الموسم الأدبي الفرنسي 2025: سرد ذاتي واستكشاف العائلة
نحو 500 إصدار روائي في الموسم الأدبي الجديد في فرنسا. ما الذي عكسته معظم الروايات؟ وكيف سيطر الاتجاه المتمثل في هيمنة السرد الذاتي واستكشاف التاريخ العائلي؟
مع انطلاق موسم الدخول الأدبي الفرنسي للعام 2025، الذي يُقدّم نحو 500 إصدار جديد، تتجلّى ملامح المشهد الأدبي لهذا العام في اتجاه بارز، يتمثل في هيمنة السرد الذاتي واستكشاف التاريخ العائلي. فما تزال "الأنا" تُشكّل مصدر إلهام محورياً للكتّاب، حيث تتصدر أعمال "الأدب الذاتي" (Autofiction) المشهد، متوغلة في ذاكرة العائلات لتكشف عن أسرار وصدمات متوارثة عبر الأجيال، في تداخلٍ لافت بين الحكايات الشخصية والتاريخ الأوروبي الجماعي.
إلى جانب ذلك، يبرز صوت حميمي خاص في روايات أخرى تتناول تجارب إنسانية عميقة مثل الحب والفقد والحداد. غير أن هذا الانكفاء على الذات لا يعني الانفصال عن العالم. إذ تظل الرواية الفرنسية مرآة تعكس قضايا المجتمع الراهنة، من الأزمة البيئية والعنف ضد المرأة إلى التحوّلات السياسية العميقة.
في هذا السياق، يلجأ العديد من الكتّاب إلى إعادة قراءة التاريخ، لا لمجرد استعادة أحداث الماضي، بل لتوظيفه كأداة لفهم الحاضر وطرح أسئلة جوهرية حول الذاكرة والهويّة.
هذا الموسم يشهد بروز 10 روايات أثارت اهتمام النقّاد وفضول القراء على حد سواء. تتراوح هذه الأعمال بين استكشاف الذاكرة العائلية والغوص في أعماق النفس البشرية، لتُقدِّم عوالم سردية نابضة بالفكر والمشاعر، حيث يلتقي العمق الفلسفي بالقصص المؤثرة التي تبقى في الذاكرة.
وهنا نستعرض بشكل مختصر أهم هذه الروايات:
"ليل القلب" لناتاشا أبانا
-
ناتاشا أبانا
تأخذنا رواية "ليل القلب" لناتاشا أبانا، في رحلة مؤثرة إلى عوالم النساء اللواتي وقعن ضحايا للعنف الزوجي. تبدأ الرواية بتقديم 3 رجال من خلفيات مختلفة، تجمعهم الراوية في غرفة خيالية، لتفرض سيطرتها على السرد وتُجبرهم على مواجهة أفعالهم وتحمل مسؤولية جرائمهم. هذه البداية غير التقليدية تمنح الرواية جرأة وقوة فكرية لا تخلو من توتر داخلي. يتقاطع هذا السرد التخييلي مع شهادات حقيقية مأساوية، مثل قصة شاهيناز داود التي أطلق عليها زوجها الرصاص ثم أحرقها حيّة، وإيما التي دهسها زوجها حتى الموت، ليبرز الواقع القاسي الذي تعيشه النساء يومياً.
وتضيف الكاتبة بعداً شخصياً حين تشارك تجربتها كضحية للعنف، فتُصبح الرواية أكثر صدقاً وارتباطاً بالقارئ، وكأنّ الألم الفردي يتحوّل إلى صرخة جماعية ضد الظلم.
"مزرعة جماعية" لإيمانويل كارير
في روايته "مزرعة جماعية"، يعرض إيمانويل كارير حياة والدته، المؤرخة الشهيرة والخبيرة بالشؤون الروسية، هيلين كارير دانكوس، ويستعرض تاريخ عائلته الممتد على مدى قرن كامل. لا تكتفي الرواية بسرد الأحداث العائلية فحسب، بل تمزج ببراعة بين السيرة الذاتية والتاريخ العالمي. فبينما يروي كارير قصة عائلته التي تعود أصولها إلى النبلاء الجورجيين الفارين من الثورة البلشفية، يربط الأحداث الشخصية بتفاصيل تاريخية كبرى، مثل الحرب الروسية -الأوكرانية التي عايشها من موسكو.
