معركة الرأي العام العالمي
نظرياً؛ حقق السابع من أكتوبر التغيير المطلوب في الرأي العام العالمي، لكن على أرض الواقع نجد دولنا تتخذ مواقف أكثر انبطاحاً للمشاريع الاستعمارية، فهل فقد الرأي العالم العالمي أهميته؟
-
المقاومة اليوم ليست تحسيناً لشروط الحاضر، بل هي صناعة للمستقبل.
على مدى التاريخ الذي يذكره معظمنا، كان الرأي العام العالمي محط اهتمام الدول والقوى السياسية العربية. لم يكد خطاب رسمي يخلو من الحديث عن هذا الرأي، وفي الكثير من الأحيان مناشدته "النظر بعين العطف" إلى معاناة شعوبنا، من ويلات الاستعمار وتركته الثقيلة في بلادنا.
وتحت شعار إرضاء هذا الرأي العام العالمي، قدمنا تنازلات خطيرة عن حقوقنا في الجغرافيا، وفي ثرواتنا وفي سياساتنا، منذ قبولنا بقرار الأمم المتحدة 242 وحتى اتفاقات السلام الإبراهيمية، مروراً بجميع اتفاقيات "السلام"، والمبادرات العربية والغربية، وتعديل المواثيق والدساتير. كل تلك التنازلات لم ترضِ الوحش العالمي الذي استمر يطالبنا بالمزيد، حتى لم يبقَ لدينا سوى بقايا الأوطان التي تركتها لنا الاتفاقيات الدولية، ففتحناها على مصاريعها لكل الغزاة.
جاء السابع من أكتوبر وما تلاه من حرب إجرامية على الشعب الفلسطيني في غزّة والضفة، ليحدث التغيير الذي انتظرناه على مدى أكثر من قرن من الزمان. شوارع المدن الأوروبية والأميركية تضج بالمؤيدين لقضيتنا، وبالمستنكرين لجرائم أعدائنا، مشاهير العالم ينضمون إلى حركات الاحتجاج، ويعلنون صراحة دعمهم للحق الفلسطيني، فلا يكاد يمر يوم من دون أن نسمع عن كاتب مرموق، أو نجم رياضي أو فني أو زعيم سياسي، يعلن موقفه من الإبادة الجماعية التي يرتكبها العدو الصهيوني وداعموه ضد الفلسطينيين في غزّة.
نظرياً؛ حقق السابع من أكتوبر التغيير المطلوب في الرأي العام العالمي، لكن على أرض الواقع نجد دولنا وقوانا السياسية تتخذ مواقف أكثر انبطاحاً واستسلاماً للمشاريع الاستعمارية، فهل فقد الرأي العالم العالمي أهميته؟ ما نستطيع استنتاجه من الحال الذي وصلت إليها أنظمتنا الرسمية والكثير من قوانا السياسية، أن أكذوبة الرأي العام العالمي كانت تعني رضى القوى الاستعمارية بحكوماتها وشركاتها، وأن رأي الشعوب في الدول الاستعمارية لا يعني أحداً، كما هي حال رأي شعوبنا.
قد يدعو هذا الاستنتاج البعض إلى الشعور باليأس، فالمستعمرون يتفوقون علينا بكل شيء، عسكرياً واقتصادياً وعلمياً وحتى ثقافياً، ولا خيار لنا سوى الاستسلام والقبول، لنحيا بالقليل الذي تركوه لنا من سيادة وثروات، لكن الحقيقة تعاكس هذا الاستنتاج تماماً.
التغيير في موقف الشارع الغربي ليس أمراً سطحيا سرعان ما يخبو تحت ركام الاتفاقيات والتسويات المقبلة، فالغرب بشكل عام وأوروبا بشكل خاص، تعيش حالة من التخبط بدأت مع انهيار الاتحاد السوفياتي، وتتفاقم يوماً بعد يوم على وقع الأزمات السياسية والاقتصادية التي تعصف بها.
جاء دخول بعض دول اوروبا الشرقية، مثل بولندا والمجر ودول البلطيق إلى الاتحاد الأوروبي، ليسمم العلاقة بين أوروبا وروسيا، رغم أن المنطقي كان شعور أوروبا بالأمان بعد انهيار عدوها الأيديولوجي الرئيسي. تفاقم شعور الكراهية مع بداية العملية الروسية في أوكرانيا تحت ضغط عملية إعلامية مركزة، حولت روسيا إلى عدو يتربص بأوروبا ويخطط لاحتلالها. جاءت رئاسة ترامب الأولى لتنشر حالة من القلق تجاه نوايا السياسة الخارجية الأميركية، ليتحول هذا القلق إلى حالة من عدم الثقة، بعد إجراءات الرئيس ترامب منذ عودته إلى البيت الأبيض.
بالنسبة إلى الصين، التي تنحاز إلى روسيا في الأزمة الأوكرانية، فلم تستطع أوروبا بناء علاقات متوازنة معها، خاصة في المجال الاقتصادي، لكون الصين تشكل المنافس الأكبر للصناعات الأوروبية، خاصة في مجالات مثل صناعة السيارات، ومن ناحية أخرى التبعية الأوروبية للسياسة الأميركية، ما دفعها إلى المشاركة في العقوبات الأميركية للصين. في الخلاصة، أوروبا لا تملك حليفاً تعتمد عليه في ظل العداء لروسيا، وعدم الثقة بالولايات المتحدة، وعدم القدرة على بناء علاقة متوازنة مع الصين.
ما يحدث في أوروبا ليس عارضاً من أعراض صحوة ضمير مؤقتة، ولكنه تعبير عن أزمة بنيوية في النظام الرأسمالي. التعبير الأخلاقي عن هذه الأزمة، والذي يظهر من خلال تظاهرات التأييد لفلسطين، والاحتجاج على جرائم الغرب الاستعماري، بدأ يتحول تدريجياً إلى إدانة للنظام الرأسمالي برمته. لقد أصبح من المألوف سماع حديث في الإعلام والسياسة الغربيين عن المعايير المزدوجة بين الموقف الغربي من روسيا والموقف من "إسرائيل"، لكن الأصوات التي تنتقد بنية النظام الرأسمالي الاستعمارية بدأت تعلو وتقدم نفسها على أنها تحمل حلولاً بديلة. لا يعني كل التبشير بثورة قادمة على الرأسمالية، ولكنه يعني أن هذه الأزمة بأبعادها الاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية ستدفع الشعوب الغربية نحو خيارات سياسية مستقبلية تطيح اليمين الذي نما وتغلغل في حياة الغربيين على مدى العقود الثلاثة الماضية.
كيف يستوي هذا الاستنتاج مع وصول أكثر الرؤساء يمينية إلى سدّة الرئاسة في الولايات المتحدة؟ ببساطة لم يكن من المتوقع إلقاء اليمين قفاز الاستسلام، بل يقوم اليمين في كل مكان في العالم بحشد قواه، ويذهب إلى أبعد حدود التطرف في محاولة الحفاظ على مكتسباته.
"العالم القديم يموت، والعالم الجديد لم يولد بعد، وبين العتمة والضياء تنهض الوحوش" مقولة غرامشي الخالدة، التي تصف شكل عالم اليوم، وتضعنا أمام سؤال الحضارة والمستقبل، فهل نستسلم للوحوش، أم نقاوم بكل ما نقدر عليه؟ المقاومة اليوم ليست تحسيناً لشروط الحاضر، بل هي صناعة للمستقبل. النار التي تشتعل في الأجساد والبيوت سوف تتحول إلى الضياء الذي يقود العالم نحو عالم أفضل.