من كوش إلى أميركا: البرهان وإشكالية الاختيار بين الاستقلال والتبعية

يستدعي التوصيف الذي قدمه البرهان في مقاله لمملكة كوش بأنها "توراتية" إشكالية عميقة، تتجاوز الخطأ التاريخي إلى الخطر الوجودي.

  • توظيف الهوية بين الخطأ التاريخي والخطر الوجودي.
    توظيف الهوية بين الخطأ التاريخي والخطر الوجودي.

تمثل تجربة رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان في قيادة السودان حالة دراسية مهمة في إشكالية اختيار النخب الحاكمة في بعض الدول النامية بين التبعية للخارج والتحرر الوطني. هذا الاختيار الذي يصاغ غالباً في أروقة ضيقة يظل محكوماً بموازين شخصية أكثر منه نتاج مؤسسات وطنية.

والتحليل الموضوعي للمسيرة التي قادها البرهان، وخصوصاً بعد مقاله الذي نشرته "وول ستريت جورنال"، يكشف عن تناقضات منهجية تستحق التوقف والنقد المتأني، في ظل تحولات إقليمية ودولية تفرض إعادة النظر في نماذج التحالف التقليدية.

توظيف الهوية بين الخطأ التاريخي والخطر الوجودي

يستدعي التوصيف الذي قدمه البرهان في مقاله لمملكة كوش بأنها "توراتية" إشكالية عميقة تتجاوز الخطأ التاريخي إلى الخطر الوجودي، فالحضارة الكوشية التي تُعدُّ من أولى الحضارات التي عرفها التاريخ تمثل حالة استقلال حضاري كامل وجذري؛ كانت مملكة ذات سيادة، أسَّست قاعدة معرفية متقدمة في علوم الرياضيات والفيزياء والفلك والطب والهندسة، انبثقت منها منظومة فكرية وإبداعية كاملة، تُوّجت بتطوير نظامها الكتابي الفريد "المروي"، ولم تكن إنجازاتها وقفاً على مجال العلم والثقافة، بل امتدت إلى مجال الحكم والسلطان، إذ أسست نظام حكم راقٍ هو الأول من نوعه، وبنت نظاماً إمبراطورياً وقادته في جغرافيا مترامية الأطراف، بسطت نفوذها بين قارتي أفريقيا وآسيا، وأخضعت دولاً وشعوبا لسلطانها أزماناً طويلة.

لقد كانت كوش، بهذا المعنى، نموذجاً أصيلاً للسيادة واستقلال القرار الوطني، ومصدر إلهام تاريخياً لا ينضب لأي قيادة تبحث عن تأصيل شرعيتها في إرثها الحضاري لا في استجداء سرديات الآخر. وقد انعكست قوتها المعرفية والسياسية في إنجازاتها الهندسية الخالدة، فلم تكن قلاعها ومدنها وأهراماتها المميزة مجرد شواهد جمالية؛ بل كانت تجسيداً مادياً لعلوم دقيقة في التفكير الإبداعي والقياس والتخطيط والبناء، وشاهداً حياً على قدرة حضارية قائمة بذاتها على الابتكار والابداع والسيادة دون حاجة إلى استعارة شرعية خارج ذاكراتها.

تحويل هذا الإرث الحضاري الاستثنائي إلى مجرد هامش في سردية دينية غريبة، في منبر إعلامي موجّه، لم يكن سوى إعلان عن تنازل طوعي عن الهوية، وخطر وجودي على الذات الوطنية، وهو ما يشبه في خطورته التوظيف الصهيوني الذي روّج لــ"أرض الميعاد" عبر قراءات توراتية انتقائية، إذ يُقدّم مقال البرهان اليوم "الخدمة" نفسها للسردية ذاتها في السودان. إنه استجداء للشرعية عبر مخاطبة مرجعيات الآخر، بدلاً من تأصيلها في الإرث الوطني والتفويض الشعبي.

هذا الموقف لا يمثل خطأً في التوثيق التاريخي فحسب، بل يكشف عن القاعدة الفكرية التي انطلقت منها سياسات سابقة ولاحقة: قبول التبعية كخيار استراتيجي، وتقديم الهوية كضحية في مذبح الشرعية الغربية-الصهيونية، في تنازل يهدد الوجود الحضاري المستقل للسودان في عمقه، وينكّس راية السيادة التي رفعتها كوش منذ فجر التاريخ.

السياسة الخارجية: طقوس الانكسار على أعتاب الأجنبي

تمثلت سياسة الفترة الانتقالية الخارجية في حزمة ممارسات متكاملة للتبعية، بدأت بالتحالف العضوي للقادة العسكريين مع تحالف الحرية والتغيير ذي الأجندة الغربية برعاية خارجية.

