في غزة.. الآن عرفت ما المطر
بعد أن ذقت طعم الغرق، عرفت ما المطر. عرفت كيف يكون رفاهية لأشخاص وكارثة على آخرين. عرفت جيداً أن قطرات المطر هذه المرة كانت دمعتي التي عجزت عن ذرفها حين نزحت من بيتي الحبيب بعدما دمّره الاحتلال.
-
غزة
احتد صوت الرياح حتى خُيّل لي أنه صوت طائرات العدو. توقعت أختي التي كانت تجلس معي في العراء، في جلستنا الليلية المعتادة، أنه صوت تحريك لألواح صفيح. لكن توقعاتنا سرعان ما خابت، وعرفنا أنه صوت كارثة داهمة. بدأ الغرق بأمطارٍ خفيفة لا تُعاتب، لكنها فجأة اشتدّت وتحولت إلى وابل من أمطار بحجم الحصى.
ذهبنا إلى خيمتنا. أوَيتُ إليها معتقدة أنها ستكون حصني المنقذ من الغرق. لكن، أي حصنٍ هذا المكوّن من قماش؟ وجدت نفسي داخل "جدرانها" أحاول إنقاذها. فما إن دخلتها حتى رأيت السقف ينقط. أزحت بعض الأغراض القريبة من مكان التنقيط، وما إن التفتُّ حتى وجدت الصحون الحديدية التي وضعتُها عصراً عندما غرقت كتبي، قد امتلأت. وبفعل ارتطام القطرات بحافة الصحن كان رذاذها يتناثر على فراشي، فأنقذتُها من مرحلة الغرق العميق. ولا أدري إن كانت الشمس سترفق بحالنا وتجفف مآسينا وأغراضنا.
ركضت تحت زخات المطر بخطواتٍ كان يجب أن تفلح في الوصول إلى المطبخ، لا أن تتزحلق في برك الماء. أخذت "جاطاً" متوسط الحجم وطنجرة ألمنيوم بحجم قريب منه.
لم تمضِ 10 دقائق على أول قطرة نزلت من السماء، وكانت خيمتنا التي أذاب قماشها سوط الشمس صيفاً قد انهزمت. في أرجائها 7 أوانٍ مختلفة الأحجام، وفي منتصفها جبل صغير من الفِرَش. أما نحن فكنا فرقة إدارة أزمات الغرق. وزعنا أنفسنا ووقفنا نرفع السقف لنُسقِط ما تراكم فوقه من أمطار على زقاق مخيمنا الترابي. لكننا لم نلحق؛ فالأمطار كانت تتراكم بغزارتها، والإناء يمتلئ بسرعة، حتى إننا أفرغنا ما يقارب 20 إناء من مياه الأمطار الملوثة بغبار السقف عبر نافذة ليست سوى ثقب.
تبللت ملابسنا وأقدامنا وكل شيء. أنا التي دخلت الخيمة لأحتمي من الأمطار تبللت منها، ولو طال الأمر لسبحت فيها. تبللت بالأوجاع لاصطدامي بحقيقة واقعي الذي أعالجه كأنه حالة موقتة. لم أجد دمعة أذرفها حين رغبت بالبكاء؛ لأنني أنا الشيء الموقت لا واقعي. لم أجد دمعة واحدة فقلت: لعل الغيوم قد سحبت دموعنا لتزيد من حال المأساوية التي نتقوقع فيها.
في محاولة أخرى للصمود والصبر أمام غرقي المهين، تحلينا أو افتعلنا روح الفكاهة، وصِرنا نضحك على العيش المهان الذي نحن فيه. تركت السقف تتراكم عليه الأمطار حتى صار لا ينسكب في خيط مياه متواصل، لا قطرات متقطعة، كأنه صنبور مفتوح.
في أثناء تأملي زوايا الخيمة، لاحظت زاوية تراكمت فيها الأمطار بكثافة حتى بات السقف فيها أشبه بـ "كِرش" بني آدم. ولأنه كان يملك "صنبورين" قريبين من بعضهما، وقفت متجهة إليه وقلت بسخرية: "هيا لنحلب البقرة!" ثم رفعت السقف وسكبت ما عليه.
اشتدت الأمطار، والمياه تتسرب إلى أغراضنا من الأرض. السقف يبكي مع الغيوم، وأنا فوق كومة أغراضنا أنتظر أن يصلها السيل الأرضي لأبكي. لكن صراخ الناس كان قد ارتفع. وكشخص يرصد واقع النازحين ويشعر بهم لأنه منهم، قمت أشاهد من "نافذة" خيمتنا، وأسمع من تكسرت خيمته، ومن ملأ السيل أغراضه وفراش أطفاله، ومن كان السيل الذي أصابه مخلوطاً بمياه الصرف الصحي.
قلّبت النظر بين حال الناس الصارخ وحالي في خيمتي الغارقة، وصراخي العالق داخلي الذي لم أقدر على إخراجه. ثم شممت رائحة رطوبة تخنق الأنف، فخرجت من الخيمة كلها.
ليس هذا الشتاء الأول لي في خيمة، بل الثاني. الأول كان صوت المطر فيه كأنه يرجم خيمتنا. وكان التنقيط خفيفاً مقارنة بما رأيت هذا الشتاء، الذي جمع كل ما عرفته في الأول بساعات قليلة، وكان حتى الآن أصعب شتاء عايشته.
بفعل كل ما حدث لم أنم فوق فراشي، بل غيّرت موضع نومي، ونمت بملابسي المبتلة؛ فلم أعرف موضع ملابسي الأخرى من ذلك الجبل الصغير. تأملت في غرقي المهين؛ فأنا إنسانة ذات كرامة في عصر يحتضر. قبل اللقب والنسب والاسم العلمي، قبل تلك الطفلة التي كانت تتحمس لرؤية المطر من شرفة منزلها الأجمل، ها أنا اليوم بمشاعر المعانين في هذا العالم، الراضين بخير الله النازل من السماء الذي يروي الحقول والقلوب ويختبر العبد في مدى صبره.
بعد أن ذقت طعم الغرق، عرفت ما المطر. عرفت كيف يكون رفاهية لأشخاص وكارثة على آخرين. عرفت جيداً أن قطرات المطر هذه المرة كانت دمعتي التي عجزت عن ذرفها حين نزحت من بيتي الحبيب بعدما دمره الاحتلال. حين ظننت أنني لن أفقد أحبائي، لكنهم استشهدوا. حين جُعنا وعطشنا ورأينا ما لا يمكن احتماله.