اليسار العربي يعود بلا وعد: تمرد لا ثورة!
من مشروع للحداثة التحرّرية إلى آخر أشبه بكائن في متحف. أين كان اليسار العربي وأين أصبح اليوم؟
في لحظة ما من القرن العشرين، بدا اليسار العربي مشروعاً تاريخياً متكاملاً. فقد حمل وعود التحرّر والعدالة، وتقدّم كأداة للقطيعة مع الاستعمار والتخلّف. انصهرت فيه النخب الثقافية والنقابية، وامتزجت الأحلام القومية بالمخيال الاشتراكي، فغدا لغة خلاصية شاملة.
لكنّ هذا البناء بدأ يتآكل تدريجياً، ليس فقط بفعل القمع أو الهزائم، بل نتيجة تحوّله إلى سردية مغلقة، غير قادرة على قراءة التحوّلات الاجتماعية والسياسية.
وكما يوضح جيلبير أشقر في كتابه "الشعب يريد" (2013)، بقي هذا اليسار عالقاً بين خيارين قاتلين. إما الاندماج في أنظمة تسلّطية باسم "الاشتراكية الوطنية"، أو التقوقع في تنظيمات نخبوية تقليدية.
ومع نهاية الحرب الباردة، تعمّق هذا الانهيار: غابت الجماهير، واندثرت الأحزاب، وخرجت النخب اليسارية من معادلة السلطة ومن وجدان الناس.
غير أنّ انتفاضات العام 2011 أعادت خلط الأوراق. حيث فتحت الفضاء العام أمام مطالب الكرامة والمساواة، لكنها لم تستدعِ اليسار القديم، لا في لغتها ولا في أدواتها. هذا الغياب لم يكن عرضياً، بل نتيجة منطقية لمسار التكلّس السابق. ذلك أن ثورات بلا قيادة كلاسيكية، ولا سرديات كبرى، خلقت فراغاً رمزياً لم يعرف اليسار كيف يملأه. ومع ذلك، ظهرت تعبيرات جديدة: يسار بلا حزب ولا أيديولوجيا جامعة، يتحرّك في المجتمع المدني، ويتجلّى في مبادرات نسوية، وبيئية، واحتجاجات محلية، يشتغل ضمن الهامش لا عبره، ويؤثّر بوسائط فنية ورقمية.
يشبّه لورانت جان بيار هذا اليسار بيسار "الروند بوين" في فرنسا. أي اليسار الذي يبني سياسته على الغضب اليومي، لا على النظرية؛ وعلى الجسد في الفضاء العامّ، لا على التصوّرات الكبرى.
في العالم العربي، يعبّر هذا اليسار عن ذاته خارج السياسة، في معارك ضد النيوليبرالية والسلطوية، لكنه يظل هشّاً. فهو يسار معولم، وفرداني، يتحدّث بلغة الجندر والمناخ، لكنه منقطع عن الطبقات الشعبية، ويصعب أن يتحوّل إلى قوة تاريخية فعلية. وهو محكوم بمفارقة السعي للتغيير من داخل بنى مدنية تمّ تدجينها.
هنا يطرح السؤال التالي: هل نحن أمام عودة لليسار، أم أمام صدى لغضب بلا أفق؟ وهل يمكن لهذا الشكل السيّال والأفقي أن يتحوّل إلى بديل، أم أنه مجرّد ردّ فعل رمزي على انهيار النماذج القديمة؟
أنقاض اليسار القديم: من الحلم التحرّري إلى الطوائف السياسية
-
حمل اليسار العربي وعداً بالتنمية والعدالة والسيادة وراهن على الدولة كمحرّك للتقدّم والخلاص من التخلّف
كان اليسار العربي، في زمن ما بعد الاستعمار، مشروعاً للحداثة التحررية أكثر منه تموضعاً أيديولوجياً. فقد حمل وعداً بالتنمية والعدالة والسيادة، وراهن على الدولة كمحرّك للتقدّم والخلاص من التخلّف. لكنه لم ينبنِ على حركة اجتماعية واسعة، بل على نخبة مثقّفة صاغت خطابها من علٍ، مستخدمة مفردات التحديث العمودي والدولة المركزية.
هكذا، غاب عن الحقول الاجتماعية الفعلية، واستحال إلى نواة بيروقراطية تقيم في قلب الدولة أكثر مما تتحرّك في هوامشها. في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، جسّدت التجارب الناصرية في مصر، والبعثية في سوريا والعراق، والاشتراكية الجزائرية بعد الاستقلال هذا الأفق. رفعت هذه الحركات شعارات الإصلاح الزراعي والتأميم والتعليم المجاني، وبدت كأنها تقدّم للشعوب وعد الخلاص من الفقر والتبعية. لكن هذه المشاريع بقيت محمولة على أجهزة الدولة، لا على انغراس فعلي في المجتمع، فتحوّلت إلى إصلاحات فوقية قابلة للانتكاس.
