الكيان الصهيوني والدور الوظيفي لإخضاع المنطقة

"منظومة النّهب الدّولي"، التي تدير وتوجّه الأنشطة السياسية والاقتصاديّة حول العالم، هي التي تدفع تبعاً لمصالحها وتوجّهاتها الاستراتيجية نحو تحقيق أهدافها.

  • الكيان الصهيوني وموقعه في منظومة النهب الدولي والدور الوظيفي لإخضاع المنطقة
    الكيان الصهيوني وموقعه في منظومة النهب الدولي والدور الوظيفي لإخضاع المنطقة

"الكيان الصهيوني وموقعه في منظومة النهب الدولي" كتاب جديد لا يشكّل امتداداً فقط لصراع على مدى مئة عام بل لحقبة استعمارية وقراءة مخالفة للكثير من المفاهيم الشائعة، حول جذور التكوين والتوظيف لمقولات "إسرائيل الكبرى أو العظمى" كما يعرّفها المؤلف الدكتور محمد نعمة فقيه، كون المصطلحات الشائعة حول توصيف الصراع تدور حول الأسئلة الثلاثة الآتية:

هل الصراع القائم هو صراع على فلسطين؟ 

أو هل هو صراع فلسطيني ـــــ إسرائيلي؟

أو أنّه صراع عربي (أو إسلامي) ـــــ إسرائيلي؟

لكنّ الطبيعة الاستعماريّة للمشروع الصهيوني في المنطقة تحدّد ماهيته، بأنّه ليس مشروعاً يهوديّاً فقط، بل مشروع استعماري تقوده وتوجّهه وتموّله القوى الاستعماريّة، التي دعمت المستعمرين اليهود لاغتصاب فلسطين، وبأنّ هذا الصراع ليس سوى التعبير عن مقاومة شعوب المنطقة للهجمة الاستعماريّة بهدف إخضاعها واستتباعها ونهب ثرواتها، وأنّ المستعمرين اليهود هم إحدى الأدوات التي يستعملها المركز الاستعماري لتحقيق أهدافه وتمرير سياساته في المنطقة.

قرأ أيضاً: رؤية جمال حمدان لاستراتيجية التحرّر من الإستعمار

لذلك، فإنّ أهميّة هذا الكتاب والأسباب الموجبة له، تنطلق من ضرورات إعادة قراءة سيرورة الدعوة لإقامة الكيان الصهيوني في فلسطين، منذ ما قبل نشأة الحركة الصهيونية بزهاء قرن من الزمن، أي بدءاً من البيان الذي أعلنه نابليون بونابرت عام 1798 إلى إعادة بناء "مملكة القدس" تحت الراية الفرنسية، وصولاً إلى وعد بلفور 1916، الذي ضمن إقامة "وطن قومي لليهود" في فلسطين، لنتلمّس دور وطبيعة هذا "الكيان"، وموقع الجماعات اليهوديّة الأوروبية فيه ودورها. وذلك في محاولة للوصول إلى تأكيد:

-الدور الوظيفي للكيان الصهيوني في المنطقة وحصريّة المركز الاستعماري في تحديد هذه الوظيفة بطبيعتها وأهدافها وغاياتها.

-التأكيد أنّ الصراع في المنطقة لم يكن يوماً، ومنذ ما قبل نشأة الكيان، صراعاً على فلسطين أو بين شعبٍ فلسطيني وآخر تمّ تهجيره من دول العالم للاستيطان في فلسطين، بل هو صراع بين شعوب المنطقة ضدّ القوى الاستعماريّة الهادفة إلى فرض هيمنتها وسطوتها لنهب ثرواتها وسحقها حضارياً.

كتاب "الكيان الصهيوني وموقعه في منظومة النهب الدولي"، للمؤلف الدكتور محمد نعمة فقيه، صادر عن دار مكتبة فقيه عام 2025 بيروت لبنان.

