الغرائبية في رواية "رفيف الفراشة"
"رفيف الفراشة" تأخذنا برقة بين الدروب الجبلية وضجيج المدن البعيدة، من بغداد إلى طهران، إلى إسلام آباد، إلى عمان، إلى ليبيا. إنها رحلة عن الأمل والبحث عن الذات، عن الحب وقتامة الواقع.
-
رواية "رفيف الفراشة" لزهير كريم
يُسهبُ الكاتب والقاصّ العراقي زهير كريم، عبر رواياته، في الحديث عن هموم وانشغالاتٍ روائية فريدة من نوعها، إذ يبدو مشروعهُ الأدبيُّ أكثر انغماساً في نزوعٍ أقل ما يمكن القول عنه إنهُ يستعيد البراءة المفقودة في الذات الإنسانية، تلك الذات التي لها أن تتعاطفَ مع فرديتها وأزماتها، من غير أن تبتعد عن عالمٍ متأزّمٍ بسوداويةٍ مفرطة. وفي روايته "رفيف الفراشة"، الصادرة عن "دار العين" (2025)، لا إثمَ يتطاول على المصائرِ سوى الحرب. ولا شرّ في المطلق ما خلا العبودية التي تفرضها السلطة على الأفراد. والحرب، التي يتحدث عنها، هي المأساة التي فتكت بالعراق منذ مطلع الثمانينيات، وتستمر في الظهور من وراء الكواليس، كأنها تستعد في كل لحظة لتدقّ ناقوس الخطر، لتُعيدَ بطل الحكاية "كامل" نحو براءته التي يصارع في صوغها بعيداً عن واقعٍ تسِمهُ المأساة بلبوسها.
منحازاً إلى الإنسان، وهارباً من وطأة الكراهية والجبن، ينتقد الكاتب التسلطَ، ويهجو الأحوال التي تسلبنا القدرة على الدهشة إزاء الأشياء الجميلة. مملوءاً بالحزن وبالوحدة، يبدو كامل شاباً في السنة الثالثة في كلية العمارة، وحيداً، منهمكاً بهمومٍ داخلية، وعوالم معزولة عن الآخرين، وعن حكايات أمه وهواجس أبيه. وحدهُ الحب يجعله يستيقظ من سباته ويعيده بين وقت وآخر إلى الواقع. ظهور "حنان" يخرجه من غرفة جعلها الكاتب كأنها عالمٌ يطلّ على عالم آخر. هو عالمُ الكتب التي لطالما حمتهُ من وطأة الجنون. وكأننا فيه نطلع على أزمة الإنسان الرهيف إزاء العالم المتغول، وعلى قراره بالفرار من الرداءة إلى العزلة. نوعٌ من حماية ذاتية دفاعية. هو عالمهُ بكل ما فيه من مكنونات وأبطال. وهو، أي البطل كامل، بصفتهِ مهندساً وبنّاءً، يظهر في عالمٍ جلّ ما يتقنهُ التقويض والهدم. هكذا يتجولُ بين السرديات، نازعاً عنها خرافتها ومجونها، يُخرج زهير كريم أبطالاً قادمين من أزمنة غابرة، وكتباً قرأناها، ويلتقي الفلاسفة في إشارة منه إلى نسقٍ يخلخل البنية الروائية التقليدية، ويعيد تشكيلها وفقاً لروح حكايته، وتعقيداتها، وتناقضاتها.
هذا الأثر البسيط؛ الأثرُ الرهيف الذي يمكن أن تتركه نظرةٌ أو عبارة، أثر الفراشة الذي يمكن أن يتردد ويتسع حتى يبلغ مداه، ولعل الكاتب من خلاله يشير إلى الحب الذي سكنهُ على مدار الحكاية، حبهُ لجارته حنان، الذي يتناصّ مع قصص حب أدركناها، في زمن الكوليرا وفي أزمنة أخرى. يتفوق الحب في الخيال، بينما تمتازُ كل الحوائل في منع لقائهما، وتؤجله الأحداث حتى النهاية. هكذا، من غرفةٍ في طرابلس الليبية، يظهر أثر الفراشة جلياً. بعد أن يعثر المؤلف على مذكراتٍ لشابّ عراقي غادرها قبل مدة. البساطة بجلالتها، وأثر رفرفة أجنحتها يتصاعد بعد العثور على المذكرات، ومعه تنمو القصة وتتكشف تفاصيلها، لنطلع على سيرة طويلة، وحافلة بأحداث غرائبية، بعد أن تعكس كثيراً من التحولات النفسية والفكرية في شخصية كامل، وفي مواجهة حكاية "حنان" ومصيرها المظلم. إلا أن أكثر ما يمكن أن نكتشفه في شخصيات الرواية هو ذلك التركيز على الهامش، وعلى ما هو بعيد وتم إقصاؤه. تلك الشخصيات الهامشية التي تجد نفسها باستمرار أمام آثامٍ لم تقترفها. ولم تخطط الوقوع تحت سيطرتها.