وتجسدت آلية التنفيذ في دبلوماسية مقلوبة تخالف قواعد السيادة والبروتكول، حيث تحولت مقار السفارات ورؤساء البعثات والمبعوثين الإقليميين والأمميين في الخرطوم إلى محطات حتمية لزيارات متكررة لأعضاء مجلسي السيادة والوزراء. هذا السلوك لم يكن خرقاً بروتكولياً، بل كان تنازلاً طوعياً عن هيبة الدولة وسيادتها، وضع خيارات السودان الاستراتيجية على مناضد تلك البعثات، وفتح الباب لتدخلات خارجية مباشرة، فانهارت النظم الدبلوماسية لتحل محلها طقوس الاعتراف بالوصاية والانتداب.

وكان ذروة هذا المسار البعثة الأممية "يونيتامس" والآلية الرباعية، اللتين مارستا الوصاية على السودان في أوضح صورة من صور أداء الآليات الاستعمارية الجديدة، فقد أنتجتا معاً "الاتفاق الإطاري"، تلك الوثيقة التي رفضها البرهان علناً، ثم وقعا عليها، والتي تحولت إلى شرارة أشعلت الحرب. لقد كان الطريق ممهداً أمام البعثة، فأحكمت سيطرتها على القرار الوطني بفضل تعاون شركاء الانتقال العسكريين والمدنيين، فيما مثل التوقيع المتناقض على الاتفاق نموذجاً صارخاً لاختراق الإرادة الوطنية وتنفيذ الأجندة الخارجية.

هذا النمط الأحادي من الدبلوماسية المخالف لمبادئ الاستقلال والتوازن التي تفرضها دولة بموقع السودان الاستراتيجي وقدراته الاستثنائية كان يهدف إلى تحقيق غاية واحدة، هي تحويل القرار الوطني السوداني إلى بضاعةٍ مُزجاة في أروقة التمثيل الأجنبي، تُعرض في أسواق المساومة الدولية، ثم تُصادق عليها في مقار البعثة الأممية والآلية الرباعية.

النتيجة الكارثية: من الاستجداء إلى الابتزاز المكشوف

يكشف مسار سياسة البرهان الخارجية عن مفارقة مأساوية، فبدلاً من صون السيادة الوطنية وتحقيق الأمن أو "الدعم المأمول"، جاءت النتائج عكسية على شكل ضغوط وابتزاز متصاعد، فبعد مقاله في "وول ستريت جورنال"، تصاعدت المطاللب الأميركية لتشمل:

- مطالبة واشنطن بوقف إطلاق النار غير المشروط، في تجاهل تام لسيادة الدولة السودانية وحقها في الدفاع عن نفسها ضد عدوان خارجي تنفذه ميليشيا مسلحة.

- إغفالاً متعمداً لجرائم ميليشيا الدعم السريع الموثقة دولياً، مع محاولة تحويل الجيش السوداني من قوة نظامية تواجه تمرداً وعدواناً مسلحاً إلى مجرد "طرف" في نزاع يتساوى فيه المعتدي والمدافع.

- تصعيداً غير مسبوق عبر مطالبة الحكومة السودانية بالاعتراف باستخدام أسلحة كيميائية، وهو اتهام ينهار أمام أبسط التساؤلات المنطقية: كيف يمكن لجيش نظامي أن يستخدم سلاحاً فتاكاً في عاصمته التي يتخذ منها قادته مقراً، والتي يعيش فيها عشرات آلاف المواطنين؟ وكيف استهدف ذلك السلاح المليشيا ولم يصب المواطنيين؟ ولماذا لم تسجل أي حالات إصابة بين المدنيين أو قادة الجيش أنفسهم، فيما وثق (الدعم السريع) تحركاته بتفصيل دقيق؟ هذا الاتهام لا يهدف إلى تحقيق العدالة، بل إلى إذلال السلطة وإجبارها على الاعتراف بجرائم لم ترتكبها، تمهيداً لمزيد من التنازلات السياسية والأخلاقية.

الحقيقة الجيوسياسية: الهيمنة والتفكيك

تكتسب هذه الضغوط منطقها في إطار إستراتيجية هيمنة أشمل تهدف إلى السيطرة على السودان بموقعه الاستراتيجي وثرواته وقدرته على التأثير في الفضاءين الأفريقي والعربي. وفي حال تحققت الهيمنة أو تعذرت، سيكون تفكيك الدولة الوطنية وإبقاؤها ضعيفة ومنقسمة خياراً راجحاً، ليضمن عدم قيام قوة إقليمية منافسة ويُبقي الباب مفتوحاً للتدخل.