ويُقدّم الكاتب نظرة عميقة على الذاكرة العائلية وكيفية تأثيرها في تشكيل هويتنا، ويُحلّل الروح الروسية بأسلوب نقدي وحماسي. وعلى الرغم من أن الرواية تُمثل إعلان حب لوالدته، فإنها تتسم بالصدق والجرأة، حيث تتخلل السرد لمسات نقدية تجاه بعض جوانب حياتها ومواقفها السياسية المتعاطفة مع روسيا و"تساهلها" مع بوتين.
في النهاية، ليست "مزرعة جماعية" مجرد سردية عائلية، بل رواية غنية بالأفكار، تتناول مواضيع الحنين والفقدان، وكيف يتقاطع الماضي مع الحاضر، مؤكدة مكانة إيمانويل كارير كأحد أبرز الأدباء المعاصرين.
"ارتعاش" لماريا بورشيه
تُعد رواية "ارتعاش" تأملاً في فكرة التحرّر الشخصي، حيث تتخذ بطلتها ميشيل داراس قراراً مفاجئاً وصادماً بترك زوجها وابنتها الصغيرة. هذا الانفصال ليس نتيجة لحظة غضب، بل هو تعبير عن معاناتها النفسية والجسدية في علاقتها الزوجية التي تظهر بشكل أعراض جسدية مثل الطفح الجلدي.
بعد الانفصال، تجد ميشيل نفسها وحيدة، وتقتصر حياتها على رؤية ابنتها أمام المدرسة كل مساء. هذا الروتين المؤلم يُسلط الضوء على شعور البطلة بالذنب والحزن، ولكنه في الوقت نفسه، يُبرز تصميمها على البحث عن ذاتها.
تتعمق الرواية في الأسباب الكامنة وراء قرار ميشيل، وتفضح الأسرار العائلية التي ساهمت في بناء شخصيتها، وهوسها الدائم بالهروب. تُعد الرواية قصة جريئة ومؤثرة عن الصراع بين الحب والحريّة، وتدعو القارئ إلى التساؤل حول إمكانية العثور على الذات بعيداً عن الالتزامات الأسرية، حتى لو كان الثمن هو الانفصال عن الأحباء.
"نيرونا" لهيلين فراباه
تعد رواية "نيرونا" للكاتبة هيلين فرابا عملاً أدبياً ساخراً للغاية، ينتمي إلى فئة الكوميديا السوداء، ويُسلّط الضوء على آليات السلطة والدكتاتورية في قلب أوروبا. تدور أحداث الرواية حول زعيمة مستبدة، اسمها «نيرونا، التي تعاني من جنون العظمة وتصر على أن يُطلق عليها لقب «الأمير»، وقد وصل بها جنون العظمة إلى أن تُطلق على نفسها لقب «مُخلّصة الأمة» و«السلاح السري للسياسة الفرنسية».
رغم كل عيوبها، فإن الشعب أيّدها وأوصلها إلى السلطة، وهي تستخدم ذلك لتمرير سياسات متطرفة. تتعمق الرواية في كواليس الدكتاتورية وتكشف كيف يتم التلاعب بالخطاب الشعبوي، من خلال مواضيع مثل الخيانة، الرومانسية الوطنية، والتنجيم. كما أنها تستكشف ماضي نيرونا وطفولتها المضطربة، وكيف شكلت هذه التجارب شخصيتها القاسية.
تُبرز الرواية ازدواجية شخصية نيرونا التي تظهر قوية في العلن، بينما تعاني من جروح طفولتها في الخفاء. تحمل الرواية على غلافها عنواناً فرعياً ساخراً: "فلنضحك معاً قبل فوات الأوان"، ما يُلخّص ببراعة جوهرها الذي يمزج بين الكوميديا القاتمة والتحليل السياسي العميق.
"إلى الأبد" لجاكوتا أليكافازوفيتش
تأخذ رواية "إلى الأبد" للكاتبة الفرنسية، جاكوتا أليكافازوفيتش، القارئ في رحلة عميقة داخل الذاكرة والعلاقات العائلية، حيث يلتقي الحزن بالشوق، والغياب بالسعي لفهم الذات. تبدأ الرواية بوفاة والدة الراوية، شاعرة بوسنية توقفت تدريجياً عن الكتابة بعد انتقالها إلى فرنسا، تاركة وراءها صمتاً يكتنز الأسرار والذكريات. يُشكل هذا الحدث الشرارة التي تدفع الابنة إلى الغوص في استكشاف حياة والدتها، محاوِلةً فهم صمتها وكشف ما لم يُفصَح عنه يوماً.
