كيف تختطف الأيديولوجيا أدمغتنا؟
الأيديولوجيا صارت لغة العالم الخفية؛ من اللاهوت القديم إلى خوارزميات الحاضر، تغيّر شكلها ولم يتغيّر جوهرها: السيطرة على الخيال قبل الفكر.
-
(لورينزو موريداس)
حين تفتح هاتفك، يندفع إلى عينيك ضوء أزرق وديع، لكنه في الحقيقة جمر يتسلل إلى دماغك. تتقافز الأخبار والصور والآراء، تتزاحم الأصوات في متاهة الشعور، ويبدأ العقل في التشكل وفق إيقاع لا يملكه. هكذا يتقدم العالم نحوك: ليس كتجربة حرة، بل كاختراق أيديولوجي صامت يسكب نفسه في مسامات وعيك.
تجارب الثورات العربية كشفت الوجه المزدوج لهذه الظاهرة: كانت وسائل التواصل أداة "للتحرر" الجماعي ضد "الاستبداد"، وفي الوقت نفسه قناة لتشظية المجتمع، حيث تحوّل الحلم الواحد إلى معسكرات متناحرة.
وفي لبنان خلال أزماته الأخيرة، تحوّلت المنصات الرقمية إلى ساحات معارك سردية: صور أطفال يرفعون لافتات "ثورة"، تقابلها مقاطع مصورة تشيطن الحراك وتصفه بـ"المؤامرة". لم يكن الخلاف على الحدث بل معناه: ثورة أم فوضى؟ حلم بالعدالة أم تهديد للهوية؟ الأيديولوجيا تصوغ الصورة قبل أن تصل إلى العين. ولم يكن هذا المشهد عربياً فحسب؛ ففي هونغ كونغ وتشيلي وباريس، كان العالم يتظاهر داخل الشاشة أكثر مما يتظاهر في الشارع. الحشود نفسها، الشعارات ذاتها، لكن الاختلاف في الخوارزمية التي تفسر الصورة وتعيد توجيهها.
الأيديولوجيا كبرمجية دماغية
الدماغ، بأعصابه التي تتجاوز 100 مليار، يبحث دوماً عن اختصارات تفسّر العالم. الأيديولوجيا تستغل هذه الحاجة فتزرع شيفرات معرفية ثابتة تعيد تنظيم الإدراك. في علم الإدراك الحديث، يصف دانيال كانيمان الدماغ بأنه يعمل بنظامين: الأول سريع، انفعالي، تلقائي؛ والثاني بطيء، تحليلي، متأن.
الأيديولوجيا تعرف كيف تستدرجنا إلى النظام الأول، إلى تلك المساحة الغريزية التي تفضل الشعور على التفكير، فتجعل الانفعال حقيقة، والحدس يقيناً. في الجماعات المتطرفة يظهر ذلك بوضوح: التكرار الطقسي والرمزي يعيد برمجة الوصلات العصبية حتى يصبح التفكير النقدي معطلاً. "داعش" مثلاً لم تبن "دولتها" بالسلاح فقط، بل بشاشات تبث رموزاً تغلق الدماغ داخل أسلاك سردية لا فكاك منها.
حتى الإعلانات التجارية تعمل بالطريقة نفسها. تعيد رسم شبكات المتعة في الدماغ لتربط السعادة بعلامة تجارية لا بواقع معيشي. هكذا تتبدل القيم في الصمت، من دون أن ندرك أننا نعيش داخل خريطة غير مرئية من الإشارات والمحفزات. تزرع الأيديولوجيا في الدماغ مفاتيح خفية؛ كلما حاولت التفكير خارجها، عادت وأغلقت الباب بلطف قاتل.
تحيزات الإدراك وأثرها الفينومينولوجي
كما يقول هوسرل:" الوعي ليس مرآة، بل هو فعل قصدي يوجه دائماً نحو شيء". الأيديولوجيا هنا تعمل كعدسة مقصودة، تحدد ما نراه وما نغفل عنه. الحدث الواحد قد يسمى "ثورة" عند جماعة و"انقلاباً" عند أخرى.
الصورة ذاتها، لكن الشاشة الإدراكية ملونة بفلتر أيديولوجي، وهذا التناقض يولد عالمين متوازيين لا يلتقيان إلا في الصراع. فكل طرف يرى الآخر كمرآة مشروخة، لا كوجه مختلف. كما حدث في الغرب أيضاً، حين انقسمت المجتمعات حول قضايا الهجرة أو الهوية العرقية في حركات مثل Black Lives Matter أو Brexit؛ الحقيقة هناك لم تكن واحدة، بل بعدد الشاشات التي بثتها.