في مصر، مثلاً، أطلق الرئيس الراحل جمال عبد الناصر ما عرف بقانون الإصلاح الزراعي عام 1952، ثم تأميم قناة السويس عام 1956، ما منحه شعبية هائلة ورسّخ صورة الدولة التنموية.
أما في الجزائر، فقد أعادت تجربة أحمد بن بلة وهواري بومدين توزيع الأراضي وتأميم النفط، بينما سعت البعثية في سوريا والعراق إلى فرض نموذج اشتراكي يقوده الحزب الواحد. ثم في تونس، حيث تبنّى الحبيب بورقيبة خيار "التعاضد" في ستينيات القرن العشرين، لكنه انهار سريعاً تحت ضغط الفلاحين والبيروقراطية، قبل أن يعاد توجيه المسار نحو دولة ليبرالية متحكّم فيها. في كل هذه الحالات، ظلّ اليسار مرتبطاً بمشروع الدولة أكثر من كونه متصلاً بحركة اجتماعية مستقلة.
كما أنّ هذا اليسار لم ينجُ من منطق الدولة الأمنية التي احتضنته حين احتاجت إليه، ثم لفظته حين استنفدت رمزيته. بل إنّ بعضه تحوّل إلى جناح مدني يجمّل وجه السلطوية، وفق ما أظهرته تحليلات، بياتريس هيبو. إذ بينما كان ينظّر لـ "الدولة القائدة للتنمية"، وجد هذا اليسار نفسه يكرّس "دولة الريع والقمع"، العالقة بين الشعارات والولاء، من دون أن يفتح أفقاً ديمقراطياً حقيقياً.
برز هذا التناقض بوضوح في تونس. "الاتحاد العام التونسي للشغل"، الذي قاد إضراب 26 كانون الثاني/يناير 1978، مثّل ذروة قوة الحركة النقابية اليسارية، لكنّ الدولة قمعت الاحتجاج بعنف، فكانت النتيجة مئات الشهداء والجرحى وتراجع هامش استقلالية النقابة.
أما في العام 1984، فقد فجّرت "ثورة الخبز" غضب الطبقات الشعبية ضد سياسة رفع الأسعار، فوجد اليسار نفسه محاصراً بين خطاب الدولة الأمنية وصعود المعارضة الإسلامية.
ثم انهارت الدولة التنموية منذ سبعينيات القرن الماضي مع أزمة النفط (1973) وتراجع الريع التنموي، قبل أن تأتي برامج التكييف الهيكلي في ثمانينيات القرن العشرين لتقضي على ما تبقّى من وعد العدالة الاجتماعية.
مع هذا الانهيار، انهارت الجبهة الاجتماعية التي كان اليسار يستند إليها. هكذا فقدت النقابات استقلاليتها وتحوّلت إلى أجهزة مروّضة، وكذلك الحركة الطلابية التي تشظّت وتراجعت بعدما كانت في السبعينيات بوصلة للراديكالية اليسارية، وصولاً إلى الطبقة الوسطى التي انقسمت بين مهدّد بالتهميش أو عالق في بطالة طويلة الأمد.
كلّ ما سبق يدلّنا على تحوّل اليسار من فاعل جماهيري إلى نخبة رمزية تتحدّث لغة لا يصغي إليها أحد. وكما أشار البعض، بات هذا اليسار أقرب إلى "أرستقراطية سياسية" تمارس السياسة كهوية، لا كفعل.
في نقده لتجربة اليسار يكشف فادي بردويل هذا المآل بوضوح: تحوّل الماركسيون من محللي واقع إلى حرّاس لسردية مغلقة، منشغلين بالكتابة أكثر من التنظيم.
في هذا الفراغ، تمدّدت الحركات الإسلامية منذ السبعينيات، مدعومة بهزيمة 1967 التي قوّضت شرعية اليسار القومي، وبنجاح الثورة الإيرانية 1979، وأيضاً انتشار الجمعيات الخيرية التي شكّلت شبكات دعم اجتماعي فعّالة.
