من التهديدات الإرهابية، وللوقوف بحزم ضد أي مخطط يستهدف إغراق البلاد في الفوضى.
تحريض أميركي ممنهج وضغوط متزايدة
في الآونة الأخيرة، تعالت في الأوساط السياسية الأميركية أصوات يمينية متصهينة تحرض الإدارة الأميركية على ممارسة ضغوط مكثفة على مصر، متذرّعة بشعارات حقوق الإنسان، بينما تسعى، في الواقع، لإجبار القاهرة على تغيير موقفها المبدئي والثابت في دعم القضية الفلسطينية ورفض المخططات الصهيوأميركية، الرامية إلى تصفيتها.
المقال، الذي نشره كونتوروفيتش، يمثل نموذجاً عن هذا التحريض، بحيث سعى لتصوير إجراءات مصر في سيناء على أنها انتهاك لاتفاقيات السلام، في حين أنها إجراءات مشروعة لحماية الأمن القومي المصري من التهديدات الإرهابية والتداعيات الخطيرة للأحداث الجارية في غزة. كما يلوّح المقال بورقة المساعدات الأميركية للضغط على مصر، متجاهلاً حقيقة، مفادها أن القاهرة تدير سياساتها وفق مصالحها الوطنية، وليس وفق إملاءات خارجية. ويأتي هذا المقال ضمن حملة أميركية ممنهجة من تيارات اليمين المتصهين، والتي تسعى لاستهداف الدول التي لا تخضع للهيمنة الأميركية وتتمسك باستقلال قرارها الوطني.
لماذا يجب دعمها؟
هذا الاستهداف يستوجب موقفاً عربياً موحداً لدعم مصر في وجه الضغوط الأميركية، لأن المستهدَف ليس فقط الدولة المصرية، بل الأمن القومي العربي برمته. إن مصر، التي صمدت أمام كل المحاولات الرامية إلى تطويقها وإضعافها، تدرك خطورة ما يجري في قطاع غزة والمنطقة، وهي ليست في موقع يسمح لها بالمغامرة بأمنها القومي استجابةً لضغوط خارجية.
فالقاهرة تواجه معركة شرسة متعددة الأوجه، من محاولات التأثير في قرارها السياسي، إلى محاولات جرّها إلى مواقف تضرّ بالمصالح الوطنية والعربية، وخصوصاً في ظل الحديث عن خطة تهجير فلسطينيي غزة إلى سيناء، وهو المخطط الذي ترفضه مصر رفضاً قاطعاً، إدراكاً منها خطورته على القضية الفلسطينية وعلى الأمن القومي المصري ذاته. إن هذا المخطط، الذي يدعمه اليمين الصهيوني المتطرف، يهدف إلى تصفية القضية الفلسطينية عبر ترحيل أهلها وفرض واقع جديد في المنطقة.
ضرورة تحصين الجبهة الداخلية
في الوقت ذاته، فإن مواجهة التحديات الخارجية لا تكتمل من دون تحصين الجبهة الداخلية. فالتلاحم الوطني هو الحصن الأول أمام محاولات التدخل الخارجي، وهو ما يتطلب تعزيز الحريات السياسية والإعلامية على نحو لا يتعارض مع مقتضيات الأمن القومي، وفتح المجال أمام الحوار الوطني الذي يرسخ استقرار الدولة بدلاً من ترك الساحة لمزايدات الداخل والخارج.
إن إطلاق سراح المعتقلين السلميين، الذين لم يتورطوا في الإرهاب أو دعمه، وفتح قنوات حوار حقيقية مع كل القوى الوطنية، هما أمر أساسي في ترسيخ بيئة داخلية متماسكة وقادرة على مواجهة الضغوط الخارجية.
الحاجة إلى سياسات اقتصادية أكثر عدالة
إلى جانب ذلك، فإن القيادة السياسية مطالَبة بانتهاج سياسات تخفف وطأة الأوضاع المعيشية الصعبة التي تثقل كاهل المواطن المصري. لقد أصبح واضحاً أن تغوّل الرأسمالية المتوحشة يساهم في مزيد من الإفقار، عبر الارتفاع المبالغ فيه في أسعار السلع الأساسية والخدمات. إن ضبط الأسعار، ووضع سياسات اقتصادية تحقق العدالة الاجتماعية، وتعزيز الرقابة على الأسواق، هي ضرورة لا يمكن تجاهلها لحماية الطبقات المتوسطة والفقيرة من الأعباء المتزايدة.
كما ينبغي للحكومة إعادة النظر في سياساتها الاقتصادية، بحيث تولي اهتماماً أكبر بالتصنيع والتنمية الزراعية، في محاولة لتحقيق الاكتفاء الذاتي، والتوقف عن سياسة الاقتراض المفرط، التي تجعلها عرضة للضغوط الخارجية، فضلاً عن تكبيل البلاد بديون ضخمة تعوّق التنمية المستدامة وتثقل الأجيال القادمة بأعباء اقتصادية جسيمة. إن الاستقلال الاقتصادي هو الركيزة الأساسية للاستقلال السياسي، ولا يمكن لمصر أن تدافع عن قرارها الوطني بحرية، وهي مكبّلة بقيود الديون وشروط المؤسسات المالية الدولية.
بين الصمود الداخلي والتحديات الخارجية
إن مصر تقف اليوم عند مفترق طرق حاسم، بحيث تواجه ضغوطاً خارجية تستهدف قرارها السيادي، وأوضاعاً داخلية تحتاج إلى إصلاحات عميقة تضمن الاستقرار، اقتصادياً وسياسياً. وبينما تحاول القوى الصهيوأميركية استخدام أدواتها التقليدية، من تحريض وضغوط اقتصادية، فإن الرد الحقيقي لا يكون بالخضوع أو التنازل، بل بتعزيز الاستقلال الوطني، في كل المستويات.
إن بناء دولة قوية قادرة على الصمود في وجه الابتزازات الدولية يتطلب رؤية شاملة تتجاوز ردود الفعل اللحظية وتتحوّل إلى استراتيجية وطنية متكاملة. فمصر لا تحتاج فقط إلى الصمود، سياسياً وعسكرياً، بل إلى إعادة هيكلة اقتصادها لتقليل الارتهان للخارج، وإلى توسيع الحريات السياسية لخلق جبهة داخلية متماسكة قادرة على مواجهة التحديات.
التاريخ يؤكد أن مصر كانت دوماً قادرة على تجاوز الأزمات والانتصار في معاركها المصيرية، شرط أن تتكاتف قيادتها مع شعبها، وأن تدرك القوى الوطنية أن معركة الاستقلال الوطني لا تقتصر على مواجهة الضغوط الخارجية فحسب، بل تمتد إلى بناء نموذج تنموي مستدام وعادل، يحقق للشعب المصري حياة كريمة بعيداً عن هيمنة الخارج وشروطه المجحفة.