مصر في مواجهة العاصفة: الضغوط الخارجية والتحديات الداخلية ومسارات المواجهة
في كلّ لحظات الخطر، استمدّت مصر قوّتها من أزماتها، لأنّ ما يحفظ وجودها ليس اتفاقيات ظرفية، بل وعي شعبها وإدراكه أنّ هذه الأرض ليست محلّ مساومة، وأنّ استقلال قرارها هو خط الدفاع الأخير عن الأمّة بأسرها.
على مدار التاريخ، لم تكن مصر مجرّد دولة في محيطها، بل كانت "ضابط الإيقاع" في معادلات القوة الإقليمية والدولية، فكلما كانت قوية وفاعلة، توازن ميزان القوى في المنطقة، وحينما تعرّضت للضعف أو الاستنزاف، تهيّأت الأرضيّة لمشاريع الهيمنة والتفكيك.
منذ اتفاقية "كامب ديفيد"، سعت القوى الكبرى، وعلى رأسها الولايات المتحدة، إلى إبقاء مصر تحت السيطرة، لا بالقوة العسكرية، بل بسياسات الاحتواء وإدارة التوازنات، بحيث لا تخرج من المعادلة، لكنها لا تصبح لاعباً مستقلاً قادراً على التأثير الجذري. وهذه السياسة تفسّر لماذا كانت واشنطن مستعدّة لدفع مليارات الدولارات سنوياً لمصر، لا حبّاً فيها، ولكن لأنّ تحييد مصر عن الصراع في المنطقة كان أقلّ تكلفة بكثير من بقائها في موقع العداء أو المواجهة.
لكن مع التحوّلات الكبرى التي شهدها الشرق الأوسط في العقود الأخيرة، بات واضحاً أنّ الاحتواء التقليدي لم يعد كافياً، وأنّ مصر مستهدفة بسياسات أكثر تعقيداً تتجاوز الضغوط السياسية والاقتصادية إلى محاولات إحاطتها بـ"حزام نار" من الأزمات، يمتدّ من الجنوب (السودان وسدّ النهضة)، إلى الغرب (ليبيا)، فالشرق (قطاع غزة)، إضافة إلى اختراقات داخلية تستهدف زعزعة استقرارها من الداخل.
وفي هذا السياق، تتحرّك قوى داخلية وخارجية في آن واحد، بعضها يسعى لإضعاف مصر وإشغالها عن دورها القومي، والبعض الآخر يحاول استغلال الأوضاع الداخلية لتحقيق أجندات لا تخدم سوى مشاريع الهيمنة الدولية.
فهل تستطيع مصر الصمود أمام هذه العواصف؟ وما الذي تحتاجه لمواجهة هذه الضغوط؟ وما هو المطلوب من القيادة السياسية، ومن القوى الوطنية، لمواجهة هذا التحدّي المصيري؟
تطويق مصر من الجنوب والغرب والشرق
حين نتحدّث عن "حزام النار" الذي يطوّق مصر، فنحن لا نتحدّث عن مجرّد أزمات حدودية تقليدية، بل عن استراتيجية متعمّدة تهدف إلى استنزافها وإشغالها عن دورها القومي عبر محاصرتها بسلسلة من النزاعات الإقليمية التي تتحوّل إلى قنابل موقوتة تهدّد أمنها القومي بشكل مباشر.
السودان.. من الفوضى إلى تهديد الأمن القومي
لطالما كان السودان جزءاً من المجال الحيوي لمصر، وليس مجرّد جار جغرافي. لكنّ النزاع الحالي بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع ليس مجرّد صراع داخلي، بل هو ساحة تتداخل فيها مصالح دولية وإقليمية تهدف إلى إعادة تشكيل السودان بما يخدم مشاريع الهيمنة، بغضّ النظر عن الكلفة الإنسانية والسياسية.
الأزمة في السودان تمثّل تهديداً مباشراً لمصر من ثلاثة محاور رئيسية:
1- الهجرة غير المنظّمة: استمرار الحرب في السودان يفتح الباب أمام موجات لجوء جماعي قد تشكّل ضغطاً كبيراً على الاقتصاد المصري والبنية التحتية، في وقت تعاني فيه الدولة من أزمات اقتصادية متراكمة.
2- التهديد الأمني عبر الحدود: حالة الفوضى في السودان تمثّل بيئة خصبة لنشاط التنظيمات المسلحة، وقد تمتدّ هذه الفوضى إلى الحدود الجنوبية لمصر، مما يشكّل تحدّياً أمنياً خطيراً.