أما اليسار، فقد عجز عن لمس نبض الحياة اليومية، كما أظهرت دراسات، آصف بيات، التي بيّنت كيف ظلّ اليسار العربي حبيس لغة صراع طبقي كلاسيكية، بينما تغيّر الواقع جذرياً، حيث اتسع الاقتصاد غير الرسمي، وتصاعد التدين الفرداني، وانتشرت أشكال جديدة من المقاومة الصامتة.
مفارقة اليسار اليوم أنه يبشّر بالمستقبل لكنه عالق في الماضي. لا يستطيع استعادة جمهوره التقليدي من العمّال والطلاب والنقابيين، ولا مخاطبة جيل الإنترنت الذي يعيش بين الاستبداد المزمن والبطالة الواسعة. هكذا تقلّص اليسار إلى دوائر حزينة ومغلقة، تبحث عن الشرعية في بيانات باردة، بينما أصبحت سردية التحرّر طيفاً يتردّد في الندوات أكثر من تحرّك في الشارع. هكذا يبدو أنّ التاريخ الذي رفع فيه اليسار شعار "التقدّم والعدالة" انقضى، وبقي أثره معلّقاً كذكرى أكثر منه قوة فاعلة في الحاضر.
ما بعد الثورات: لماذا لم يملأ اليسار الفراغ؟
-
النقد الذي وُجّه لسلطوية اليسار القديم لم ينتج يساراً أكثر ديمقراطية، بل خلق يساراً معلّقاً في الفضاء الرمزي
في زمن ما بعد "الثورات"، لم تعد عودة اليسار العربي استعادة لمشروع تغييري بقدر ما أصبحت وميضاً رمزياً، يعلّق بين ذاكرة بطولية وواقع هشّ. عاد اليسار، لكن بلا وعد؛ في شكل احتجاجات معزولة، وبيانات موسمية، ولغة مشحونة بالرموز.
بدا كأن التمرّد صار بديلاً من المشروع، والرفض بديلاً من الخيال. غير أنّ هذا الحضور الرمزي لم يترجم إلى قدرة على ملء الفراغ السياسي الذي خلّفته "الثورات"، سواء في تونس بعد 2011، أو في مصر بعد سقوط حسني مبارك، أو في المغرب مع حراك 20 فبراير.
تتجلّى هنا مفارقة عميقة: من يُفترض أنهم ورثة "اليسار التاريخي" صاروا يمارسون السياسة كهوية رمزية، لا كأداة تغيير، كما لاحظ بنيامين دجيان في حديثه عن "اليسار الجمالي" (2025)، حيث تحوّلت شرائح واسعة من هذا اليسار إلى أداءات لغوية وجمالية تنتقي معاركها بعناية، غالباً في قضايا مريحة كحقوق الأقليات والرموز الثقافية، بينما تنسحب من المواجهات الاجتماعية الأكثر كلفة، كقضية البطالة، وتفكك التعليم الرسمي، أو الفساد.
في السياق العربي، تعقّد هذا الميل أكثر: فجيل 2011 لم يكن حاملاً لأيديولوجيا كبرى، بل ابن قطيعة مزدوجة مع الأنظمة، ومع النخب المعارضة التي فقدت فعاليتها.
في تونس، مثلاً، مثّلت "جبهة 14 جانفي" التي تأسست مباشرة بعد الثورة محاولة لتوحيد اليسار، لكن سرعان ما تفككت أمام صعود "حركة النهضة" من جهة، وأمام تسلّق القوى الليبرالية والبيروقراطية القديمة من جهة أخرى.
بقي اليسار في الشارع عبر "الاتحاد العام التونسي للشغل" الذي أدّى دوراً بارزاً في حوار 2013، لكنه لم يتحوّل إلى مشروع سياسي قادر على منافسة الإسلاميين أو المنظومة القديمة.
أما في مصر، فقد وجدت قوى يسارية مثل "التيار الشعبي" أو "التحالف الديمقراطي الثوري" نفسها هامشية أمام تحالف الإسلاميين مع المجلس العسكري أولاً، ثم أمام عودة السلطوية في مرحلة ثانية.
وفي المغرب، فقد انقسم اليسار بين تيارات إصلاحية مندمجة في اللعبة الانتخابية، وأخرى راديكالية فقدت جاذبيتها بعد أفول زخم الشارع.
اليسار الكلاسيكي بدا حينها كائناً متحفياً، يُعيد إنتاج خطاب مفصول عن الواقع، لكنه لم يختفِ تماماً، بل أعاد إنتاج ذاته داخل المجتمع المدني المموّل، متماهياً مع سرديات ليبرالية فردانية ومنزوعة السياق.
