من أحداث الساحل إلى السويداء.. عندما تحدث الأشياء نفسها!

ما الذي يمنع مشاركة أبناء الساحل في حماية مناطقهم عبر انتسابهم إلى الأمن العام؟ ولماذا الإصرار على أن تكون إدارة جميع المفاصل الإدارية بيد المحسوبين على هيئة تحرير الشام مثلاً؟

0:00
  • ماذا عن موقف  الشرع وما قاله مراراً عن الانتقال من عقلية الثورة إلى عقلية بناء الدولة؟
    ماذا عن موقف الشرع وما قاله مراراً عن الانتقال من عقلية الثورة إلى عقلية بناء الدولة؟

في أحداث الساحل، وجرمانا، وأشرفية صحنايا، والسويداء مؤخراً، وما رافقها من مجازر وانتهاكات واسعة بحق المدنيين في تلك المناطق، طفت على السطح جملة من القضايا التي لا يمكن للسلطة الحالية أن تدير ظهرها لها وتتركها من دون معالجة، وإلا فإن البلاد ستكون ذاهبة نحو فتنة واسعة لا تذر ولا تبقي من الوطن السوري سوى أقاليم تتنازع في ما بينها، وقوميات وطوائف تتحين الفرصة للانقضاض على بعضها بعضاً.

أولى هذه القضايا ما يتعلق بطريقة إدارة الأزمات الداخلية التي كانت خلال الأشهر الماضية بمنزلة وبال على البلاد والعباد من ناحية، وعلى صورة الإدارة الحالية لدى المجتمع الدولي من ناحية أخرى.

فما كان يتهم به النظام السابق لجهة التعنت بالرأي، ورفض الاعتراف بالأخطاء والتراجع عنها، واستخدام القوة لفرض سيطرته وإدارته، لم تخرج عن ممارسته السلطة الحالية.

وهذا بشهادة معظم الشخصيات السياسية والفكرية والمدنية الوطنية التي لها باع طويل في معارضة النظام السابق والمناداة بدولة المواطنة والعدالة والمشاركة. وقد قرأنا جميعاً خلال الفترة الماضية العديد من الآراء في هذا المجال على خلفية أحداث السويداء.

هنا، تطرح عدة تساؤلات في محاولة لتفسير ما يحدث والإصرار على السير بالنهج نفسه الذي أدى إلى سقوط النظام السابق. من هذه التساؤلات ما يلي: هل هذا نتيجة وجود تيار متشدد داخل الإدارة الانتقالية يرفض توسيع دائرة المشاركة في صنع القرار واعتماد الحلول السياسية والحوار في مقاربة الأزمات والتحديات الداخلية أم أن حالة الإقصاء التي تطبق في المؤسسات الحكومية هي جزء من فكر عام يطبق على مستوى إدارة البلاد في جميع ملفاتها انطلاقاً من الشعار الشهير "من يحرر يقرر"؟ وماذا عن موقف الرئيس الانتقالي أحمد الشرع وما قاله مراراً عن الانتقال من عقلية الثورة إلى عقلية بناء الدولة ومشاركة الجميع في بناء البلاد وإعادة إعمارها؟

ثاني القضايا هو في الحالة الانضباطية للقوات التابعة لوزارتي الداخلية والدفاع، والتي أثبتت الأحداث في المناطق المذكورة سابقاً تورط الكثير من عناصرها في انتهاكات وأعمال قتل ونهب وتخريب رغم تأكيدات المسؤولين في الأوامر الموجهة إلى العناصر على ضرورة احترام المواطنين وصيانة ممتلكاتهم وتجنيبهم أي تداعيات محتملة، فما السبب في فشل تنفيذ تلك الأوامر؟ وكيف تلتزم هذه العناصر فوراً بأوامر الانسحاب من المناطق ووقف إطلاق النار ولا تلتزم بمنع التعدي على أرواح المواطنين وممتلكاتهم؟

نحن هنا أمام ثلاثة احتمالات لتفسير استمرار تلك المخالفات، إذ لا يعقل أن تتكرر مرة أولى وثانية وثالثة رغم إدراك خطورتها الشديدة على صورة الإدارة الجديدة خارجياً، وتأثيراتها أيضاً في الحالة الاجتماعية الوطنية في البلاد وثقة المواطن بهذه الإدارة ومؤسساتها. هذه الاحتمالات هي: 

-تركيبة هذه القوات الفصائلية التي لم تخرج بعد من عقلية أنه لا قانون يحكم عملها، وأنها فوق المحاسبة والمساءلة، وأن الولاء يبقى للطائفة والعشيرة.

ومع إضافة قضية المقاتلين الأجانب ووجودهم داخل قوات وزارة الدفاع، تتعمق مشكلة عدم الثقة بأداء هذه القوات والتزامها بالقانون في ممارسة عملها وتنفيذ مهامها في حماية أرواح المواطنين وممتلكاتهم.