3- التدخّلات الخارجية: بعض القوى الإقليمية والدولية تسعى لاستخدام النزاع السوداني كورقة ضغط على مصر، سواء عبر دعم فصائل معيّنة أو عبر استغلال الأزمة لتعزيز نفوذها في القرن الأفريقي على حساب المصالح المصرية.
ليبيا.. بؤرة الفوضى والتنافس الدولي
منذ سقوط نظام القذافي، تحوّلت ليبيا إلى أحد أخطر بؤر عدم الاستقرار في المنطقة، حيث تتصارع فيها الميليشيات المسلّحة، وتتنافس القوى الدولية على النفوذ والثروات النفطية، بينما تعاني الدولة من غياب شبه كامل لمؤسسات الحكم الموحّدة.
تمثّل ليبيا مصدراً دائماً للقلق لمصر، نظراً لامتداد حدودها الطويلة التي تتجاوز 1100 كيلومتر، مما يجعل تأمينها بالكامل تحدّياً صعباً، ويمنح الجماعات الإرهابية منفذاً محتملاً للتسلل وتهريب السلاح. ويزيد من تعقيد مشهد الدور التركي الساعي إلى تعزيز نفوذه العسكري هناك، بما قد يؤدّي إلى تصعيد يفرض على مصر خيارات صعبة. كما أنّ الفراغ الأمني والسياسي المستمرّ في ليبيا يجعل أيّ اضطراب كبير قابلاً للامتداد إلى الداخل المصري، سواء من خلال تدفّق المسلحين أو التأثير المباشر على الاقتصاد المصري، الذي يعتمد جزئياً على العمالة المصرية في ليبيا.
قطاع غزة.. بوابة الضغط السياسي والأمني
لطالما كانت غزة قضية مركزية في الأمن القومي المصري، لكنّ العدوان الإسرائيلي الأخير ومحاولات تهجير الفلسطينيين من القطاع يضعان مصر أمام تحدٍ مزدوج، يتمثّل في الحفاظ على موقفها القومي الداعم للقضية الفلسطينية، مع التصدّي لأيّ تداعيات قد تهدّد استقرار سيناء.
فالمخطّط الإسرائيلي لدفع الفلسطينيين باتجاه الحدود المصرية يهدّد بخلق أزمة إنسانية وسياسية ضخمة، في ظلّ ضغوط دولية وإقليمية تسعى لفرض حلول لا تتماشى مع الرؤية المصرية، وعلى رأسها استيعاب النازحين الفلسطينيين، وهو ما ترفضه القاهرة بشكل قاطع. يضاف إلى ذلك محاولات بعض القوى استغلال غزة كأداة لإرباك مصر، سواء عبر تصعيد أمني على الحدود أو استخدام الملف الفلسطيني كوسيلة للضغط السياسي، في تكرار لسيناريو "الفوضى المنظّمة" الذي يهدف إلى زعزعة الاستقرار.
حزام النار ليس عشوائيّاً.. بل استراتيجية لإضعاف مصر
من الواضح أنّ هذه الأزمات الثلاث ليست مجرّد مشكلات حدودية منفصلة، بل هي جزء من سيناريو أكبر يستهدف إشغال مصر وإضعافها عبر خلق بيئة غير مستقرة على جميع حدودها.
إذا انهارت السودان، ستواجه مصر تهديداً مزدوجاً: نزوحاً جماعياً وفوضى أمنية.
إذا استمرت ليبيا في حالتها الراهنة، ستبقى مصدراً لتهديد دائم عبر تسلل الإرهابيين وتدفّقات السلاح.
إذا تمّ فرض مخطط تهجير الفلسطينيين، فسيُخلق واقع جديد يهدّد بتغيير معادلة الصراع في المنطقة بأكملها.
كيف تواجه مصر هذا الطوق الناري؟
مصر ليست دولة يمكن احتواؤها بسهولة، لكنها بحاجة إلى استراتيجية شاملة للتعامل مع هذا الطوق الناري الذي يحيط بها، تعتمد على تعزيز قوتها الذاتية، وترسيخ تحالفاتها الإقليمية، واعتماد نهج استباقي لحماية أمنها القومي.
فداخلياً، يتطلّب الأمر تحسين الوضع الاقتصادي، وتعزيز التماسك الوطني، وفتح المجال العام بما يضمن التفاف الشعب حول الدولة في مواجهة التحدّيات. وعلى المستوى الإقليمي، لا يكفي التعويل على بيانات الدعم، بل يجب أن تسعى القاهرة إلى بناء تحالفات عربية وإقليمية حقيقية، قادرة على التنسيق والتخطيط المشترك لمجابهة المخاطر المتزايدة. أمّا خارجياً، فلا بدّ من تبنّي سياسة استباقية، تتحرّك من خلالها مصر بقوة، دبلوماسياً وعسكرياً، لمواجهة أيّ تهديد قبل أن يتغلغل إلى الداخل.