برز ذلك في تونس مع موجة المنظمات غير الحكومية التي توسّعت بعد عام 2011 بتمويل أوروبي وأميركي، حيث أعادت نخب يسارية كثيرة تموقعها كـ "خبراء" أو "مدرّبين" في قضايا الحوكمة وحقوق الإنسان، بدل الانخراط في بناء حركات اجتماعية مستقلة. أصبحت الراديكالية، كما أشار زيغموند باومن، مجرّد تعبير رمزي لذات مشظاة تبحث عن هوية، لا عن موقع فعلي في معادلة السلطة. أما ديفيد جرايبر، فيُبرز كيف تحوّلت اللحظة الاحتجاجية إلى طقس رمزي قائم بذاته، لا وسيلة لفرض تغيير فعلي.
هذا ما يفسّر نشوء يسار "ثقافوي"، "ينطق بالثورة لكنه يعيش بالتمايز"، يتحدّث بلغة المشاريع المموّلة وورشات العمل أكثر مما يتحدّث بلغة التعبئة والتنظيم.
أما في مصر، فقد تحوّل العديد من مثقّفي اليسار إلى ناشطين في مبادرات ثقافية أو حقوقية تركّز على قضايا الهوية أكثر من المسألة الاجتماعية. وفي تونس، انزاحت النخب التي خرجت من أحزاب الستينيات والسبعينيات نحو فضاء المنظمات الدولية والـNGO، حيث أصبح "اليسار" يتغذّى على التمويل ويبرّر واقعيته بمرحلّية مريحة، فيما ظلّت الهوامش الشعبية – من القصرين إلى تطاوين – تنتفض خارج خطابه.
أما في لبنان، فقد فشل اليسار التقليدي في أن يكون القوة الجامعة لانتفاضة 17 تشرين 2019، تاركاً الساحة لمجموعات شبابية أفقية لم تجد إطاراً سياسياً جامعاً، وفتح الباب أمام حرف مسار المطالب الشعبية إلى تصويب سياسي على فئة محددة بدعم من السفارات الغربية في البلاد.
المفارقة أنّ النقد الذي وُجّه لسلطوية اليسار القديم لم ينتج يساراً أكثر ديمقراطية، بل خلق يساراً معلّقاً في الفضاء الرمزي. يسار يكتب بيانات على "فيسبوك"، ويحتفل بهويته في قاعات مغلقة. يسار يشبه طائفة لغوية أكثر منه حركة اجتماعية. تمرّد بلا ثورة، ورمزية بلا تجذّر، وخطاب لا يعكس آلام المفقرين في الأحياء الشعبية أو ضحايا الهجرة غير النظامية، بل يعيد إنتاج نخبوية تكتب… ثم تغادر. هكذا، ظلّ اليسار العربي ما بعد "الثورات" عاجزاً عن ملء الفراغ، لأنه فقد الرابط الحي بين الرمزية السياسية والواقع الاجتماعي، وبين الخطاب والأرض.
اليسار الجديد: تعبيرات هامشية أم نواة بديلة؟
-
نشأت الحركات النسوية والبيئية والطلابية العربية في مواجهة اليسار التقليدي أو على هامشه
لم تولد الحركات النسوية، والبيئية، والطلابية، والمناهضة للنيوليبرالية في العالم العربي من رحم اليسار التقليدي، بل غالباً ما نشأت في مواجهته أو على هامشه. إنها تعبيرات عن زمن سياسي مختلف، لا تعرّف نفسها بمفردات الأمس، ولا تسير على خطى الأطر الحزبية الكلاسيكية. ترفض هذه الحركات الهرمية والتنظيم المركزي، وتتبنّى الأفقية والعمل الشبكي، لكنها في كثير من الأحيان تمارس السياسة من دون أن تعترف بها كفعل سياسي منظم. كما أنها تطرح أسئلة كبرى حول العدالة الجندرية والبيئية والاجتماعية، لكنها تعجز عن بلورة أجوبة جماعية قابلة للبناء في مشروعات مستدامة.
برزت هذه الديناميات بوضوح منذ العقد الثاني من القرن الــ 21. ففي تونس، شكّلت الاحتجاجات النسوية مثل حملة "مانيش مسامحة" (2017) ضد قانون المصالحة مع رموز الفساد، مثالاً على تداخل النضال النسوي بالسياسة العامة، لكن من خارج الأطر الحزبية. وفي مصر، نشأت حملات مثل "قوها" و"مش هتسكتوا" لمناهضة العنف الجنسي بعد ثورة 2011، لتعيد تعريف الفضاء العام كمساحة صراع على الجسد والكرامة. أما في المغرب، فقد حمل حراك الريف (2016–2017) شعارات اجتماعية واقتصادية واضحة، لكنه ظل بعيداً من الأطر اليسارية التقليدية، واستند إلى خطاب محلي يزاوج بين الهوية الأمازيغية والمطالب التنموية.