يتنقل السرد بانسيابية بين الماضي والحاضر، بين ذكريات الطفولة ولحظات الاكتشاف المتأخرة، لتتشابك حكايات الراوية مع حياة والدتها وصديق العائلة ساشا، الذي شهد أولى علامات الفقد.
على طول الطريق، تكشف الرواية شظايا الماضي المخفية والأسرار العميقة التي تُشكّل هويتنا وتربطنا بمن نحب، حتى في غيابهم. كما تتغلغل الرواية في التأمل بالعلاقة بين اللغة والهوية، من خلال توقف الأم عن الكتابة، لتطرح تساؤلات عن أثر الصمت والغياب على حياتنا وذاكرتنا والبحث عن ذاتنا.
"البيت الفارغ" للوران موفينييه
تندرج رواية "البيت الفارغ" ضمن الرواية العائلية والتاريخية، حيث يجمع لوران موفينييه بين استكشاف الذاكرة الفردية والجماعية، وتوثيق مسارات حياة العائلة عبر أجيال متعددة.
تنطلق أحداث الرواية من لحظة اكتشاف والد الكاتب منزل جدته في عام 1976، وهو منزل يبدو عادياً للوهلة الأولى، لكنه يحمل في طياته ذكريات متراكمة وقطعاً أثرية وصوراً ومقتنيات شخصية لعائلة امتدت حياتها عبر قرون.
هذا الاكتشاف يُشكّل نقطة البداية لسرد معقد ومتعدد الأصوات، يسبر أغوار علاقات العائلة ويميط اللثام عن حيوات أولئك الذين غابوا ولم نعرفهم أو نفهمهم بشكل كامل. تتبنى الرواية نهجاً سردياً يسمح بتداخل الزمن والمكان. إذ تنتقل بين الحاضر الذي يعيشه الكاتب وعائلته، وبين الماضي الذي يتجلى تدريجياً من خلال المقتنيات والذكريات والقصص الشفوية.
تشمل الرواية محطات مهمة من التاريخ الأوروبي، مثل الحربين العالميتين، والحياة الريفية، وتغيّرات المجتمع الفرنسي عبر العقود، ما يجعلها أيضاً مرآة لتاريخ المجتمع والتحولات الثقافية والاجتماعية.
من أبرز سمات هذه الرواية أنها لا تكتفي بسرد الوقائع، بل تتغلغل في النفس البشرية وتحاول فهم دوافع الشخصيات وتصرفاتهم، بما في ذلك أحداث مأساوية مثل انتحار والد الكاتب، وهو موضوع يتعامل معه موفينييه بحساسية شديدة، مستكشفاً الصراعات الداخلية والذكريات المؤلمة التي شكّلت مسار حياة العائلة.
"الرجل الذي كان يقرأ الكتب" لرشيد بن زين
تتتبّع الرواية حياة نبيل الجابر، بائع الكتب الفلسطيني السبعيني، المولود عام 1948 في قرية "بلد الشيخ" بفلسطين. بعد الهجوم على قريته، اضطرت عائلته إلى الفرار نحو غزة والاستقرار في مخيم جباليا. تغوص الرواية في ماضي نبيل، مستعرضة صداقته مع حافظ، ولقاءه الأول بهيام أثناء الإعداد لمسرحية "هاملت". كما تروي تجربة أسره التي امتدت لعشرين عاماً في سجون الاحتلال، إثر مشاركته في الانتفاضة الأولى رغبةً في الثأر لابنه الذي قُتل على يد الصهاينة.
يفتتح نبيل مكتبته في غزة كملاذ آمن، يهرب إليه من العالم من دون أن ينفصل عنه تماماً؛ فلكل كتاب فيها حكايته ومكانه الخاص. يرى نبيل المكتبة مرآةً وعالماً قائماً بذاته، ويؤكد أن الكتب تختار قراءها بقدر ما يختار القراء كتبهم. وتضيء الرواية أيضاً على مهنة التصوير الحربي من خلال شخصية المصوّر الفرنسي جوليان، الذي جاء إلى غزة لالتقاط صور الفوضى والدمار، لكنه يكتشف عبر نبيل أن خلف كل صورة تكمن حكاية إنسانية عميقة.