نجد في الرواية الكائن البشريّ بضعفهِ وفردانيتهِ، لقاء العالم بكل ما فيه من قباحة وجبروت. هكذا يظهر كامل ورفاقه. شبان وجدوا أنفسهم أمام آلة السلطة. أرواحٌ تبحث عن الحرية والحب في منشوراتٍ سرية. ويصيبهم الرعب لمجرد التفكير في توزيعها بين الأزقة والأحياء، في مواجهة ماكينة التعذيب والسجون. هكذا يجد كامل وحنان نفسيهما جارَين في حيّ يوقعهما في مأزق الانتماء إلى جماعات حزبية، من غير أن يمتلك أحدهما الوعي بالانتماء إليها. هو فخّ يوقعهما فيه الحب، وفي الوقت ذاته، الرغبة في فعل ما يمكن أن يجلب لهما الشعور بالانتماء إلى عالم آخر لا يشبه عالمهما المظلم. ولعل اختيار الكاتب مهنة كامل في البناء رمزية خالصة للخلق، ورغبة عميقة لاستيلاد عالم مغاير، وصوغ ما يمكن صوغه فيه بعيداً عن بلاده. في حين تحضر ظروف الاعتقال والهرب وتباعد بين قدرهما. ومن جهةٍ أخرى، تسم الحكاية بالتيه والضياع. وتحوّلُ الشاب كامل من مهندس عاشق للعمارات إلى رحالة تائهٍ، وهاربٍ متنقلٍ بين البلدان يبحث عن ضالةٍ لم يعثر عليها في المدن الغربية، ولا في النساء اللواتي يقابلهن باستمرار في الحانات والفنادق.
بلغةٍ شعرية وأنساقٍ غرائبيةٍ تضمرُ سردياتٍ هاربة من ألف ليلة وليلة، يُحسب للرواية قدرتها على الزج بالقارئ في دواماتها، والخوض في رحلة البحث عن براءة كامل المنهوبة ما خلا إثمهُ الذي يعيش فيه من جراء فقدان الحبيبة. هكذا نراه يبحث عنها في كل الأماكن، وفي البلدان التي يلجأ إليها، وفي وجوه النساء اللواتي يقابلهن، وفي جسد "آوى" الفتاة التي تجسد بدورها مأساة البشر مع التعصب والتهجير القسري. بينما نجد حنان على طرفٍ آخر وقد مزقت الحكاية جزءاً من روحها، إذ نلتمس ذلك الألم من جراء فقدان كامل، والذي يتفوق في حدته على ألم الاعتقال والغربة. نجدها عالقة في زواج غير مكتمل، وعندها تنفكّ خيوط الحكاية، من لحظة انتقال البطلين من منطقة السلام في حيهما، ومن براءة الطفولة والانهماك في قصص الأنبياء وسرديات الميثولوجيا المرافقة لشبابه، ينتقل البطل إلى مدن بعيدة، من غير أن يفقد براعته في عزل القباحة من العالم والانغماس في ذاتٍ وجدت في الأدب ضالتها. هكذا ينقد الكاتب الآلة البيروقراطية للحداثة، والطرق التي حولت البشر إلى أدواتٍ للشرّ. وجعلتهم تروساً في ماكينة السلطة. تلك التروسُ التي لا ترى ولا تحسُّ، وذلك الملف الأخلاقي لعالمٍ يعالجه الكاتب بقهرٍ من غير أدنى حيلة في مواجهته. ذلك الخوف الذي يبدو ينبوعاً لكل ما هو آثم. وهو، أي الخوف، كمصدرٍ للعنف، يجعل السلطات تضع نفسها موضع الآلة القديمة، والخوف هو ما يجعل المرء أكثر استعداداً للعنف. ذلك التفكيك المطلق لعناصر العالم السوداوي، بكل ما فيه من جبروتٍ وسلطةٍ، يضعنا أمام البطل "كامل" بساقه الواحدة، وذاكرته التي لا تفتأ تزج به في ماضيه المرير.
وبتلك الغرائبية في اقتصاص أصناف السرد وتناصّها مع الحكاية نفسها، يمضي بالحكاية إلى نسق من التجاوز والجموح. لعلها رغبة الفنان في كسر المألوف والمحدود بينما يبتعد بالواقع ليصوغَ من رفة جناح فراشة حدثاً فيه من العجائبية ما يُلبس نصه لبوس الدهشة، ويزيل الأقنعة، ويؤسس ما يخترق حدود المعقول. لتخضع الحكاية، في النهاية، لقوة واحدة، هي قوة الخيال المبتكر الذي يجوب الواقع بإحساسٍ مطلق بالحرية. هكذا تذهب الرواية بطفلٍ هارب من سردياتٍ نجح الكاتب في دمجها بحكايته عن الهدم والبناء، متحرراً من الأنساق التقليدية، وغادياً بين الخيال والواقع والحلم، بين المقاومة والهزيمة، يجعل الحب في نهاية الحكاية أمراً ممكن الحدوث، وانتصاراً له أن يمحو عمراً من الآلام، ولقاءً له أن يعيد إلى الأرواح الهائمة بعضاً من براءتها المفقودة.