شجرة الطريق
ابتسم من أعماقه، كأن رحلته الطويلة لم تكن عبثاً، بل كانت عبوراً إلى معنى آخر: أن الغد الأفضل لا يأتي دائماً كما نتخيله، بل نصبح نحن أنفسنا الغد الذي ينتظره الآخرون.
-
(DorisKokoDay)
كان يسير وحيداً في طريق طويل، لا يعرف له بداية ولا يتبين له نهاية. السماء رمادية، والريح باردة، لكنه كان يمضي بخطوات ثابتة، كأن شيئاً في داخله يدفعه إلى الأمام. على كتفه كان يحمل حزمة من الحطب، لم يقطعها من غابة غريبة، بل من شجرة كانت له يوماً بيتاً وظلاً وملاذاً.
كلما خطا خطوة، نظر إلى ما تبقى من الشجرة. كانت جراحها واضحة، تنهشها الفراغات، كأنها تنزف أوراقاً لا دماً. ومع ذلك، لم يتوقف. كان يقول لنفسه: "سأجمع ما يكفيني للشتاء القادم". لكن الشتاء لم يأت قط، والفصول كانت تمر باردة أحياناً، ساخنة أحياناً، ولا تحمل معها ما كان ينتظره.
على جانب الطريق، جلس شيخ عجوز يراقبه، سأله:
- إلى أين تمضي يا ابن الطريق؟
أجابه الرجل وهو يضيق قبضته على الحطب:
- نحو غد أفضل، نحو دفء ينتظرني هناك.
ضحك الشيخ بمرارة وقال:
- وهل رأيت هناك شيئاً غير هذا الطريق؟
لم يرد مكتفياً بمتابعة السير. كان يشعر أن التوقف موت، وأن الاستمرار حياة، حتى لو كان الطريق وهماً ممتداً.
مرّ بطفلة صغيرة كانت تلعب عند حافة الطريق بحصى صغيرة. رفعت رأسها ونادته:
- لماذا تحمل كل هذا الحطب الثقيل؟
ابتسم لها قائلاً:
- لأني أستعد لشتاء سيأتي.
ضحكت الطفلة ضحكة نقية كالماء، وقالت:
- يا سيدي، الشتاء لن يأتي هنا، الطريق لا يعرف الفصول.
ارتبك الرجل لكنه لم يتوقف. ظل يسير، والشجرة خلفه تنهار، والحطب على كتفه يزداد ثقلاً، والطريق أمامه يطول. كان يدرك في أعماقه أن النهاية قد لا تكون هناك، لكن عزيمته على المسير كانت أقوى من كل يقين.
في منتصف الطريق، لمح امرأة تجلس إلى جذع شجرة يابسة، بين يديها وعاء صغير فيه ماء صاف. اقترب منها، فقالت له بهدوء:
- أيها العابر، لماذا تثقل كاهلك بكل هذا الحطب؟
قال متنهداً:
- أتهيأ لشتاء سيأتي.
ابتسمت بهدوء وقالت:
- إنك لا تجمع الحطب، بل تجمع رمادك. الشتاء هنا لا يعرف المجيء، لكنه يسكن قلبك وحدك.
أراد أن يتركها ويمضي، لكن كلماتها اخترقت قلبه كالسهم. جلس بجانبها للحظة، فرأى في عينيها انعكاساً لغابة لم يرها من قبل، غابة لم تقطع أشجارها، ولم تجرد من أوراقها. همس لنفسه:
- هل يمكن أن تكون هناك أشجار جديدة؟
لكن المرأة اختفت فجأة، كأنها لم تكن سوى انعكاس لضميره المتعب. حمل حطبه من جديد، وسار.
بعد مسافة طويلة، التقى برفيق غريب: رجل نحيل، وجهه يشبه مرآة، كأنه صورة أخرى له. قال له الرفيق:
- لماذا لا ترمي هذا الحطب وتستريح؟
رد بصوت متردد:
- إن رميته، سأشعر أن كل ما مضى كان عبثاً.
ضحك الآخر وقال:
- العبث هو أن تسير بحمل لا تحتاجه.
لكن الرجل لم يجرؤ على التخلص منه. ظل الحطب على كتفه، وظل الطريق ممتداً أمامه. ومع كل خطوة، بدأ يشعر أن الطريق هو الذي يسير به، لا هو الذي يسير فيه.
وفي لحظة صمت، رفع رأسه نحو السماء، فرأى نجمة وحيدة تلمع. أحس أن كل ما قطعه لم يكن سوى عبور نحو تلك النجمة، وأن الغد الذي يبحث عنه ليس شتاء ولا دفئاً، بل نوراً صغيراً يهديه وسط هذا الظلام.
ابتسم لأول مرة، وقال في سره:
- ربما لن ينتهي الطريق، وربما لن يسلم العمر، لكن يكفيني أن أترك في العتمة أثر خطواتي.. وأضيء للحائرين شعلة من حطبي.
ظلّ يمضي، حتى لم يعد يميز الليل من النهار. الطريق صار صديقاً له، والحطب لم يعد مجرد عبء على كتفيه، بل صار امتداداً لروحه، كأنه يحمل نفسه على ظهره.
وفي ليلة ساكنة، توقف عند مفترق لم ير مثله من قبل. لم يكن هناك أحد، ولا شجرة، ولا شيخ، ولا طفلة. فقط أرض فارغة، وسماء مرصعة بنجوم لا تعد. وضع الحطب أرضاً، وأشعل فيه نارا صغيرة. ارتفعت ألسنة اللهب، وتوهجت، فأضاءت الطريق الممتد أمامه.
جلس أمام النار يتأملها، وشعر لأول مرة أن الحطب الذي جمعه من عمره لم يكن خسارة. كان كل غصن وقوداً لنور يبدد العتمة. ومع كل شعلة ترتفع، كان يشعر أن أجزاءه المرهقة تتحرر.
فجأة، حدث ما لم يتوقعه: جذور صغيرة نبتت من قدميه، امتدت في الأرض كأنها تبحث عن حياة جديدة. أطرافه تحولت إلى أغصان، وجسده صار جذعاً متيناً، وأوراق خضراء نضرة أخذت تتفتح عليه. لم يعد رجلاً عابراً، بل شجرة جديدة على جانب الطريق.
هناك، وقف المسافرون الذين مروا بعده في دهشة، وجدوا ظلاً يحميهم، وثماراً تشبعهم، ونوراً لا ينطفئ. لم يعرفوا من كان، لكنهم شعروا أن الطريق صار أقل وحشة، وأكثر رحمة.
أما هو، فقد ابتسم من أعماقه، كأن رحلته الطويلة لم تكن عبثاً، بل كانت عبوراً إلى معنى آخر: أن الغد الأفضل لا يأتي دائماً كما نتخيله، بل نصبح نحن أنفسنا الغد الذي ينتظره الآخرون.
هكذا، انتهى الطريق في داخله، لا خارجاً عنه. لم يعد مسافراً يبحث، بل صار شجرة تنبت في قلب العابرين، وشعلة لا تنطفئ في ليل الطريق.