الأغنية الوطنية العربية: أين كانت وأين أصبحت؟

من "وطني حبيبي" إلى الأغاني المحلية... أيّ تحوّلات شهدتها الأغنية الوطنية في العالم العربي؟

عام 1960، ظهرت بشكل لافت ومتسلسل مجموعة من عمالقة الغناء في العالم العربي، من ضمنهم عبد الحليم حافظ، صباح، نجاة الصغيرة، وردة الجزائرية، بقيادة الموسيقار محمد عبد الوهاب، لتقديم أغنية "وطني حبيبي الوطن الأكبر". صدحت هذه الأغنية في مختلف دول العالم العربي، باعتبارها دعوة للوحدة وتجسيداً لقوة العرب وتاريخهم الحافل بالإنجازات. 

وعلى نهج هذا العمل، حرص غالبية العاملين في المجال الفني على إخراج أناشيد وأغنيات عروبية ووطنية، بالمستوى ذاته أو قريبة منها. كانت تلك الأعمال الفنية مصدر إلهام للشعوب العربية، وأداة مهمة لتحفيز مشاعرهم المختلفة، إما المتعلّقة بالعروبة وحب الوطن، أو إثارة الحماسة للدفاع عن الأوطان والتصدّي للأعداء.

وقد أنتج خلال فترة السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي عدد كبير من الأغاني المعنية بالقضية الفلسطينية، والتي كانت ذات تأثير كبير في نفوس الشارع العربي الغاضب من الاحتلال الإسرائيلي. لطالما ردّدت كلماتها أثناء الحراكات الشعبية العربية الداعية لتصدّي الجيوش العربية للاحتلال.

لكن سرعان ما تقلّص حجم إنتاج الأغاني الوطنية ذات القيمة الفنية العالية، وأصبحت محصورة داخل الدول العربية. أخذ الشعراء والملحنون يصبّون تركيزهم على إنتاج أغنيات لا يتعدّى صداها حدود دولهم، لينتهي الأمر بأغنيات فارغة من المعاني العروبية والقومية، وذات تأثير محدود على الروح المعنوية للشعوب، كما يقول عدد ممن تحدّثت معهم "الميادين الثقافية".

التجربة الأردنية

  •  أستاذ الموسيقى العربية في جامعة اليرموك نضال عبيدات
    أستاذ الموسيقى العربية في جامعة اليرموك نضال عبيدات

مع بداية تشكّل ملامح الدولة الأردنية في عشرينيات القرن العشرين، بدأت كذلك ملامح الأغنية الوطنية بالظهور. وكانت القومية هي الإطار الذي يحكم إنتاج هذه الأعمال، كما يقول أستاذ الموسيقى العربية في جامعة اليرموك، نضال عبيدات، مشيراً إلى أن هذا الأمر كان متعلقاً باهتمام دول "العالم الثالث" بظاهرة القومية، وظهور الروح القومية في البلاد العربية لمواجهة المستعمرين. لذلك، برز الفن والأدب للتعبير عن تلك المشاعر.

ويرى عبيدات الذي أصدر كتاباً في عام 2023 بعنوان "الأغنية الوطنية الأردنية في 70 عاماً (1946-2016)"، أنه لا يمكن تسمية الأعمال الفنية التي أُنتِجَت طوال فترة التأسيس، أي ما قبل إعلان الاستقلال عام 1946، بالأغاني الوطنية الأردنية، بل كانت تتداخل مع الأغاني القومية الأوسع التي تركّز على الوحدة العربية.

وبيّن عبيدات في حديث مع "الميادين الثقافية" أنّ الأغنية الوطنية بالمعنى الفعلي بدأت بعد الاستقلال، حيث كانت الكلمات تأخذ طابعاً أكثر خصوصية، عبر تمجيد الوطن، والجيش، والوحدة الوطنية، وأيضاً التغنّي بالقيادة التي أدّت دوراً في التأسيس. وقد شهدت تطوراً كبيراً في الستينيات والسبعينيات، بعدما ساهم العديد من الشعراء والملحنين والمطربين في إثراء هذا اللون الغنائي، مثل الشاعر حيدر محمود، والمطربة اللبنانية فيروز عندما قدّمت أغنية "أردن أرض العزم" الحاضرة حتى اليوم في وجدان الأردنيين، بحسب وصفه، حيث "كانت الأغنية الوطنية في تلك الفترات قوية في كلماتها وألحانها، وتلامس وجدان المواطن الأردني".

لكنّ قيمة الأغنية الوطنية، كما يرى عبيدات، بدأت بالتراجع تدريجياً، وصولاً إلى بداية القرن الــ 21، خاصة بعدما اتجه عدد كبير من الشعراء والمطربين والملحنين الأردنيين إلى الأغنيات البسيطة، وهي غالباً ما كان يغيب عنها المضمون القوي، إضافة إلى عدم وجود جمل لحنية مبتكرة ومؤثّرة كما في السابق.

