قصة صعود سنغافورة من العالم الثالث إلى الأول
يتميز 'لي كوان" بين حكام العالم بأنه هو من استقال من الحياة السياسية وسلّم عهدة البلاد إلى خلفه طوعاً وأمّنه على هذا الموروث الذي تفخر به سنغافورة.
-
مذكّرات المؤسس لي كوان يو: قصة سنغافورة من العالم الثالث إلى الأول
عندما نرى هكذا شعوب ونقرأ عن هكذا قادة، نشعر وكأننا فعلاً في حلم ونتمنّى ألّا ينتهي ذلك الحلم. سنغافورة، الواقعة على جزيرة رملية تفتقر إلى الموارد الطبيعية، المزيج المؤلّف من 75.4% صينيين، و36.6% ملاويين، و8.6% هنود. جنوب شرق آسيا، يفصلها عن إندونيسيا مضيق سنغافورة، مساحتها 710 كيلومترات مربّعة، كانت قاعدة بحرية بريطانية احتلتها اليابان، لي كوان يو هو الأب المؤسس لهذه الدولة الوطنية. تمثّلت رؤيته في إقامة دولة لا تقدر على البقاء فقط بل تسود وتفوز وتتفوّق، وسوف يعوّض التفوّق في الذكاء، والانضباط والإبداع عن غياب الموارد، عهد إلى شعبه مغالبة مشاعر العداء التي أظهرها جيرانهم لهم في البداية، كان صريحاً إلى حدّ الصرامة التامّة في تحليلاته فقد قال:
"أترع كياني الاحتلال الياباني (1942-1945) بالكره للفظاعات التي ارتكبها اليابانيون ضدّ أبناء جلدتهم الآسيويين. وأثار مشاعري القومية، واحترامي لذاتي، إضافة إلى سخطي ونقمتي على الخضوع للهيمنة والاستعلاء، أما السنوات التي قضيتها طالباً في بريطانيا فقد شدّت عزيمتي وقوّت تصميمي على التخلّص من الحكم والاستعمار البريطاني". ويقول أيضاً: "لم أتوقّع أن أصبح عام 1965 وأنا في الثانية والأربعين من عمري مسؤولاً رسمياً عن سنغافورة وعن حياة سكانها".
كانت سنغافورة محطة تجارية طوّرها البريطانيون لتصبح مركزاً محورياً في إمبراطورتيهم البحرية العالمية، "لقد ورثت الجزيرة من دون أرض داخلية، كانت قلباً من دون جسد". ووصف أحد الكتّاب مقارناً انسحاب بريطانيا من مستعمراتها بانحطاط وتفسّخ الإمبراطورية الرومانية حين انهار القانون والنظام مع انسحاب الفيالق الرومانية وحلول جحافل البرابرة محلّها. ويقول لي كوان كان واجبي إعطاء الأمل للناس لا إضعاف روحهم المعنوية.
كان شعاره "أعظم مواطن القوة لدينا هي في ثقة وإيمان الشعب بنا" وعندما أعلن هذا الشعار سخر منه الشيوعيون وقذفوه بتهمة العمالة والتبعيّة للإمبريالية والمستعمرين وصبّوا لعناتهم عليه بوصفه خادم ورجل الإقطاعية الملاوية. كان مصدر القوة عند سنغافورة هو اجتهاد الشعب، ونشاطه، وتوقه للتعلّم والمعرفة على الرغم من انقسام أفراده إلى عدة أعراق وأجناس، بالإضافة إلى تعدّد اللغات والثقافات والديانات، وآمن لي كوان باتباع سياسة نزيهة وعادلة تجعلهم يعيشون جميعاً في وئام معاً. عمل لي كوان أولاً على بناء جيش من لا شيء، وأنشأ معهداً وطنياً لتدريب طلاب الجيش، وآخر لتدريب طلاب الشرطة في المدارس الثانوية بحيث يتعرّف الأهل إلى الجيش والشرطة مع أبنائهم وبناتهم، وكوّن جيشاً من 12 كتيبة خلال الفترة 1966 ـــــ 1969 من بينهم النساء كما هو الحال عند الإسرائيليات، وبحلول عام 1971 أصبح هناك 17 كتيبة من المجنّدين و16 ألف رجل بالإضافة إلى 14 كتيبة من الاحتياطين من11 ألف رجل.
وكذلك الدبابات وناقلات الجند المدرّعة والمهندسون، ومدارس للتدريب البحري، والقوات الجوية التي ضمّت أسراباً من الطائرات، وعمل عام 1971 على تجنيد ألمع وأقدر الطلاب، وتمّ اختيار أفضلهم كضباط وأرسلهم في بعثات عسكرية لصالح القوات المسلحة السنغافورية للدراسة في أكسفورد أو كمبريدج في بريطانيا حيث يخضعون لدورات تدريبية في الآداب الإنسانية والعلوم والهندسة والمهن الحرفية، وخلال سنوات دراستهم يتلقّون راتب الملازم العامل في الجيش علاوة على المنحة التي تغطي كلّ الرسوم والنفقات من طعام ومبيت، وعليها توقيع عقد تجديد مع الدولة لمدة ثمانية أعوام بعد التخرّج، لكن خلال تلك المدة سوف يرسلون إلى أميركا أو بريطانيا لحضور دورتين تدريبيتين أو ثلاث على الأغلب، وفي منتصف حياتهم، سوف يخضعون إلى دورات أركان حرب وقيادة في أميركا، وأخيراً يخضعون إلى دورة تؤهّلهم في مجال الإدارة العامّة للعمل في إحدى الجامعات الأميركية مثل هارفارد أو ستانفورد.
