إن الثورة تشابهت علينا؟

للذين ما زالت في نفوسهم بقايا خير وروح منتمية لهويتنا الثقافية، أقول إن المسألة تحتاج فقط إلى بعض الموضوعية، حتى يجد المرء نفسه في المكان الصحيح ولن تتشابه عليه لا بقرة بني إسرائيل ولا الثورة والمقاومة ومعالمها الواضحة.     

أمام هذا الاستهداف الشنيع للمقاومة في لبنان الداعمة والمساندة بقوة للثورة الفلسطينية، بكلّ ما وصل إليه العالم الغربي المجرم من تقنيات خبيثة، وأمام هذا المصاب الجلل والذي لا ريب فيه بأنّ الردّ مقبل وموازٍ له بالمقدار والاتجاه والردع الكافي وزيادة، إلّا أنّه لا بدّ من توضيح معالم المعركة رغم أنها أصبحت كالشمس في رابعة النهار ولا تحتاج إلى كثير من العناء حتى تتضح المسألة.  

كانت الثورة والمقاومة للاستعمار والظلم والطغيان وتقديم التضحيات على مذابح الحرية وكرامة الإنسان،(على مرّ التاريخ) معلماً ثابتاً وحجة دامغة، وهي الفيصل بين المدّعي والمنتمي وبين المتاجر المخاتل والمحقّ الصادق. اليوم اختلف الأمر وأصبحت المقاومة محلّ جدل ونفاق وتشكيك وارتياب رغم عظيم التضحيات من جرحى وشهداء وتحديات وعظيم المواجهات.

عندما قصّ الله علينا قصة سمّيت أطول سورة في القرآن باسمها، كان ذلك القصّ كي لا يصيبنا من الخطل وضبابية الرؤية المقصودة واللّجاج والعنت والروغان والزوغان الذي أصاب بني إسرائيل في قديم الزمان (وهم اليوم بالمناسبة أسوأ بكثير مما كانوا عليه). وبلغة الشارع اليوم اللفّ والدّوران واللّعب بالأفكار والكلمات والمواقف وإتقان فنّ تحريف الكلم عن موضعه وليّ أعناق النصوص، وهناك من أنواع البشر من هو على استعداد أن يلوي أعناق كلّ شيء حتى صورة المشهد وما تثبته وقائع الأحداث. تارة يأخذ به كمسلّمة من المسلّمات إذا وافق هواه السياسيّ، وتارة يدير له ظهره كليّة إذا عارض هواه. 

وكانت سورة البقرة آية واضحة جاء بها نبي ذاك الزمان بعد أن تثبتت لهم نبوّته وجاء لهم بالمعجزات التي رأوها بأمّ أعينهم. قالوا عندما طلب منهم أن يذبحوا بقرة، إن البقر تشابه علينا. لدينا اليوم احتلال مصرّ على ممارسة أبشع أنواع العدوان، فقامت الثورة الفلسطينية تقاومه وتحاول صدّ العدوان، ثم جاءت البيّنات بتجربة مريرة بعد أن تشابهت الثورة عليها. مرّت 30 عاماً من العلاقة المقيتة على طاولة المفاوضات في زمن تشابهت عليهم فيها حقائق الاحتلال وما يفرضه من وقائع على الأرض من استيطان واعتداء على كلّ مقوّمات الحياة، ثم تجلّى الخيط الأبيض من الأسود لمقاومة ظهر فجرها وبدّدت ظلمات القهر والعدوان، عادت الثورة إلى مربّعها الأوّل: هذا ليل الاحتلال وهذا فجر الحريّة والانعتاق.

بدأ "طوفان الأقصى" بعد 30 عاماً من تشابه المقاومة على كثير من الناس. انجلى الغبار وظهر لونها وتفاصيل الحقّ الدامغ في كلّ تفاصيلها، سطع نجمها وغاب ليلها وظهر نهارها، ثم إن ظلام الاحتلال وظلام كلّ العالم أراد بكلّ جبروت إعلامه القالب لكلّ الحقائق، أن يغيّب ما كشفته الثورة الفلسطينية من جديد.

