الحجّ إلى شمس مصر: ليسيا أوكراينكا في حلوان
أحبّت مصر وشعبها وكتبت عنها مجموعة شعرية. ما قصة رحلة الكاتبة والشاعرة الأوكرانية، ليسيا أوكراينكا، إلى حلوان؟
يرتبط اسم مدينة حلوان المصرية باسم الكاتبة والشاعرة الأوكرانية، ليسيا أوكراينكا، في البلاد السلافية، ومن المعروف أن ليسيا أحبت مصر وشعبها وكتبت عنها مجموعة شعرية بعنوان "الربيع في مصر"، وقصة "إقبال هانم"، ومجموعة من الرسائل إلى الأهل والأقارب تعتبر اليوم من التحف الأدبية. ما الذي أتى بليسيا إلى مصر؟
عانت ليسيا من مرض السل في كليتها اليمنى، فتلقَّت العلاج في مصحات شبه جزيرة القرم ومنطقة القوقاز، حيث وصف لها الأطباء دواءَ "التبيركولين" والزرنيخ. ولكن النتائج كانت محدودة، فنصحوها باستئصال الكلية المصابة.
ومع ذلك، أرادت الأديبة أن تجرِّب كل الخيارات المتاحة قبل الخضوع لِمبضع الجراح. وقد أنهكتها المعاناة وأصابها اليأس من الشفاء، حتى وقعت هي وزوجها كليمنت كفيتكا على نشرة دعائية لمصحّ في منطقة حلوان بالقرب من القاهرة، الذي كان يحظى بسمعة طيبة بوصفه "المنتجع الرئيس لمرضى الكلى".
-
قرب أبو الهول في الجيزة
تندرج حلوان المعاصرة منذ خمسينيات القرن الماضي ضمن التجمُّع الحضاري للقاهرة الكبرى، لكن قبل 100 عام فقط، كانت هذه البلدة المصرية واحدة من أشهر المنتجعات العلاجية في العالم.
تدين المدينة بتأسيسها كمنتجع طبي للطبيب الألماني، ويلهلم رايل، الطبيب الخاص لخديوي مصر إسماعيل باشا. في العام 1868، درس رايل عيون حلوان الكبريتية الحارة ووصف خصائصها العلاجية بدقة، خاصةً للمرضى المصابين بالروماتيزم.
-
من أعمال ليسيا أوكراينكا المترجمة إلى العربية
وفي أواخر القرن الــ 19، اكتسبت المدينة شعبية إضافية بين الأطباء الأوروبيين والأميركيين. بفضل الهواء الجاف النقي والشتاء الدافئ، أصبحت حلوان محطة صحية شعبية، أي مكاناً لقضاء الشتاء لأصحاب الأمراض المزمنة، الذين لا يتحملون البرد والرطوبة في أوطانهم. كان الموسم في حلوان يبدأ في تشرين الأول/أكتوبر وينتهي عادةً بين آذار/مارس ونيسان/أبريل مع بدء موسم الخماسين.
أكثر توفيراً من مصحّات القرم والقوقاز
-
فيلا أنطونيو حيث أقامت ليسيا أوكراينكا مطلع القرن العشرين
ذاع صيت حلوان في الإمبراطورية الروسية مطلع القرن العشرين. وكانت "فيلا واندا" أولى المصحات التي استقبلت الرعايا الروس. أنشأها الزوجان يوليوش وواندا بيلينسكي من وارسو، اللذان استقرَّا في حلوان عام 1898، حيث اشتريا قطعة أرض وبنيا فندقاً صغيراً بدأ في استقبال النزلاء للاستشفاء أو لقضاء فصل الشتاء. وقد توفي يوليوش عام 1901 بسبب مرض في الكلى.
سارت الأمور على ما يرام لدى واندا بيلينسكي، حتى إن مصحَّها كان يَعجُّ بالزوار ولا يتسع لجميع الضيوف في بعض الأحيان. وعلى الرغم من سمعته بكونه "منتجعاً سلافياً"، إلا أن "فيلا واندا" استقبلت، إضافة إلى البولنديين والأوكرانيين والروس، سياحاً من إنكلترا وفرنسا وألمانيا.
في ما بعد، ظهرت في حلوان مصحات أخرى أسسها رعايا الإمبراطورية الروسية، ففي عام 1907، انتقل إليها الدكتور أليكسي رابينوفيتش، وأسس مصح "فيلا كونتيننتال".
