المنهج الحسيني إكسير الثورة الإسلامية
دأب الشعب الإيراني على استحضار ملحمة الحسين في كلّ حين كلما دقّ الاستكبار جرس الحروب.
حين هبط الإمام الخميني على الشعب الإيراني الثائر، كحمامة عدل وسلام من السماء، كان بحوزته منهج كامل لحياة طيبة. لم يأتِ ليتسلّم سلطة كان يحلم بها، بعدما تمكّن من الإطاحة بالشاه المدعوم من أقوى دولة في العالم.
لم تكن السلطة حلماً بالنسبة إليه، فأمثاله، يحلمون بأن يخرجوا من هذه الحياة وفي جعبتهم كتاب مليء بالعطاءات، يجعلهم مرفوعي الرأس في حضرة الرحمن. ومن خلفيّة عرفانية عصية على أفهام السياسيين والمحللين والفلاسفة آنذاك، حلّ بما حمله من إرادة الخير وتوخّي الفضائل الإنسانية، لينقذ شعباً، كان يتوق للسيادة والاستقلال كعنوان عريض، من دون أن يدرك بأنّ الذي أهداه الاستقلال، سيعمل على إعادة صناعة الإنسان في إيران؛ فلا سيادة للبلاد، ما لم تكن العقول حرّة سيادية.
إنّ المنهج الإسلامي العرفاني الذي شرع الإمام الخميني يطبّقه في كلّ مرافق الدولة والحكومة، خلق هذا النظام الإسلامي الذي تنفذ المبادئ الإسلامية الأصيلة إلى أدق شرايينه، فالمبادئ إسلامية، والأحكام إسلامية، والتعاطي في أدق التفاصيل إسلامي أصيل.
قام الإمام الخميني بترسيخ الفكر النهضوي الحسيني في ذهن الشعب الإيراني. هذا الشعب الذي كان على علاقة حبّ عريقة بالحسين بن علي، منذ بدء التاريخ، وكانت واقعة كربلاء، الملحمة الأكثر انسجاماً مع جنوحه الأسطوري والتاريخي إلى رفع راية الحقّ والعدالة وتحقيق النصر على الأعداء.
كثيراً ما سطّرت الملاحم الحسينية، وعلّقت الجداريات التي تلوّنت بصور واقعة الطف، ونظّمت القصائد والدواوين على حبّ الحسين. وفي عاشوراء، لا تجد ساحة في البلاد، تخلو من المضائف، فالمسيحي قبل المسلم، والسني قبل الشيعي، يبادر إلى إطعام الناس "على حبّ الحسين".
ولم يفاجئ هذا المنهج الشعب الإيراني، فهو خاض عدة مراحل من التوعية بأصالة هذا المنهج على يد قامات فكرية حاربت الطغيان والفساد الملكي في إيران الشاه، ولاقت ما لاقت من نفي وإقصاء وسجن وصولاً إلى القتل. فقد قدّم مرتضى مطهري منهجاً أخلاقياً قائماً على العدل الإلهي، تنبني عليه كلّ شؤون الحياة، وقارب مختلف القضايا التي تهمّ الناس، مقاربة إسلامية محمدية أصيلة، فكان من المؤسسين للفكر التجديدي والإصلاحي النهضوي، بعد عقود من الجاهلية البهلوية. رأى مطهري أنّ ثورة الإمام الحسين، هي ثورة بشرية إنسانية، وليست ثورة مبنية على الحماسة القومية. فمفتاح شخصية الإمام الحسين، الحماسة والعظمة والشوق والصلابة والثبات وعبادة الحقّ، وهي حماسة تفوق كلّ الحماسات.
ويداً بيد، كان علي شريعتي يعمل على الشريحة الشبابية، فيبثّ فيهم الوعي والمعرفة، مؤسساً لما يعرف بالإيمان بعد المعرفة، قائلاً بتلازم المعرفة مع قيمة الإيمان. ومضى يفكّك العبادات لفهم فلسفتها، فقارب فريضة الحج بروح جديدة عالية الروحانية، كانت كفيلةً بإضفاء المعنى على العبادة كممارسة. وكان من أوائل الذين رسموا صورة مختلفة لأهل بيت الرسول، عكست فكره كعالم اجتماع ومفكّر يتوخّى لغة الفلسفة.