ويقول عبيدات إنّ تلك الفترة شهدت غزارة في إنتاج الأغنيات الوطنية، وكان من الملاحظ وجود اختلاف في أسلوب الملحنين الأردنيين الروّاد عن الملحنين الجدد، "فالملحنون الروّاد كانوا يوظّفون الألحان والغناء في ترجمة المضمون الشعري للأغنية، كما يهتمون بإبراز قدراتهم على الانتقالات اللحنية والمقامية والإيقاعية، في حين يقوم الملحنون الجدد بالاهتمام بتصوير الانفعالات الشعرية، ويبتعدون عن الاهتمام بالانتقالات اللحنية والمقامية".

وأضاف عبيدات: "كان هناك اختلاف عميق في أسلوب التأليف الغنائي الوطني قديماً عما هو حديث، إذ كان قديماً يعتمد على المقدّمات الموسيقية الطويلة نسبياً، أما اليوم فهو غير موجود، وإن وجد، فإنه يوجد بشكل بسيط، على النقيض تماماً بالنسبة للأزمات الموسيقية".

الفوضى ساهمت بتراجع المستوى

  • نقيب الفنانين السابق حسين الخطيب
    نقيب الفنانين السابق حسين الخطيب

لا يُسمح في مصر، مثلاً، لأيّ أحد بالغناء في حفلات عامة أو خاصة من دون حصوله على تصريح من نقابة الفنانين، يُمنح له بعد التأكّد من جودة صوته. الأمر ذاته ينطبق على نقابة المهن الموسيقية، لكن في الأردن غير مفعّل. ففي الوقت الذي لا يتجاوز عدد أعضاء نقابة الفنانين ضمن فئة العزف والغناء 350 شخصاً، تجد، كما يقول نقيب الفنانين السابق، الممثل حسين الخطيب، مئات المغنيين الذين يحيون حفلات من دون عضوية أو تصريح.

ويرى الخطيب أنّ عدم ضبط الأمر أسهم بشكل مباشر في تردّي مستوى الأغنية الوطنية، وأدى إلى ظهور أغنيات مفرغة من المعاني الوطنية الحقيقية. 

ويقول: "الكثير من الأغاني حالياً تعتمد كلمات ركيكة في بعض الأحيان، كما أنها توظّف الموسيقى الصاخبة ذات الإيقاع الواحد والجاهز وغير الطبيعي لإثارة حماسة الجمهور، من دون التركيز على الكلمات والمعاني".

ووضع الخطيب خلال لقاء خاص مع الـ "الميادين الثقافية" مجموعة من الإجراءات التي يجب العمل عليها لإعادة البريق للأغنية الوطنية، أهمها: توفير الدعم المادي والمعنوي لأعضاء النقابة من شعراء، ملحنين، ومؤدين، خاصة الذين يمتلكون الموهبة والرؤية لإنتاج أغانٍ وطنية أصيلة ومعاصرة. يجب أن يكون هناك تركيز على الجودة بدلاً من الكمية.

وأضاف: "يجب تجديد الأغنية الوطنية، والابتعاد عن القوالب النمطية المكرّرة، والبحث عن أفكار موسيقية وكلمات جديدة تعبّر عن روح العصر وتلامس اهتمامات الأجيال الشابة، مع الحفاظ على روح الهوية الوطنية"، مشيراً إلى أنه كان يدرس خلال تولّيه منصب النقيب تنظيم ورش ودورات تدريبية تجمع بين الفنانين المخضرمين والمواهب الشابة لتبادل الخبرات والمعرفة في مجال الأغنية الوطنية.

الجمهور هو الحكم

  •  الملحن والمغني الأردني محمد القيسي
    الملحن والمغني الأردني محمد القيسي

في الوقت الذي يرى فيه مختصون تراجعاً في مستوى الأغنية الوطنية، اعتبر العديد من العاملين في المجال الفني خلال حديثهم مع "الميادين الثقافية" أن ما تشهده الأغنية الوطنية هو تطوّر طبيعي من مسيرة الفن. 

والدليل على ذلك، كما يرى الملحن والمغني الأردني، محمد القيسي، حجم الإقبال الجماهيري على الأغنية الوطنية بشكلها الحالي، "ويظهر ذلك من عدد المشاهدات والاستماع للأغاني الوطنية عبر منصات التواصل الاجتماعي".

القيسي اعتبر أنّ الأغنية الوطنية حالة كغيرها من الأشكال الفنية التي تتأثّر بظروف العصر. فالأغاني القديمة، كما يضيف، كانت رائعة ومهمة في سياقها التاريخي، لكنّ الأجيال الجديدة لها ذوق مختلف وأدوات مختلفة. 

ويقول: "الأغنية الوطنية اليوم أكثر قرباً من نبض الشباب، وتستخدم تقنيات إنتاج حديثة تزيد من انتشارها وجاذبيتها، ومن المنطق ألا تبقى الأغنية حبيسة قوالب معينة طوال العمر".

وأوضح القيسي الذي لحّن للعديد من المغنيين الأردنيين المختصين باللون الوطني، أنّ دور الملحن هو الريادة والتجديد المستمر، عبر دمج الأنماط الموسيقية المختلفة، واستخدام أحدث التقنيات، مشدّداً على أنّ الفيصل في الأمر هو الجمهور، "الذي ينتظر منّا تقديم أغاني وطنية تشبههم وتعبّر عنهم، وفي الوقت ذاته تحمل رسالة الانتماء والمحبة للوطن".

اخترنا لك