ودخل في هذا الظلام الحالك أغلب الدول العربية والإسلامية وغابت في دياجيره رغبة وطواعية وجبن وهلع وعمالة رخيصة، تشابهت عليها الثورة قصداً وليّاً لعنق الحقّ الأبلج فيها، أصرّت على مرحلة: "إن البقر تشابه علينا" التي مرّ بها بنو إسرائيل قبل 3 آلاف عام، وأرادوا اليوم أن يفرضوها من جديد بنسخة متطوّرة بالحديد والنار والكذب والبهتان.

فقط هناك من لم تتشابه عليه لا بقرة بني إسرائيل ولا الثورة الفلسطينيّة بما باتت تعرف عليه بالمقاومة، إنه محور المقاومة، الذي لم يتوقّف عند حدود المعرفة والرؤية السياسية الموفّقة بل التحم مع الصفّ المقاوم ودخل المعركة بكلّ جدارة وشكّل ثقلاً كبيراً على كاهل من تشابهت عليهم المقاومة وعلى كلّ من أراد أن يقضي عليها، سواء كان ذلك الاحتلال بشكل مباشر أو من يقف خلفه من دول الاستكبار والاستعمار العالمي وعلى رأسها الولايات المتحدة، أو دول التبعية وعبادة بقرة بني إسرائيل من عربان التطبيع والاستسلام والطابور الخامس الذي يؤاجر بالكلمة الرخيصة والموقف الباهت المريب. 

وما نحن بصدده اليوم وأمام قداسة أسراب أرواح الشهداء الصاعدة إلى السماء، وأمام هذا الاستهداف الذي بلغ ذروة الإجرام والاستهتار بأرواح الأطفال والنساء والأبرياء، وأمام التحام هذه الدماء في غزة ولبنان واليمن وسوريا والعراق، لا عذر لمن ما زال يقول: إن المقاومة تشابهت علينا. لا عذر اليوم لهذه الدول العربية أو الإسلامية التي تقف مع العدوان صفّاً واحداً كالبنيان المرصوص ولو أن بعضها يمثّل بوجهين. لا عذر اليوم لهذا الذي ما زال متمسّكاً بالبعد الطائفي أو بروايات تاريخية هو لم يتحقّق منها. الواقع يجابهه بحقائقه بقوّة وهو يعاندها برواسب مسبقة معشعشة في عقله وغير قادر على التخلّص منها، والأدهى والأمرّ هناك.

وهناك من لا يزال يصرّ على نشر طاقته السلبيّة حول محور المقاومة رغم يقينه بأن هذا ينسجم تماماً مع دعاية المحتلّ وتقوّلاته على الهدف ذاته. كيف يقبل لنفسه هذا التماهي وهو يسمع ما تقوله الدعاية الإسرائيلية على ألسنة ناطقيها والمروّجين لها منهم وما يلقّونه من منشورات على الناس، ثم يجد نفسه يقولها بلغة عربية فصيحة يبذل فيها قصارى جهده من بلاغة وفصاحة في الإقناع والتفاني في خدمة: "إن المقاومة تشابهت علينا".

للذين ما زالت في نفوسهم بقايا خير وروح منتمية لهويتنا الثقافية، أقول إن المسألة تحتاج فقط إلى بعض الموضوعية في التفكير السياسي بعيداً من المذهبية والحزبية والطائفية وقليل من التواضع، سيجد المرء نفسه في المكان الصحيح ولن تتشابه عليه لا بقرة بني إسرائيل ولا الثورة والمقاومة ومعالمها الواضحة.     

في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 أعلنت كتائب القسام معركة "طوفان الأقصى"، فاقتحمت المستوطنات الإسرائيلية في غلاف غزة، وأسرت جنوداً ومستوطنين إسرائيليين. قامت "إسرائيل" بعدها بحملة انتقام وحشية ضد القطاع، في عدوانٍ قتل وأصاب عشرات الآلاف من الفلسطينيين.