-
فيلا واندا سنة 1910
في هذا المكان بالذات أقامت ليسيا أوكراينكا، حتى أنها ظهرت مع رابينوفيتش في صورة جماعية مع نزلاء المصح. وفي عام 1908، انتقل إلى حلوان طبيب روسي آخر هو الدكتور غلانتس، الذي أسس مع مدير مصح المياه المعدنية في خاركوف الدكتور سيرغي رابينوفيتش، مصحّ "جيزن" (أي "حياة").
بدأت أسعار الغرف في مصح الدكتور غلانتس من 13 فرنكاً (أو 5 روبلات) في اليوم. وكانت تكلفة الإقامة تُدفع مقدَّماً لشهر كامل. وعلى عكس مصح السيدة بيلينسكي، كان المريض يحصل مقابل هذا المبلغ، بالإضافة إلى الطعام، على رعاية طبية مستمرة من الأطباء والطاقم الطبي، وبرنامج علاجي فردي، ونظام غذائي شخصي إذا لزم الأمر. كما أن مصح "حياة" احتوى على حمامات كبريتية ودش خاص بكل مريض، وكان العاملون في المصح يستقبلون الضيوف الجدد في ميناء الإسكندرية ومحطة القطار في القاهرة.
رحلة غير مباشرة
-
صورة جماعية للمرضى في فيلا كونتيننتال. ليسيا أوكراينكا في الصف العلوي في المنتصف. الرجل ذو القبعة البيضاء هو الدكتور رابينوفيتش.
كتبت ليسيا في رسالة إلى صديقتها ناديا كيبالتشيتش في 28 أيلول/سبتمبر 1909 من مدينة تيلافي الجورجية، حيث كانت تقيم مع زوجها كليمنت كفيتكا: "أرسل زوجي يطلب إجازة، وإذا حصل عليها فسيذهب معي لمدة شهر على الأقل، لأنه يحتاج لإنقاذ حلقه (من المرض)، ومن الواضح أيضاً أنه لا يريد أن يتركني أذهب في هذه الرحلة الطويلة وحدي الآن، على الرغم من أنني اعتدت السفر وحدي، ولكنني الآن، لأقول الحقيقة، عاجزة، وأنا لا أرغب في حمل هذا اللقب رسمياً... لذا، إذا لم تعقنا أي مشكلة، سنغادر في 16 تشرين الثاني/نوفمبر إلى باتومي (باطوم)، ومن هناك سنسافر بحراً إلى الإسكندرية، وبعدها سنرى إلى أين، سواء إلى القاهرة أو أبعد من ذلك".
كان الطبيب الألماني الشهير، جيمس أدولف، هو من نصح الأديبة بالعلاج في المناخ الدافئ لمصر. وهكذا، قرر الزوجان التوجه إلى حلوان. حزمّا حقائبهما، وحصلا على جوازي سفر من مكتب حاكم تيفليس (تبليسي) عبر دفع 15 روبلاً لكل منهما، وانطلقا في رحلتهما المنتظرة. لم يكن عليهما القلق بشأن متاعب التأشيرات، إذ لم تكن هناك حاجة في تلك الأيام لتأشيرة أو حتى جواز سفر لزيارة مصر.
-
حلوان أواخر القرن التاسع عشر
في بداية القرن العشرين، كان بإمكان المرء السفر من أوديسا إلى أرض الفراعنة على متن سفن شركة "روبيت" (الشركة الروسية للملاحة والنقل البحري)، التي كانت أكبر شركة ملاحة روسية في البحر الأسود، ومقرها في أوديسا، والتي تأسست عام 1856. كان خط الإسكندرية أحد أقدم وأهم وجهاتها، حيث كان الحجاج من مختلف أنحاء الإمبراطورية يسافرون عبره إلى الأراضي المقدسة في فلسطين ومكة المكرمة.
في عام 1909، لم يكن بالإمكان وصف الرحلة إلى مصر بأنها اقتصادية، كما أن الأسعار في البلاد نفسها كانت تفوق الأسعار الأوروبية، فاختارت ليسيا وزوجها رحلة أخرى، في 7 تشرين الثاني/نوفمبر 1909، على متن "سفينة بخارية ألمانية"، وكانت على الأرجح تابعة لشركة "نورددويتشر لويد" (لويد الألماني الشمالي).
وفي القسطنطينية، انتقلا إلى سفينة "رومانيا" التابعة لشركة "سيرفيشيول ماريتيم رومان" (الخدمة البحرية الرومانية). أعجبت ليسيا أوكراينكا جداً بالرحلة على متن هذه السفينة لدرجة أنها فضلتها عند سفرها إلى الإسكندرية في السنوات اللاحقة. قبل الصعود على متنها، كان لدى الزوجين متسع من الوقت للتجول في شوارع العاصمة العثمانية.