بحلول عام 1995 ارتقى أربعة من كبار علماء القوات السياسية إلى مناصب رفيعة ودخلوا معترك السياسة مثل العميد لي هيسين لونغ. وفي عام 1990 كتبت مجلة متخصصة في شؤون الدفاع: حين أصبحت سنغافورة دولة مستقلة عام 1965 لم تكن تملك قوات عسكرية لكن في حلول 1990 تطوّرت القوات المسلحة وتنامت لتصبح قوة محترمة تشكّل أنظمة دفاعية حديثة قادرة على الدفاع عن سلامة الأراضي واستغلالها.
على مستوى النقابي
عمل لي كوان سنين طويلة على إنشاء كلية عمالية، وبالفعل عام 1990 تمّ تأسيس معهد الدراسات العمالية لتدريس العلاقات بين الإدارة والعامل وتنمية المهارات القيادية، وحين انتخب تينغ تشيونغ رئيساً لسنغافورة عام 1993، عيّن ليم بون هينغ أميناً عامّاً للمجلس الوطني لنقابات العمال، ليم هينغ كان قد تخرّج من جامعة نيوكاسل في الهندسة البحرية، حيث أدخل معه الشباب المثقّفين والموهوبين في العشرينيات من العمر.
على مستوى العدالة الاجتماعية والصحة
كان هاجسه يتركّز بالدرجة الأولى على إعطاء كلّ مواطن حصة في الوطن وحصة في مستقبله، أراد مجتمعاً يملك كلّ فرد فيه مسكنه، حيث طلب من هيئة الإسكان والتنمية الإعلان عن برنامج لتمليك الشقق السكنية رخيصة الثمن، ومنح المشتركين قروض إسكان طويلة الأجل تمتدّ حتى 15 عاماً. وعلى المستوى الصحي عمل على مشاركة المريض في دفع التكاليف وهذا ما أدّى إلى تقليل الهدر، وعمل على تأسيس برنامج "الدرع الطبي" وهو برنامج طوعي للضمان الصحي يغطي نفقة علاج الأمراض الخطيرة.
على النقل والخطوط الجوية
عمل على أن يكون لسنغافورة حقّ الهبوط في هونغ كونغ عام 1966 وطوكيو وسيدني عام 1967 وجاكرتا وبانكوك عام 1968، أما المحطة الأهمّ فكانت لندن والتكافؤ في هبوط الطائرات لكلا البلدين. وعمل على إنشاء مهابط عديدة للطائرات وأهمها مطار تشانغي الواقع في أقصى الزاوية الشرقية من الجزيرة.
على مستوى العلاقات السياسية مع ماليزيا، وإندونيسيا، وكمبوديا، وفيتنام، وميانمار، وألمانيا، وأميركا، والصين، وروسيا، وبلدان عديدة أخرى، فقد نسج معها أفضل العلاقات التي تصبّ في سلام البلاد وتقدّمها المتصاعد، ومن بين هذه العلاقات يحضرني كيف اقترح على ألمانيا تأسيس معهد ألماني سنغافوري، لتنظيم دورات تدريبية على التصنيع المتقدّم، وتكنولوجيا المعلومات لمساعدة الشركات التجارية الألمانية على العمل في المنطقة، ومن خلاله أصبحت سنغافورة فيما بعد مركزاً لتدريب عمّال العالم الثالث في هذا المعهد.
يحفل هذا الكتاب الضخم ذو الصبغة الأدبية السياسية بالذكريات التي يفتخر بها أيّ قارئ، بأيّ زمن. ولا يمكننا الاستشهاد بكلّ الخطى والأحلام التي أرساها لي كوان، لكن نُحفّزُ حباً بهكذا مستوى رفيع من الفكر السياسي النظيف الذي يتمتع به هذا الزعيم، سيما وأنه هو من استقال وسلّم عهدة البلاد إلى خلفه طوعاً وأمّنه على هذا الموروث، الذي تفخر البشرية جمعاء به. فقد أشاد العديد من حكّام العالم بهذا الزعيم من جورج بوش، ومارغريت تاتشر، وهيلموت كول وهيلموت شميدت، وكتيشي ميازاوا، وكيم داي جون، وبرم تينسولانوندا، وسيدهي سافي تسيلا، غو سينغ سوي، ودايم زين الدين، وطوني بلير، وجيمس كالاهان، وإدوارد هيث، ومالكوم فريزر، ودينيس هيلي، وبوت هوك، وجيمس بيكر، وغيرهم الكثيرون.
لقد استمتعت بقراءة هذا الكتاب ذي الأجزاء الثلاثة وخصوصاً الفصول الأخيرة التي يحكي فيها عن أسرته وكيفيّة تسليم العهدة لخلفه، وكذلك الملحق الكبير من الصور التذكارية التي أخذها مع زعماء العالم التي تؤرّخ لتلك المرحلة.