الأسير سلامة يحطم برواياته سجن جلبوع
الأسير الفلسطيني سائد سلامة اعتُقل عام 2001، ودانته محكمة الاحتلال الإسرائيلي بتهمة الانتماء إلى الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، ومشاركته في خلية عسكرية، ويُمضي حكماً بالسجن مدة 24 عاماً.
-
المجموعة القصصية: "للحلم بقية" للأسير سائد سلامة
يلاحظ القارئ، من الوهلة الأولى من قراءة "للحلم بقية"، للأسير سائد سلامة، أنّ الكاتب يعيش حرّاً وليس سجيناً، لأنّهُ يكتبُ بحريّة مطلقة، ليس لها حدود كما ليس لها قيود، وهذه القصص هي أشبه بالنصوص النثرية، فيها من النثر والشعر ما يجعلها تحلق بأجنحة الأحلام الطليقة. والبقيّة يعيشها أسيرنا الأديب بين السجن والورق، يطلُّ من شرفتهِ الصغيرة نحو الشمس، يحاولُ كسر القيد بالكتابة. في السجن لكلّ ساعةٍ قصة من قصص المعاناة عندهُ، يطرح أسئلة عديدة داخلهُ، ويبحث دائماً عن الجزء المتبقي من الحلم، كأنّهُ يقول: سأبقى في قيد الحلم وأكمل بقيّتهُ داخل السجن وخارجهُ، فالوطن هو السجن الكبير كما يقول، فلا فارق إن كان داخل السجن أو خارجه، ما دامت فلسطين تحت الاحتلال، فالسجن الكبير ما زال قائماً على أرضها. كتب الأسير سائد سلامة عن حكايتهِ المسربلة بالتفاصيل، أمنياتهِ، واشتهاءاته، وحنينهِ إلى أمّه التي ماتت ولم يكن معها. يقولُ: في السجن ينفصل الإنسان عن ذاته كما ينفصل عن لغتهِ، لأنّهُ مفصولٌ أصلاً عن العالم، لا يرى العالم الخارجيّ إلا في داخلهِ، ينصتُ إلى الدّاخل كي يعيش حريّة التفكير وهو محاطٌ بالجدران. ما أراد أديبنا الأسير تصويرهُ، من خلال مجموعته القصصية، "للحلم بقيّة"، كأنّ هناك أجزاء من الحلم ما زال يبحث عنها، ومن الطبع أنّ الحلم لا يكتمل إلا بتحرير فلسطين كاملة، وليس بتحريره هو فقط، فـ"حلمهُ كونيّ وليس شخصيّاً".
ففي قصة "إجا الديب" وهي قصة طفولية كما تبدو من العنوان، لكنّ المعنى فيها كبير جدّاً، ويأخذ القارئ إلى عوالم الطفل ونفسيّتهُ وحريّته، وهو بالطبع الطفل الفلسطيني الذي يعيش مرارة الاحتلال، ومثلما قال: "الطفل لا يحتاج إلى الدرس، بل يحتاج إلى الاستكشاف" وربّما يكون الطفل هو سائد الصغير، فيعيش هذه القصص، ويكتبها وهو في سجنه الضيق، وفي سجنه/الوطن الكبير. فبين المفتش والطفل في هذه القصة معانٍ عديدة، وفي سخريّة الأسلوب من تعامل المفتش مع الطفل كأنّهُ يشكّل خطراً على المفتش، فيتعامل معهُ بجدّيّةٍ تبدو واضحة. وفي قصة " الهيبة" تعكس ملامح السجين في درب آلامهِ في السجن، وضياع عمره بين القضبان، وتسلط الضوء على قضبان السجن، وبين القفص الزوجي الذي افتقدهُ طوال أعوام اعتقاله، كان يبلغ من العمر حينذاك ثمانيةً وعشرين عاماً. كان يجب أن يكون في قفص الزواج العسلي وليس في قضبان الجور والحرمان والاحتلال الصهيوني، ويصفهُ أديبنا بـ"الزمن المتوقف" يقف الزمن في السجن، بحيث يُحرم من الحياة ومعنى الحياة. في السجن تكون الأعمار مقيّدة بالسلاسل، إنّهُ الزمن الموازي، ويلفتنا الوصف بتخيّل وجه السجين، وهو يجلس أمام مرآتهِ، ويبدو في صالون حلاقة، ويتكلّم معها.