ليسيا أوكراينكا في حلوان
-
ليسيا أوكراينكا في حلوان
كانت هناك حتى 5 قطارات يومياً تخرج من الإسكندرية إلى القاهرة، تستغرق الرحلة نحو 3 ساعات. عادةً ما كان المسافرون المتجهون إلى حلوان يقضون الليلة في العاصمة المصرية للراحة، بعد الرحلة الطويلة والتعرف إلى البلاد عن كثب. كانت الفرنسية التي أتقنتها ليسيا بطلاقة هي اللغة الأوروبية الأكثر شيوعاً في مصر في ذلك الوقت. أما أولئك الذين رغبوا في التعمق أكثر في الثقافة والتاريخ، فكان بإمكانهم الاستعانة بترجمان. وقد لعب المرشدون المحليون المترجمون دور الوسيط بين السياح وسكان البلاد.
أمضى كليمنت كفيتكا أقل من شهر في مصر، لأنهم في العمل لم يوافقوا على منحه إجازة مطولة للعلاج. ومع ذلك، حتى في هذه المدة القصيرة، تحسنت حالته الصحية بشكل ملحوظ. بينما واصلت ليسيا استئجار شقق للإقامة الطويلة. في البداية، أقامت في منتجع "أنطونيو"، الذي سكنه بشكل رئيس بريطانيون ومتحدثون آخرون بالإنجليزية، لكن الأجواء السائدة هناك لم تعجبها، حيث وصفتها بأنها "غير اجتماعية أو متزمتة".
-
مشهد حلوان من مصح حياة
كما أنه لم يكن لدى "أنطونيو" طاقم طبي خاص ولم يقدم أي رعاية طبية. من الطبيعي أن المسافرين، عند وصولهم للمرة الأولى إلى بلد غير مألوف، يميلون إلى التواجد مع مواطنيهم، وهذا بالضبط ما كانت تبحث عنه ليسيا الوحيدة.
كانت الأسعار في "فيلا كونتيننتال" للدكتور رابينوفيتش أعلى بـ 15-30 روبلاً منها في منتجع الإقامة الإنجليزي، لكن الطعام كان أفضل، وكان الإشراف الطبي مشمولاً في تكلفة الإقامة. كان هناك أوكرانيون أيضاً، لكنهم كانوا "أوكرانيي الجنسية لا القومية"، كما كتبت ليسيا. وذكرت أن فيكتوريا، ابنة الناشر يفغيني تشيكالينكو، كانت قد أقامت في هذه الفيلا قبلها. في رسالتها إلى بوريس غرينتشينكو، كانت تتأمل حتى في إنشاء "مستعمرة للكتاب الأوكرانيين" في حلوان، يعيشون معاً في فيلا مستأجرة.
في الإمبراطورية الروسية، كان بإمكان أبناء الطبقات الغنية فقط تحمل تكاليف رحلة مماثلة. وكان زوج ليسيا أوكراينكا، كليمنت، بصفته قاضي تحقيق في محكمة تيلافي، يتقاضى 65 روبلاً شهرياً، أي أعلى من متوسط الأجر، لكنه لم يكن كافياً. لذلك ساعدتها والدتها، الكاتبة الأوكرانية أولينا بتشيلكا، بالأموال للعلاج.
-
مصح حياة في مدينة حلوان
وفي المنتجع المصري نفسه، وجدت ليسيا فرصاً لكسب دخل إضافي. كتبت عن ذلك في رسالة إلى شقيقتها أولينا بتاريخ 31 كانون الثاني/يناير، إذ كانت تكسب المال من ترجمة عقود الامتياز من الروسية إلى الفرنسية والألمانية. وفقاً لكلامها، استطاعت في غضون 3 أيام وهي في الفراش أن تكسب 15 روبلاً، أكثر من نصف متوسط الراتب الشهري للعامل في أوكرانيا.
من الصعب تحديد عدد السلافيين الذين زاروا مصر آنذاك، وحلوان على وجه الخصوص. لكن يمكن الجزم بأن ليسيا أوكراينكا لم تكن فقط من روّج لهذه الوجهة السياحية في روسيا القيصرية، بل أيضاً خلّدت اسمها في الأدب المحلي. فقد كانت تأتي "حاجّة إلى شمس مصر"، إلى الأهرامات وأبو الهول، التي تجولت حولها مع زوجها، تقريباً كل شتاء، حتى وافتها المنية في عام 1913.