ما بدأ عند هوسرل كبحث في مقصودية الوعي، تحول عند جاك دريدا إلى مساءلة للنص ذاته. إذ لا وعي بلا خطاب، ولا خطاب بلا أثر أيديولوجي. يرى دريدا أن الحقيقة نص يتشظى، وأن كل سردية تخفي أكثر مما تظهر، بينما يذكرنا سلافوي جيجك بأن الأيديولوجيا ليست فقط في الخطابات السياسية الكبرى، بل حتى في تفاصيل الحياة اليومية، في النكات، وفي الإعلانات، وفي الأغاني التي نرددها بلا وعي.
الجذور النفسية ولاوعي الجماعة
من منظور يونغي (كارل يونغ)، فإن اللاوعي الجمعي مخزن الرموز والأساطير، والأيديولوجيا تفعل هذه الرموز فتخلق شعور الانتماء الكلي. في علم النفس الاجتماعي، تتكثف الهوية داخل الجماعة؛ ما أن نرتدي شعارها حتى يبدأ عقل الجماعة بالعمل نيابة عن عقولنا الفردية. وعدوى العاطفة تجعل الهتاف يستشعر قبل أن يفكر؛ الشعور يسبق الفكرة، ثم تأتي الأيديولوجيا لتمنح الشعور خطابه.
في تونس، كانت الأغاني والشعارات تشعل جسد الحشود، وفي فلسطين تخاض الحرب بالسرديات قبل أن تخاض بالسلاح. صورة الطفل تحت الركام تقابلها لغة تصف المقاومة بالإرهاب، فينشطر الوعي العالمي بين شاشتين لا تلتقيان.
أما في العراق، فالأيديولوجيا الطائفية ما تزال تعيد إنتاج نفسها عبر الإعلام والخطاب السياسي، فتقسم الناس إلى هويات متناحرة تقدم كقدر لا فكاك منه. يذكرنا بيار بورديو أن هذه الرموز ليست بريئة؛ إنها جزء من العنف الرمزي الذي يفرضه المجتمع على أفراده، فيشعرهم أنهم يختارون بحرية بينما هم يكررون إكراهات غير مرئية. الجماعة لا تمنحنا انتماء فحسب؛ تعيد إلينا شعورنا جاهزاً.
السلطة والمعرفة – الاقتصاد السياسي للأيديولوجيا
الهيمنة الأيديولوجية ليست وليدة الخطابات فقط، بل ناتجة عن شبكة معقدة من المؤسسات التي تكرر السرديات وتؤطر المعرفة لصالح السلطة.
ويرى ميشال فوكو، أن المعرفة ليست محايدة. إنها شكل من أشكال السلطة يعيد تعريف المسموح قوله والممكن التفكير فيه.
في مصر بعد ثورة 2011، لعب الإعلام الرسمي دوراً محورياً في إعادة صياغة السرد السياسي لصالح النظام الجديد، عبر تضخيم بعض الأخبار وتهميش أخرى، ما ساهم في تشكيل وعي موجّه يدعم الاستقرار، لكنه يقلص حرية الرأي.
وفي السياق العالمي، تستخدم الدول الكبرى الإعلام لتشكيل الرأي العام تجاه قضايا مثل الحروب أو الهجرة، حيث تختزل القضايا المعقدة في أطر أيديولوجية تفرض على الجماهير.
وفي زمن السوق الكوني، لم تعد الأيديولوجيا تدار من القصور السياسية فقط، بل من مجالس إدارات الشركات العابرة للقارات التي تتحكم بالمنصات والخوارزميات وسلوك الاستهلاك.
الذكاء الاصطناعي نفسه بات يشارك في صياغة الوعي الجمعي؛ يختار لنا ما نراه، ويعيد إنتاج انحيازات السلطة في صمت رقمي بارد، وكأنه يبرمج وعينا على الطاعة من دون أن يرفع صوته. كل شاشة منبر، وكل منبر ظل للسلطة يتكلم بلغتها حتى وهو يلعنها. الإعلام لا ينقل الخبر فحسب، بل ينتج العالم الذي نراه.