وظيفة استعمارية للكيان

وعليه فهل الكيان الصهيوني الذي يؤدّي وظيفة حدّدتها له القوى الاستعماريّة قبل أكثر من قرن على قيامه، والتي بيّنت الأحداث على امتداد تلك العقود، ولا سيّما بعد وأثناء عمليّة "طوفان الأقصى"، بأنّه عاجز عن الاستمرار بتأدية وظيفته أو المحافظة على وجوده، من دون كلّ ذاك الدّعم غير المحدود وأوقعهم في مخاطر سياسية واقتصاديّة جمّة هل بوسعه أن يقرّر هو بذاته وبمعزل عن المركز الاستعماري العمل على تحقيق أحد التوجّهين: "إسرائيل الكبرى" أو "إسرائيل العظمى"؟ أو أنّ التجاذبات حول هذين الشعارين داخل الكيان ليست سوى صدى لتجاذبات تدور داخل المركز الاستعماري نفسه، وبين التجمّعات الاقتصادية الكبرى فيه، حول ما يجب أن يكون عليه دور هذا الكيان لخدمة مصالح هذه التجمّعات أو تلك على أكمل وجه؟ أو هل بالضرورة أن يكون أحد هذين الشعارين نقيضاً للآخر؟ أو أنّ المركز الاستعماري أو ما يُعرف باسم "منظومة النّهب الدّولي"، والتي هي بواقع الحال تدير وتوجّه الأنشطة السياسية والاقتصاديّة حول العالم، هي التي تدفع تبعاً لمصالحها وتوجّهاتها الاستراتيجية نحو تحقيق أيّ من الشعارات؟

لم تتشكّل "القضيّة الفلسطينية" بسبب "الصراع على فلسطين" كما يعتقد المؤلف، فمثل هذا الصراع لم يكن مطروحاً على الإطلاق في أيّ من العصور والمراحل التاريخيّة بل هي تشكّلت لأنّ السياسات الاستعماريّة للإمبراطوريّة البريطانية النّاشطة في القرن التاسع عشر، والتي كانت تسعى إلى تفكيك السلطنة العثمانية والسيطرة عليها كانت قد وضعت في صلب مخططاتها إحكام قبضتها على المشرق العربي وشمالي أفريقيا، زرع كيانٍ غريب عن نسيج المنطقة الاجتماعي والسياسي، ومعادٍ لشعوبها يقوم بتأدية وظائف محدّدة تحت إدارة وتوجيه السلطة الاستعماريّة وتحت حمايتها، ولذلك فإنّ الصراع الذي نشب في المنطقة بعد الحرب العالمية الأولى هو صراع بين شعوب المنطقة والقوى الاستعماريّة التي بدأت تضع مخططها قيد التنفيذ. فالمستهدف هم شعوب المشرق وليس مجرّد مساحة جغرافية محصورة بفلسطين، وبالتالي فهو ليس صراعاً بين العرب واليهود أو الصهيونية، فهؤلاء وكيانهم المزروع غصباً في فلسطين، ليسوا سوى أداة من أدوات السيطرة والإخضاع، فيكون التعريف الصحيح لهذا الصراع بأنّه صراع عربي ـــــ استعماري في سبيل الحرية والاستقلال لشعوب المنطقة.

استغلال الفرص

وحين بدأت أجراس حرب عالمية طاحنة تقرع في عموم أوروبا في منتصف تسعينيات القرن التاسع عشر توجّه الاستثمار إلى الإنتاج الحربي الذي قدّمت إليه رؤوس أموال البيوتات اليهوديّة، وفي الوقت نفسه بدا أنّ المخطط الاستعماري الهادف إلى تصفية السلطنة العثمانية بات على الأبواب، تحرّكت الأدوات البريطانيّة نحو تشكيل كيان سياسي يهودي يكون ممثّلاً لليهود في المحافل الدوليّة، فأوكلت هذا الأمر إلى القس البروتستانتي البريطاني ويليام هشلر، الذي تربطه صداقة مع ثيودور هيرتزل منذ كان هشلر قسّاً في سفارة بريطانيا في فيينا ليبدأ معه مسيرة الدعوة لعقد مؤتمر يهودي دولي عرف باسم "المؤتمر الصهيوني الأول" الذي انعقد عام 1897 في بازل بسويسرا رغم معارضة الحاخامية اليهوديّة له التي منعت انعقاده في ميونيخ مثلما كان مقرّراً.