وسط هذا المشهد، تبرز مفارقة واضحة. بينما تتقدّم هذه الحركات بخطاب تحرّري وراديكالي، تفتقر إلى الامتداد الشعبي العميق. المبادرات البيئية، مثل حملة "طلعت ريحتكم" في لبنان (2015) التي اندلعت احتجاجاً على أزمة النفايات، ظلت محصورة في نخب مدينية لم تنجح في استقطاب القواعد الشعبية الأكثر تضرراً. وكذلك الحملات النسوية، ورغم حضورها الإعلامي والسياسي، كثيراً ما بقيت حبيسة فضاءات معولمة مرتبطة بالتمويل الخارجي والمؤتمرات الدولية، ما جعلها تبدو منفصلة عن الهامش الاجتماعي في الأحياء الفقيرة أو القرى المهمّشة.
ثم في العراق، حيث مثّلت انتفاضة تشرين (2019) ذروة للاحتجاجات الشبابية ضد الطائفية والفساد والنيوليبرالية، لكنها افتقرت إلى حاضنة تنظيمية قادرة على تحويل الدماء المسفوكة إلى برنامج سياسي بديل.
ومع غياب الوسائط السياسية القاعدية كالنقابات المستقلة أو الشبكات الشعبية، تفقد هذه الحركات القدرة على بناء علاقة عضوية مع الفئات التي يُفترض أنها تعبّر عنها. في تونس مثلاً، ظلّت النقابات الطلابية بعد عام 2011 مسرحاً للصراع الأيديولوجي بين الإسلاميين واليساريين أكثر مما كانت مساحة لتعبئة فعلية حول قضايا التعليم والبطالة. وفي لبنان، انقسمت مجموعات "17 تشرين" إلى مبادرات محلية صغيرة سرعان ما تلاشت، بسبب غياب جبهة موحدة أو بنية تنظيمية جامعة.
هذا التوتر يتعمّق حين تنزلق بعض الحركات نحو تبني أجندات قيمية معولمة، تعيد إنتاج النيوليبرالية بأسلوب تقدّمي. أي فردانية مبالغ فيها، وتفضيل الحدث على البنية، والرمز على الاستراتيجية. تتحوّل السياسة هنا إلى أداء جمالي، يحضر بصرياً وصوتياً في الفضاء العام، كما في الاعتصامات التي تحولت إلى مهرجانات ثقافية، لكن من دون أثر تغييري فعلي. ما تملكه هذه الحركات من طاقة نقدية وشرعية أخلاقية لا يتحوّل بالضرورة إلى قوّة تنظيمية أو سياسية.
في المغرب، على سبيل المثال، استثمرت حركات نسوية عديدة في شبكات التمويل الخارجي، لكن حضورها ظل ضعيفاً في معاقل البطالة والهشاشة الاجتماعية.
وتتفاقم هذه المفارقة حين تُختزل السياسة في التعاطف أو التضامن الرمزي، بدل أن تُفهم كصراع مادي على الثروة والسلطة. يتحوّل الفاعل السياسي إلى وكيل لمشاعر إنسانية لا إلى مهندس لمشاريع بديلة. وبينما تُفكّك سرديات الهيمنة – كالنقد الجذري للنيوليبرالية أو لسلطة الدولة الأبوية – لا تُبنى سرديات جديدة تُعيد إنتاج الأمل بشكل جماعي. ولهذا، كثيراً ما تتحوّل الاحتجاجات إلى "لحظة" أكثر منها مساراً، وإلى رمزية أكثر منها مشروعاً.
ورغم محدودية التأثير المؤسساتي، تعبّر هذه الحركات عن انزياح عميق في معنى السياسة: من المطالبة إلى المبادرة، من الأيديولوجيا إلى الممارسة، ومن المركز إلى الهامش. فالطلاب الذين قادوا الاعتصامات في الجامعات المصرية عام 2013، أو النساء اللواتي تقدّمن الصفوف في انتفاضة السودان 2019، أو الناشطون البيئيون الذين أطلقوا مبادرات حماية الأنهار في العراق بعد 2018، كلهم يعكسون انتقال السياسة إلى فضاءات لم يكن اليسار الكلاسيكي فاعلاً فيها. لكنها تبقى أسيرة تناقضاتها بين الاستقلالية والتجذّر، وبين الراديكالية الشكلية والتمثيل الفعلي.