"هذا أفضل" لأميلي نوثومب
في روايتها الجديدة "هذا أفضل" تعود أميلي نوثومب إلى النبش في ذاكرة العائلة، وهذه المرة لتسرد حكاية والدتها. تتناول الرواية شخصية أدريان، الطفلة ذات الأربع سنوات، التي تُرسل لقضاء الصيف عند جدتها خلال الحرب العالمية الثانية. هناك، تصطدم بواقع قاسٍ داخل منزل تغيب عنه المودة، حيث تفرض الجدة المنحدرة من أسرة ثرية فقدت كل ممتلكاتها نظاماً صارماً يثقل كاهل الطفلة، حتى في تفاصيل الحياة اليومية البسيطة كالأكل واللعب.
ورغم هذه الأجواء الخانقة، تكشف الرواية عن قدرة أدريان على التكيّف عبر صلابة نفسية لافتة، تستمدها من إصرارها على التمسك بالفرح والسعي لفهم ماضي عائلتها. تضيء الأحداث على العلاقات المُعقّدة بين الأجيال، فتظهر قسوة الجدة بوصفها نتاجاً لمعاناتها الخاصة، كما ترسم ملامح الرابط العاطفي بين أدريان ووالدتها. ذلك الرابط الذي تحاول الطفلة حمايته رغم ما تكتشفه من حقائق موجعة. بأسلوب يجمع بين الصراحة والدعابة السوداء، تنسج نوثومب نصاً مؤثراً عن الصمود الإنساني، وعن قدرة الحب على البقاء حتى داخل أكثر الروابط هشاشة وتعقيداً.
"السخونة الزائدة" لناثان ديفرز
تقدم رواية "السخونة الزائدة" لناثان ديفرز قصة فلسفية عميقة تتناول الإرهاق والإنهاك في عالمنا المعاصر. تدور أحداث الرواية حول جاد، سيدة ناجحة في عملها لكنها تعاني من إرهاق جسدي ونفسي بسبب ضغوط وظيفتها، وزوجها الأناني، ورئيسها الفاسد.
هروباً من هذا الواقع المرهق، تتولى جاد مهمة الإشراف على إنشاء فندق فخم في "أرخبيل أندامان" الهندي، قرب جزيرة منعزلة يسكنها شعب غامض ومعزول عن العالم يُعرف باسم "السينتينيليز" (Sentinelles).
تتحوّل هذه الجزيرة في الرواية إلى رمز وملاذ أخير في عالم يعاني من "السخونة الزائدة".
يقدم ناثان ديفرز هذه الرواية كـ "جهاز لرصد زلازل الحداثة" مستخدماً قصة جاد والجزيرة لتشخيص أمراض العصر الحديث، مثل الاستهلاك المفرط، والضغط المستمر للتواصل، والسعي الدائم وراء السعادة، والتي تؤدي جميعها إلى الشعور بالإرهاق والضياع.
وتطرح الرواية سؤالاً جوهرياً: هل يمكن للبشرية أن تستعيد التوازن والهدوء، أم أنها محكوم عليها بالاستمرار في هذه "السخونة الزائدة" التي قد تقودها إلى الانهيار؟
"أردت أن أعيش" لأديليد دو كليرمون - تونير
يعيد كتاب "أردت أن أعيش" تقديم شخصية "ميلادي دي وينتر" الشهيرة في رواية "الفرسان الثلاثة" لألكسندر دوما، في صورة مغايرة تماماً لما اعتاده القرّاء. فبدلاً من اختزالها في رمز للمكر والخيانة والإغراء، تكشف الكاتبة عن خلفيات حياتها وأسرارها التي صاغت مصيرها.
تنطلق الرواية من طفولة ميلادي اليتيمة عام 1609، وتتابع رحلتها من فتاة هشّة إلى امرأة ذكية وطموحة تسعى للانتقام دفاعاً عن عائلتها. ومن خلال السرد بلسانها، تبرز الرواية ظلم المعايير السائدة في القرن الــ 17 تجاه النساء، حيث يُعدّ ما يُنظر إليه كفضيلة لدى الرجل خيانة إذا صدر عن المرأة.
بهذا المنظور، يتيح الكتاب إعادة قراءة عالم "الفرسان الثلاثة" من زاوية ميلادي، كاشفاً دوافعها العميقة وأسرارها الداخلية. وفي النهاية، تنجح الكاتبة في إضفاء بُعد إنساني على شخصية طالما نُظر إليها تاريخياً بكراهية، فاتحةً الباب أمام القارئ للتعاطف معها وفهم مكنوناتها الحقيقية.