مصر في اختبار المصير
ما تواجهه مصر اليوم ليس مجرّد أزمات عابرة، بل امتحان لقدرتها على الصمود في بيئة إقليمية ودولية معقّدة ومضطربة. ومع ذلك، أثبت التاريخ مراراً أنّ مصر قادرة على اجتياز أشدّ المنعطفات، بشرط أن تدير المواجهة بحكمة، وتعزّز جبهتها الداخلية، وألّا تسمح لأيّ قوة خارجية بفرض أجنداتها عليها. فلا مكان لمصر الضعيفة في صفحات التاريخ، ولن يكون هذا الزمن استثناءً.
القوى الداخلية التي تلعب بالنار
التحدّيات التي تواجهها مصر لا تأتي فقط من الخارج، فهناك قوى داخلية تمثّل ثغرات يمكن استغلالها، سواء بوعي منها أو نتيجة ارتهانها لأجندات خارجية. فمن جهة، هناك التيار الليبرالي الموالي للغرب، الذي يرفع شعارات الديمقراطية والحريات، لكنه في كثير من الأحيان يتحوّل إلى أداة ضغط تخدم المصالح الصهيو-أميركية، مستهدفاً مؤسسات الدولة تحت لافتات حقوق الإنسان، ومحاولة تفكيك بنيتها الداخلية. ومن جهة أخرى، لا تزال بقايا التنظيمات الإرهابية، وعلى رأسها جماعة الإخوان المسلمين، تحاول إعادة تموضعها، مستغلّة الأزمة الاقتصادية والتوترات الاجتماعية لخلق بيئة حاضنة جديدة، مدعومة بشبكات دولية توفّر لها الدعم والتمويل، ما يجعلها إحدى أدوات الضغط المستمرة على الدولة المصرية.
ما الذي تحتاجه مصر اليوم؟
في ظلّ هذه التحديات، لا تحتاج مصر إلى شعارات جوفاء أو مواقف إعلامية عابرة، بل إلى دعم عربي حقيقي سياسياً واقتصادياً، وإلى معارضة وطنية تدرك أنّ التحدّيات تتطلّب وحدة الصف لا المزايدات التي لا تخدم سوى أعداء الوطن.
وفي المقابل، فإنّ مواجهة هذه الضغوط لا يمكن أن تقتصر على الأدوات الأمنية والسياسية، بل تستدعي معالجة جذرية للأزمة الاقتصادية التي تثقل كاهل المصريين، عبر تبنّي سياسات اقتصادية أكثر شفافية وواقعية، تستهدف رفع الأعباء عن الطبقات المتوسطة والفقيرة، وإفساح المجال للحريات السياسية ضمن إطار وطني يحمي الدولة من التفكّك، مع تعزيز دور الأحزاب والنقابات والمجتمع المدني في بناء جبهة داخلية أكثر صلابة. فالتواصل المباشر مع الشعب، والاعتراف بحجم التحدّيات بدلاً من التعتيم عليها، يمثّلان حجر الأساس لاستعادة الثقة، لأنّ المصريين يدركون حجم المخاطر، لكنهم بحاجة إلى رؤية واضحة لكيفيّة مواجهتها.
مصر عصيّة على البيع والتركيع
لطالما كانت مصر الرقم الأصعب في معادلات الشرق الأوسط، ورغم كلّ محاولات الاحتواء، بقي تحييدها مكلفاً للقوى الكبرى، لأنّ أيّ مشروع لإعادة رسم خرائط المنطقة يظل ناقصاً من دون إضعافها. لكنّ التاريخ أثبت أنّ مصر ليست كياناً يمكن إعادة تشكيله وفق إرادات الغرف المغلقة، ولا دولة تُدار بالمساعدات المشروطة، بل كانت وستبقى صخرة صلبة لا تنكسر أمام ضغوط الابتزاز السياسي أو الاقتصادي.
في كلّ لحظات الخطر، استمدّت مصر قوتها من أزماتها، لأنّ ما يحفظ وجودها ليس اتفاقيات ولا تحالفات ظرفية، بل وعي شعبها وإدراكه أنّ هذه الأرض ليست محلّ مساومة، وأنّ استقلال قرارها هو خط الدفاع الأخير عن الأمّة بأسرها.
مصر قد تُحاصر، لكنها لا تُطوّع، قد تتعثّر، لكنها لا تسقط، وهي كما كانت دائماً، حين تحاصرها العواصف، تتحوّل إلى إعصار.