هكذا يظل "اليسار الجديد" وعداً معلّقاً، ورهان المستقبل يتعلّق بقدرته على تحويل هذه الطاقة الاحتجاجية إلى مشروع سياسي يمكن رسملته وتنظيمه من دون الوقوع من جديد في فخ التمركز الرمزي أو التكلّس التنظيمي.
مأزق اليسار في مواجهة السلطويات الجديدة
-
أعادت نخب يسارية تونسية تموضعها بعد عام 2011 وأصبح بعضها "خبراء" أو "مدرّبين" في المنظمات غير الحكومية (غيتي)
في أعقاب الانتفاضات العربية، ظنّ كثيرون أنّ لحظة التغيير التاريخي التي انتظرها اليسار العربي قد حانت. غير أن ما أعقبها لم يكن بزوغاً لبديل تحرّري، بل إعادة إنتاج لسلطويات هجينة جمعت بين أدوات القمع التقليدية وآليات رمزية جديدة لتدجين الخطاب السياسي وتفريغ الحركات الاحتجاجية من مضامينها الفعّالة. ففي مصر، سرعان ما تحوّل أفق الثورة (2011) إلى استقطاب بين الإخوان المسلمين والجيش المصري، انتهى بأحداث 2013 وصعود المشير عبد الفتاح السيسي، الذي تبنّى خيارات اقتصادية ليبرالية جديدة مترافقة مع تعزيز أدوات الدولة في إدارة المجالين السياسي والأمني. بينما تمّ تهميش قوى اليسار التي لم تستطع صياغة بديل مستقل.
وفي تونس، تراجع المد الثوري تدريجياً بعد انتخابات 2014، ثم جاء صعود قيس سعيّد في العام 2021 تحت شعار "تصحيح المسار"، حيث أعاد ترتيب المشهد السياسي في ظل حضور قوي لمؤسسات الدولة التقليدية.
تتجلى أزمة اليسار في فقدانه لمفاتيح التحليل القديمة التي اعتُمدت طويلاً لفهم الدولة والسلطة، وفي انهيار السرديات الكبرى التي شكّلت بنيته الأيديولوجية. لم يعد الصراع يُختزل في ثنائيات مثل البرجوازية/البروليتاريا أو التقدّم/الرجعية. فالأنظمة الجديدة قد تجمع بين النيوليبرالية والخطاب الديني، كما في المغرب حيث حافظ النظام بعد حراك 20 فبراير 2011 على توازن دقيق بين إصلاحات دستورية محدودة واستمرارية المخزن، أو بين سياسات اجتماعية شكلية وقمع مادي لرموز الاحتجاج، كما في الجزائر بعد حراك 2019 حين أُعيد إنتاج واجهة مدنية مع استمرار قبضة الجيش.
أمام هذا التعقيد، تقهقر اليسار إلى فضاءات رمزية أو بيروقراطية، وركن إلى خطاب ثقافوي يعيد إنتاج العزلة بدل كسرها.
من جهة أخرى، تخلّى كثير من اليساريين عن أفق التغيير السياسي الجماعي، واكتفوا بمواقف رمزية وأداءات أخلاقية تتغذى على منطق المنصة لا منطق التنظيم. فحلّ الخطاب محل الاستراتيجية، والبيان مكان الفعل الجماهيري، والمنشور الرقمي محل البنية التنظيمية. في السودان، مثلاً، مثّلت الثورة التي اندلعت في كانون الأول/ديسمبر 2018 ونجحت في إسقاط البشير (نيسان/أبريل 2019) فرصة نادرة لليسار للتحالف مع قوى شبابية ونقابية، لكن سرعان ما ضاعت بين لعبة المحاصصات، ثم أُجهضت بعودة الانقلاب العسكري في أكتوبر 2021، ليبقى حضور اليسار أقرب إلى الصوت الأخلاقي منه إلى القوة الفاعلة. بهذه النزعة، صار اليسار يردّد صدى تاريخه بدل أن يواجه الحاضر، وفقد تدريجياً وزنه كقوة بديلة أو حتى كخصم جدّي للمنظومة.
اليسار الجديد، بدوره، وإن تميّز براديكالية نقدية تجاه السلطوية والنيوليبرالية، فإنه يقع في مفارقة بنيوية. إذ يفتقر إلى الحواضن الاجتماعية والتنظيمية القادرة على تحويل خطابه إلى قوة سياسية فاعلة. في لبنان، خلال انتفاضة 17 تشرين 2019، برزت شعارات يسارية واضحة حول العدالة الاجتماعية ومكافحة الفساد، لكن غياب جبهة موحّدة وبنية تنظيمية صلبة سمح للنظام الطائفي باستيعاب الحراك وإفراغه.