إقرأ ايضاً: لا وجود لشخصية يهودية.. كيف رأى المسيري المشروع الصهيوني وأزمته؟

ضمن هذا السياق انطلق الكتاب في القسم الأول منه لدحض مقولة وجود "الحلم" و"الشعب" قبل قيام الحركة الصهيونية، ولدحض مقولة أنّ المؤتمر الصهيوني الأول وتأسيس المنظمة الصهيونية كان يهدف لحلّ "المسألة اليهودية". وللتأكيد أنّ الحركة الصهيونية منذ بداياتها في أوائل ثمانينيات القرن التاسع عشر، لم تكن سوى صدى للمصالح الاستثماريّة للبيوتات المالية اليهوديّة، وهي البيوتات التي تقبض على مفاصل القرار السياسي والاقتصادي في الدول الاستعمارية وصدى لتلك المصالح التي تمّ التعبير عنها منذ غزو نابليون بونابرت لمصر وسوريا في نهاية القرن الثامن عشر في مشروعه لإقامة كومنولث يهودي، وهو المشروع الذي استعادته بالسّعي والتدبير والتبرير حكومة اللورد بالمرستون البريطانية في أربعينيات القرن التاسع عشر. 

أمّا في القسم الثاني فقد اهتم المؤلف بموقع الكيان الصهيوني في العلاقات الدولية، فكان لا بدّ من تأكيد وظيفته والبحث في الصراع ما بين الدولتين الاستعماريتين الأكثر اهتماماً بالمنطقة فرنسا وبريطانيا، للسيطرة على تركة "الرجل المريض" ومخطّطات كليهما لإقامة الكيانات الوظيفيّة في المشرق العربي من خلال بحث "مشروع الكيان"، إلى مرحلة رفع شعاري "إسرائيل الكبرى" و"إسرائيل العظمى" وإشكالات السياسة والدين في الكيان الصهيوني، والقوى السياسية المتصارعة داخله في مراكز القوى المتصارعة هي بدورها.

 في الفصل الأخير من الكتاب توصّل المؤلف إلى الاستنتاج بأنّ سيطرة الصهيونية المسيحية على مفاصل القرار السياسي في الولايات المتحدة الأميركية، دفعت باتجاه تثبيت رؤيتها لدور الكيان ووظيفته في المنطقة، أيّ الرؤية التي تقوم على أن يمتلك الكيان الصهيوني القوّة الرّادعة عسكريّاً والقادرة بالدعم الأميركي اللازم على جرّ العرب إلى التطبيع معه واستجداء السلام معه من دون أن يقدّم أيّ تنازلات سياسية لإقامة دولة فلسطينية، ولا حتى تقديم الوعود في سبيل ذلك.

والصعوبة الأخرى تمثّلت في الاستبداد الثقافي ـــــ السياسي الذي تمارسه دوائر عليا في الدول الغربية على الكتابات والأبحاث المناهضة للصهيونية وللكيان الصهيوني، والتي تسمّها "معاداة الساميّة"، وهي تهمة ترتقي إلى مصاف العمل الجنائي الذي يعاقب عليه القانون بأقسى العقوبات، فتحدُّ من إمكانية الوصول إلى تلك الكتابات، وتضع الكاتب المُنصِف تحت عبء التهرُّب من كتابة الحقائق حتى لا يقع تحت طائلة القانون الجائر، فتتوارى الحقائق فيما بين الأسطر.

كما كانت هناك صعوبة من نوعٍ آخر، هي جرائم ومجازر همجيّة قام بها الكيان الصهيوني ضدّ الشعب الفلسطيني في قطاع غزة والضفة الغربية منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر عام 2023 وهذه الجرائم التي هدفت إلى إبادة جماعيّة للشعب الفلسطيني، حدّت كثيراً من إمكانية الوقوف موقف المحايد ممّا يجري لأنّ المستهدفين في هذه الجرائم هم على الأقل، بشرٌ وأتشارك معهم إنسانيتي التي لا يمكن تجزئتها. لذلك لم يكن لي أيّ خيار سوى التمسّك بإنسانيتي والانحياز لها كما ينهي المؤلف الدكتور محمد نعمه فقيه كتابه.

اخترنا لك