- ضعف سيطرة وزارتي الداخلية والدفاع على الفصائل والقوات التابعة لهما، وعدم قدرتهما بالتالي على محاسبة هذه الفصائل وإخضاعها للقانون، بدليل أن العناصر المتهمين بارتكاب فظائع وجرائم في الساحل السوري كانوا في عداد القوات التي هاجمت السويداء، وظهروا في فيديوهات تحريضية يهددون المكونات السورية.

- ضعف عمليات التأهيل للعناصر الجدد المنتسبين إلى وزارتي الداخلية والدفاع، وغالبيتهم من صغار السن، إذ إن المعلومات تتحدث عن أن الدورات التأهيلية لا تتعدى بضعة أسابيع، والأهم أنها تتضمن بعداً دينياً فيما يسمى بـ"دورة شرعية"، كما قيل، فيما الأهم هو أن يتم توجيه هذا التأهيل لصون السلم الأهلي واحترام جميع المكونات الوطنية وطقوسهم الدينية وعاداتهم وتقاليدهم.

ثالث القضايا يتعلق بالمجموعات المسلحة غير النظامية القائمة على البعد الطائفي أو المناطقي أو العشائري، والتي تتحمل جزءاً كبيراً من مسؤولية المجازر والجرائم المرتكبة في الساحل وأشرفية صحنايا والسويداء، بل كانت السبب في إطلاق شرارة الأحداث في جميع المناطق. ومع ذلك، فإن الإدارة الجديدة لم تتحرك لسحب سلاح هذه المجموعات ووضع حد لممارساتها، إذ  لا يمكن الإقرار بوجود دولة حقيقية في وقت يمكن لأي رجل دين أو زعيم قبيلة أن يدعو إلى "الجهاد" و"الفزعة" ضد شرائح معينة من السوريين، أياً كان السبب والدافع والمبرر.

للأسف، فإن الفترة الماضية أثبتت أن الإدارة الجديدة تتحاشى المسّ بسلاح هذه المجموعات وتهديدها للسلم الأهلي انطلاقاً من قناعتها بأن هذا السلاح بمنزلة الداعم والمساند أو ورقة تستخدم في مواجهة أي مشروع يحاول إسقاط المشروع الجديد، لا بل إن هذه المجموعات لا تزال خارج المحاسبة والمساءلة رغم ما ارتكبته من جرائم ومجازر مروعة. مثلاً، تتم المطالبة بنزع سلاح فصائل السويداء التابعة للطائفة الدرزية، ولا يتم أي ذكر لسلاح عشائر البدو، إنما يسمح لـ "فزعات" العشائر بأن تصل من إدلب ودير الزور وريف دمشق درعا إلى أطراف مدينة السويداء من دون أي حساب لما يمكن أن يسفر عنه ذلك من سفك مزيد من أرواح الأبرياء.

رابع القضايا يتمثل بطريقة تصرف السلطة بعد وقوع الأحداث ومقاربتها لما أسفرت عنه من نتائج. وهنا، لا نتحدث فقط عن التحقيق الموضوعي والنزيه في الانتهاكات والجرائم وتقديم مرتكبيها لمحاكمات عادلة، إذ يفترض أن هذا أمر بديهي، وإن لم يحدث إلى الآن، ويبدو أنه لن يحدث بشكل مؤسساتي تحكمه الشفافية والموضوعية.

لكن النقطة المراد إثارتها تتعلق بالإجراءات والقرارات المتخذة لفتح صفحة جديدة مع سكان تلك المناطق واستعادة ثقتهم تدريجياً بالسلطة الوليدة.

ومن يتابع الأشهر الماضية، وتحديداً منذ مجازر الساحل في بداية شهر آذار الماضي مروراً بأحداث جرمانا وصحنايا، يلاحظ عدم تغير شيء، كأن كل هذه الأرواح التي أزهقت والفضائح التي انتشرت والاحتقان الهائل لا يستحق بعض الإجراءات. مثلاً، ما الذي يمنع من مشاركة أبناء الساحل في حماية مناطقهم عبر انتسابهم إلى الأمن العام؟ ولماذا الإصرار على أن تكون إدارة جميع المفاصل الإدارية والخدمية في يد المحسوبين على هيئة تحرير الشام أو من طائفة محددة؟

هذه القضايا وغيرها يفترض أن تكون من أولويات النقاش والحوار على طاولة الإدارة الحالية بحثاً عن واقع أفضل للبلاد، وللحيلولة من دون وقوعها في فخ التقسيم المجتمعي، وهو الأخطر من التقسيم الجغرافي، إذ ما يحافظ على تماسك الدول وترابطها الجغرافي ليس القوة العسكرية، إنما ثقة مواطنيها بمؤسسات دولتهم واحترام حقوقهم بمختلف أشكالها وأنواعها، وتغليب سلطة القانون على ما سواها من سلطات قومية وطائفية ومذهبية، وهناك أمثلة كثيرة حدثت خلال العقود الماضية تقسمت فيها دول، وضعفت أخرى، وغابت ثالثة نتيجة أزمات داخلية كبرت وتوسعت إلى أن انفجرت.