وفي قصة "بين قلبين" يحكي قصة الفتاة التي أحبّها ومدى حاجتهُ إليها وهو في السجن. يبدأ القصة بعبارة "هيَ لي"، فيعيش الحب وهو في السجن. يقرأ كلماتها من رسائلها إليه، كأنّهُ يجلس معها في باحة السجن. وهنا تبدو اللغة شعرية بامتياز وأقرب إلى النص النثري من قربها إلى القصة، بحيث يَصوغ قصتهُ معها بذوبان العاشق المقاوم المتعطش إلى عيشقتهِ". يقول أديبنا الأسير في قصة "بين قلبين" (ص 99):
"ما أصعب أن تنتظر شيئاً لا تعرف متى سيصل، فأنت تقارع اللحظات كأنّكَ في مطاردةٍ مع الزمن، لكنّكَ لا تدري أيّكما يُطارد الآخر".
فهو ينتظر من السجن أشياءً كثيرة، ولا يعرف متى ستصل، وربّما لا تصل أو يمنعها الاحتلال من الوصول، حتى لو كانت حاجة إنسانية ذات أهمية كبيرة للإنسان المعتقل. الاحتلال يمنع عنهم كلّ شيءٍ، حتى العلاج الصحّي، والمأكل والمشرب، ورسائل أديبنا إلى معشوقته التي لا يعرف زمنها الأصلي في الوصول، وهي تخوض صراعاً مع الوقت والسجّان والقضبان، يشبه الصراع مع الحريّة المنشودة. ففي السجن يفقد الإنسان كثيراً من اللحظات التي تقارع زمنها. ويقول في سياقٍ آخر، (ص 100):
"عندما تُوفيت أمّي راودني إحساس فظيعٌ بالتأنيب. شعرتُ بأنّني أخلفتُ وفائي لها. فأمّي كانت ترغب دائماً أن أكتب لها ولكنّني لم أفعل ذلك".
ويستأنف: "أولئك رحلوا عن الدنيا ولم يعد للرسائل أيّ معنى بالنسبة لهم، أمّا أنا فقد أورثني قصوري إحساساً حامضاً يخمرهُ الأسى"...
يعيش السجين هذه الهواجس في سجنهِ، ولا يعرف إن كان في قيد الحياة أو غادرها، وهو لا يشعر بجموح الزمن، لكن الأسير الأديب سائد سلامة قرر أن يقاوم الاحتلال السجّان بالكتابة، أن يكسر القيد بالتعبير عن فكرتهِ الناضجة في درب الجلجلة، أن يحلم، ويقاوم، ويكتب، ويرسم، ويتخيّل، كي يستطيع أن يرى الشمس في داخله، ويتأمل الفجر القادم حتى لو لم يعرف توقيت بزوغه، لكنّهُ كما قال في مجموعته القصصية الأخيرة "للحلم بقيّة".
نبذة عن الكاتب:
الأسير الفلسطيني سائد سلامة اعتُقل عام 2001، ودانته محكمة الاحتلال الإسرائيلي بتهمة الانتماء إلى الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، ومشاركته في خلية عسكرية، ويُمضي حكماً بالسجن مدة 24 عاماً.
صدر أول أعمال الأسير الفلسطيني سائد سلامة بعنوان "عطر الإرادة"، وهو مجموعة قصصية كتبها سلامة في الأسر، ولا يزال صامداً يكتب أدباً إنسانياً عظيماً، وهو حائز درجة البكالوريوس من جامعة القدس.
" للحلم بقيّة" مجموعة قصصية صدرت عام 2023 عن دار الفارابي، بيروت، بالتعاون مع أكاديمية دار الثقافة في بيروت.