أعاد شريعتي رسم صورة الإمام الحسين، فهو الشهيد الناظر الحاضر والمحسوس والمشهود والأسوة التي ينظر إليها الجميع والحجة على الخلق. فالشهيد قلب التاريخ بتعبيره، وكما يضخّ القلب الدماء إلى مختلف أنحاء الجسم، فالشهيد يعيد النبض والحياة إلى إيمان الأجيال، فيثبتون ويتمسّكون أكثر، وليس الأمر كذلك طبعاً في المجتمعات المنحطّة.
أما تعريف شريعتي للشهيد، فنابع من منهجه الكربلائي، ودراسته لواقعة كربلاء كمدرسة إنسانية كونية، تتجاوز الزمان والمكان. فهو يعدّ الشهادة أعظم ثروة في تاريخ التشيع، وهي الفعل الذي ليس ثمة أي مقاومة في وجهه.
ويصف شريعتي الشهادة الحسينية، بأنها شهادة رجل نهض لكي يستشهد، ولم ينهض ليكسر شوكة العدو ويحقّق النصر عليه، ثم يستشهد في إثر حادثة ما في الميدان. بل إنه خرج مدركاً مصيره، مستقبلاً الموت مقبلاً عليه.
يقول شريعتي، إن الحسين استشهد قبل أن يستشهد، في اللحظة التي نطق فيها بـــ "لا" في وجه حاكم المدينة، وهو يدرك أنّ ثمن هذه الـــ"لا" هو الشهادة. فتمسي الشهادة في هذه الحالة، حيث الانحطاط والظلم بلغا ذروتهما، وما عادت العظة تنفع، ولا بقيت قائمة للقيم الإسلامية، بل مسخت كلّها، سلاحاً وحيداً لتحقيق النصر.
آمن شريعتي بأنّ صرخة الحسين "هل من ناصر ينصرني!" لم تكن في وجه الإنسان في زمانه، وهو الذي يعلم جيداً بأنه لن يجد ناصراً، ويدرك تمام الإدراك طريقه ومنتهى خياره. لكنها صرخة لتاريخ البشرية غداً، وهو سؤال للمستقبل ولكلّ الأزمان، ولنا جميعاً: هل من ناصر ينصر الحسين؟
هكذا دأب الشعب الإيراني على استحضار ملحمة الحسين في كلّ حين، كلما دقّ الاستكبار جرس الحروب، وكلما تخطى طاغية حدوده مع هذه الأرض. فلم يكن غريباً، إذاً، التفاف الإيرانيين على قيادتهم ووقوفهم قلباً واحداً في وجه الصهيوني والأميركي. لقد خاطب الرئيس الإيراني، مسعود بزشكيان، شعب إيران مبتدئاً حديثه بعبارة "سلام على روح مؤسس الثورة الإسلامية"، وفي ذلك تأكيد استمرار نبض الثورة الإسلامية، وثمارها المستمرة، لأنها ثورة استمدت مبادئها من ثورة الحسين. وهي ثورة أثبتت أنها ولّادة خضراء، وقد أكد الإمام الخامنئي مراراً حركيّتها، حيث إنها تنضج وتمرّ عبر مراحل، ولا تتوقّف، لأنّ غايتها الحضارة الإنسانية الكبرى، وهو الذي رسم خلال العقود الماضية، أهدافاً واضحة المعالم في هذا المسار، لكلّ خطوة من خطوات الثورة، وصولاً إلى المرحلة الخامسة التي نشهدها اليوم.
ولعلّ انتصار الجمهورية الإسلامية اليوم، هو ثمرة من ثمار العمل على مبادئ هذه المرحلة، وهي على ما أعلن السيد خامنئي، مرحلة البحث والتدوين العلمي، وتحقيق القوة والمقاومة العلمية في وجه التحدّيات التي يصنعها العدو.
لقد عرّفت ثورة الخميني، هذا الشعب على نهضة الحسين، فهم اليوم يستحضرونه كلما هتفوا في وجه العدو "هيهات منا الذلة"، ويصغون إلى صدى صوته الكربلائي، يجوس خلال التاريخ، فيصل إليهم "هل من ناصر ينصرني؟" فيتلهفون – على اختلاف تدينهم والتزامهم الديني- لنصرته.