ورغم اعتماد الحركات الجديدة مقاربات أفقية وتنظيمات شبكية، فإنّ أدبياتها السائلة وهوياتها الاحتجاجية المتشظية تُعجزها عن مجابهة تحالفات سلطوية متماسكة عابرة للحدود. أما قضاياها الجديدة، مثل الجندر والبيئة والحريات الفردية، فتصطدم بعدم اكتمال الشروط الاجتماعية لتبنّيها في البيئات المهمّشة، مما يزيد في عزلتها الرمزية داخل فضاءات نخبوية حضرية.
في مواجهة عنف السلطويات الجديدة، لا يمتلك هذا اليسار سوى أدوات رمزية وممارسات احتجاجية استعراضية تراهن على الفضح لا على البناء، وعلى الموقف الأخلاقي لا على تغيير موازين القوى. ففي سوريا، حيث واجهت قوى يسارية ومدنية النظام السابق منذ 2011، تحوّلت الأصوات المعارضة إلى شهادات وبيانات وندوات دولية، في ظلّ عسكرة النزاع وصعود قوى إسلامية مسلّحة، ما جعل اليسار يختفي كفاعل ميداني.
وفي مصر، اقتصرت مساهمة اليساريين بعد 2013 على حملات تضامنية وحقوقية من دون تأثير فعلي في المعادلة السلطوية. هكذا، يتآكل موقعه بين جمالية الخطاب وعقم الفعل، بين ونقد السلطة والتورّط في لغتها.
ظلّ هذا الانكماش يرسّخ السؤال التالي: هل لا يزال اليسار موجوداً بالفعل، أم أنّه تحوّل إلى أثر صوتي لتاريخ لم يعد يسمعه أحد؟
في تونس، تستمر رموز اليسار في إصدار بيانات وتحليلات، لكنها تفشل في اختراق الشارع الذي تحوّل إلى فضاء استقطاب بين الشعبوية الرئاسية والإسلام السياسي المأزوم. وفي لبنان والعراق والسودان، تنفجر احتجاجات شعبية عارمة من دون أن تجد في اليسار قوة قادرة على تأطيرها أو مأسستها. هكذا، يبدو أنّ المأزق الأكبر لليسار العربي يكمن في تحوّله إلى صدى بعيد، يذكّر بماضٍ ثوري مجيد أكثر مما يرسم ملامح مستقبل بديل.
اليسار في لحظة الحقيقة
-
انشغلت كثير من تعبيرات اليسار الجديد بإعادة تشكيل خطابها ورموزها، فتوسّعت في قضايا الاعتراف والهويات والعدالة المناخية والنسوية والمناهضة للتمييز، لكنها أغفلت السؤال عن حضورها الفعلي في الاجتماع السياسي
يجد اليسار نفسه، في العالم العربي كما في خارجه، في لحظة دقيقة تشبه مفترق طرق تاريخياً. لم تعد العودة إلى الماضي النضالي كافية، ولا الاكتفاء بالخطاب الأخلاقي أو الشعارات الكبرى مقنعاً، ولا الاحتماء بالهويات التقدمية يغطي هشاشة العلاقة مع الواقع المعيش. في قلب هذه اللحظة، ينهض سؤال جوهري: من يمثّل من؟ ومن يملك شرعية الكلام باسم الناس، أو حتى القدرة على الإصغاء إليهم؟
لقد انشغلت كثير من تعبيرات اليسار الجديد بإعادة تشكيل خطابها ورموزها، فتوسّعت في قضايا الاعتراف والهويات والعدالة المناخية والنسوية والمناهضة للتمييز، لكنها في خضم ذلك أحياناً أغفلت سؤال حضورها الفعلي في الاجتماع السياسي، ومدى اتصالها بالبنى الاجتماعية والاقتصادية المتغيرة التي يُفترض أنها تعبّر عنها. وبدل أن يتحوّل نقد الذات إلى نقطة انطلاق لإعادة البناء، تحوّل أحياناً إلى ممارسة داخلية مغلقة لا تنتج رؤية استراتيجية واضحة.
الأزمة هنا لا تتعلق فقط بضعف التنظيم أو تراجع الفعالية، بل بمسألة أعمق: غياب سردية جامعة تربط ما هو شخصي بما هو سياسي، وما هو رمزي بما هو مادي، وما هو محلي بما هو كوني. ومع صعود أنماط سلطوية جديدة تجمع بين خطابات مختلفة – دينية أو ليبرالية – فإن العجز عن قراءة الواقع كما هو، لا كما نتمنى أن يكون، يكشف مأزقاً أعمق: مأزق التمثيل.