هذا المشروع يستخدم ميليشيا الدعم السريع كأداة تنفيذ عسكرية، وتحالف الحرية والتغيير بمتحوراته الجديدة أداة سياسية في عملية شاملة تخدم الهيمنة و"الاستعمار".

السباق الدولي: فرص ضائعة واستنفار القوى

يحدث هذا كله في لحظة تاريخية بالغة الحساسية، تتراجع فيها القدرة الاستراتيجية الغربية، وتتصاعد فيها نظيرتها الأوراسية، ويتصاعد التنافس الدولي حول أفريقيا والبحر الأحمر.

وفي ظروف قدمت فيها روسيا والصين دعماً سياسياً واضحاً للسودان في مجلس الأمن، مؤكدتين ضرورة احترام سيادته ووحدة أراضيه وعدم تدخل القوى الخارجية، فإن الاستدارة الاستراتيجية الواضحة للبرهان نحو الغرب تهدد بتقويض هذا الدعم الدولي القيم، وتعرقل بناء تحالف متعدد الأقطاب يمكن أن يحفظ التوازن الاستراتيجي لمصلحة السودان.

الخيارات الاستراتيجية: نحو رؤية تحررية

في ضوء هذه الإشكاليات، تبرز الحاجة إلى رؤية استراتيجية لفترة الحكم الانتقالي، تقوم على أسس وطنية صلبة:

- استعادة سيادة القرار وصون الاستقلال، وجعل المصلحة الوطنية فوق كل مصلحة خاصة.

- تنويع التحالفات الدولية والاستفادة من تعدد الأقطاب لتعزيز المناورة الاستراتيجية.

- الاستناد إلى الهوية الحضارية المستقلة للسودان كركيزة للسياسات الوطنية.

- بناء ثقة حقيقية مع المواطن السوداني عبر شفافية السياسات واتساقها.

- تحويل التحولات الجيوسياسية العالمية إلى فرص لخدمة المصالح الوطنية.

السياة قرار وليست خياراً

تكشف التجربة الراهنة المُروّعة أن القرار الوطني نفسه، والسيادة الوطنية في صميمها، تحولا إلى سلعتين معروضتين في سوق المساومات الغربية، في انزياحٍ عن كل ما هو مقدَّس في مفهوم الدولة. والمفارقة الأكثر وضوحاً أن شركاء المرحلة الانتقالية "برهان وحميدتي وتحالف الحرية والتغيير بمتحوراته"، اجتمعوا على أمرٍ واحدٍ لا يختلفون عليه، رغم الحرب الطاحنة التي صَنَعَتْ خلافاتهم وأعادت تشكيل تحالفاتهم، والأمر هو تحويل السيادة السودانية إلى عملةٍ في سوق الصفقات الغربية؛ فقد اتفقوا، ضمناً، على التنافس المحموم لنيل رضا واشنطن، في تجاهل كامل لفرص الشراكة الاستراتيجية مع قوى عالمية أخرى، وكأن السيادة الوطنية جائزةٌ تُمنح من عاصمة واحدة، لا قرارٌ يُوطن ويُصان بالاستفادة  من معطيات ساحة دولية متعددة الأقطاب.

وبينما كانت السيادة عبر التاريخ تسمو فوق كل تقدير ظرفي واعتبار مرحلي، ها هي تُختزل اليوم إلى ورقة مساومة في حسابات القوى الغربية المهيمنة.

لقد أثبتت الأحداث أن القرار الوطني قرار وجودي لا يقبل التفريط ولا يحتمل التأجيل. وما عُرض كـ"خيارات استراتيجية مرنة" كان في الحقيقة بوابة لانهيار الكيان. والسودان بمُقدّراته قادر على على استعادة مساره المستقل، عندما يُسترد القرار من ساحات المساومة إلى فضاء الإرادة الحرة، وعندما تتحول السيادة من سلعةٍ في سوق المساومات إلى ثابتٍ في ضمير الأمة.

المستقبل يبدأ عندما يُوضع القرار حيث يجب أن يكون؛ في قلب الإرادة الوطنية الجامعة، لا في أروقة التفاوض مع الأجنبي، فالتجربة علّمت، بمنتهى الوضوح، أن كل تفريط في السيادة تحت مسمى "المرونة أو الفهلوة السياسية"، هو خطوة أولى على طريق الانهيار الوطني والحضاري.