ويبقى السؤال مطروحاً: هل ما زال اليسار مشروعاً قابلاً لإعادة التأسيس من داخل تناقضاته، أم أنه يتحوّل تدريجياً إلى أثر ثقافي أكثر منه قوة سياسية؟
ليست الإجابة سهلة ولا نهائية، لكنها تتطلّب جرأة في مساءلة الذات، بعيداً عن الانغلاق النخبوي أو الاستسلام لفكرة أنّ التاريخ قد حسم أمره.
غير أنّ الحديث عن مأزق اليسار لا ينفصل عن السياق الجيوسياسي المتصدّع الذي يطوّقه. فخلال العقدين الأخيرين، واجهت الدولة الوطنية في أكثر من بلد عربي ضغوطاً كبيرة بفعل الأزمات الاقتصادية، والنزاعات الأهلية، والتدخّلات الخارجية.
في العراق وسوريا واليمن ولبنان، تحوّلت الانقسامات الطائفية والهوياتية إلى إطار منظّم للحياة السياسية والاجتماعية، مما جعل الدفاع عن مشاريع جامعة أو رؤى كونية أكثر صعوبة، وأحياناً أكثر خطورة.
في هذا السياق، يجد اليسار نفسه أمام معضلة مزدوجة. إما أن يتأقلم مع واقع الانقسامات بحجة الواقعية السياسية، أو أن يواجه صعوبة في الوصول إلى القواعد الشعبية حين يدافع عن بدائل قائمة على المساواة والعدالة الشاملة.
وتتعمّق هذه المعضلة مع استمرار أزمات المنطقة، ومن أبرزها المأساة الفلسطينية التي تتجدد بشكل مأساوي، كما يظهر في حرب الإبادة الإسرائيلية المتواصلة على غزة. فهذه ليست مجرد قضية إنسانية أو أخلاقية، بل اختبار قاسٍ لمصداقية أي خطاب تحرري، لأنها تكشف حدود المواقف الرمزية وتفرض ضرورة صياغة رؤية سياسية واضحة.
أمام هذا المشهد، يبدو اليسار العربي في كثير من الأحيان عاجزاً عن بلورة خطاب يتجاوز الشعارات العامة، إما لارتباطه بمقولات مستعارة من تجارب خارجية لا تلامس السياق المحلي، أو لفقدانه أدوات قديمة كانت تمكّنه من قراءة الاستعمار والهيمنة كمنظومات مادية مستمرة. النتيجة هي فراغ في إنتاج سردية بديلة قادرة على تجاوز الانقسامات الداخلية وقراءة التحوّلات الدولية بعيون نقدية.
إنها بالفعل لحظة اختبار تاريخي. هل يستطيع اليسار العربي أن يعيد تعريف نفسه كقوة قادرة على الجمع بين الحساسيات الجديدة والتحدّيات البنيوية؟ أم أنه سيظل محصوراً في رمزيته الثقافية وعزلته الأخلاقية؟
الإجابة ليست حتمية، لكنها ترتبط بمدى قدرته على تحويل نقده الذاتي إلى مشروع جامع، وعلى الإصغاء إلى أصوات الناس العاديين لا الاكتفاء بالحديث باسمهم. عندها فقط يمكن أن يتجاوز اليسار أسطورته القديمة، ليعود طرفاً فاعلاً في إعادة رسم الأفق السياسي والاجتماعي في المنطقة.
المراجع
- Achcar, G. (2013). The People Want: A Radical Exploration of the Arab Uprising. University of California Press.
- Appadurai, A. (1996). Modernity at Large: Cultural Dimensions of Globalization. University of Minnesota Press.
- Bayat, A. (2013). Life as Politics: How Ordinary People Change the Middle East. Stanford University Press.
- Bensaïd, D. (2007). Éloge de la politique profane. Paris: Albin Michel.
- Djiane, B. (2025). La gauche "esthétique". Paris: Éditions de l’Aube.
- Fraser, N. (2013). Fortunes of Feminism: From State-Managed Capitalism to Neoliberal Crisis. Verso.
- Harvey, D. (2005). A Brief History of Neoliberalism. Oxford University Press.
- Mbembe, A. (2017). Critique of Black Reason. Duke University Press.
- Mouffe, C. (2005). On the Political. Routledge.
- Scott, J. C. (1990). Domination and the Arts of Resistance: Hidden Transcripts. Yale University Press.