العواطف كوقود للأيديولوجيا
العواطف هي محرك الإنسان الأساسي، والأيديولوجيا توظفها بمهارة عالية. كما يذكرنا سبينوزا، العاطفة ليست ضعفاً بل هي شكل من أشكال القوة. إنها طاقة الوجود حين تتحول إلى فعل. لهذا تعيد الأيديولوجيا توجيه هذه الطاقة لتخدم غاياتها، فتلبس الخوف قناع الفضيلة، والغضب ثوب الإيمان.
في الحملات السياسية الحديثة تدار المشاعر كما تدار الأسواق. تضخ جرعات من الأمل أو الرعب عبر الخوارزميات لتتحكم في المزاج الجمعي كما تتحكم البورصة في الأسعار. ولأن العاطفة هي اللغة التي يفهمها اللاوعي، تخاطب الأيديولوجيا فينا الطفل الذي لم ينس الخوف من الفقد والرغبة في الانتماء، فيعود الصوت الجمعي ليمنحنا وهم الطمأنينة.
الأيديولوجيا تعرف أن الكلمة التي تبكينا، تقنعنا أكثر من الفكرة التي تقنعنا. وهكذا، حين تمسك الأيديولوجيا بخيوط العاطفة، تصبح قادرة على هندسة الوجدان ذاته؛ تصنع من الدموع لغة، ومن الخوف وطناً، ومن الأمل قيداً ذهبياً يضيء وهو يحاصر.
أدوات التحرر – العقل والروح
التحرر يبدأ بتطوير وعي نقدي يستطيع مواجهة الأفكار الجامدة. كما يقول إيمانويل كانط: "الاستنارة هي خروج الإنسان من قصوره الذي اقترفه في حق نفسه".
فالعقل الحر ليس منحة، بل هو تمرين دائم على الشك، وتوسيع حدود الممكن في الفكر. وفي الجانب الروحي، كما في تعاليم الزن أو في إشراقات التصوف الإسلامي، لا يطلب من الإنسان أن يهزم أفكاره، بل أن يراها وهي تمر؛ أن يتأملها من دون أن يستدرج إليها، فيتحرر من سلطانها.
إن أعمق الحريات تلك التي تنشأ من الصمت، حين يتراجع الضجيج فينا وتتكلم البصيرة. في برامج التعليم الحديثة، تطرح مهارات التفكير النقدي والمرونة المعرفية كأدوات أساسية لبناء وعي حر. من الأمثلة الواقعية برامج تعليم التفكير النقدي التي تطبق في بعض المدارس والجامعات، والتي أظهرت نتائج في زيادة قدرة الطلاب على التفكير المستقل والنقدي.
لكن الثورة المعرفية الجديدة تضيف بعداً آخر للتحرر. الذكاء الاصطناعي، وهو مرآة وعينا الجمعي، يمكن أن يكون أداة للتحرر أو للاستلاب، بحسب الوعي الذي يوجهه. إننا اليوم أمام خيار مزدوج. أن ندرب الآلة على التفكير معنا، أو أن نسمح لها بالتفكير عنا.
الأيديولوجيا في زمن الشبكات
في فضاء المنصات الرقمية، من "فيسبوك" إلى "إكس"، ينتج كل مستخدم محتوى يغذي اهتماماته، فتغلق الخوارزميات عليه دائرة تعيد له ما يحب وتقصي ما يزعجه، فينشأ وعي منزوٍ داخل غرفة من صدى الذات.
كما لو أن الخوارزميات تحولت إلى كهنة جدد يعرفون ما نرغب قبل أن نرغب، ويعيدون صياغة وعينا بحساب بارد يخلو من الرحمة.
في أحداث السودان عام 2019، تجلت هذه الظاهرة بوضوح، حيث تفاقمت الانقسامات الأيديولوجية عبر المنصات، فصار كل تيار يرى الثورة بعيون خوارزميته. وما حدث في السودان لم يكن استثناء، بل نموذجاً عالمياً متكرراً. من الانتخابات الأميركية إلى حروب السرد في أوكرانيا وغزة، كانت الخوارزميات ترسم حدود الإدراك وتوزع الضوء على ما يجب أن يُرى، وتترك العتمة لما يراد نسيانه.
في زمن الشاشات، لم نعد نرى العالم؛ نرى صورته كما صممتها الخوارزميات لنا. الذكاء الاصطناعي بدوره يعكس تحيز بياناته، فيكرر أنماط الأيديولوجيا الإنسانية تحت قناع من الحياد الرياضي.
وكما يشير جان بودريار، فنحن لا نعيش الواقع بل محاكاته، والآلة اليوم لا تعيد تمثيل الأيديولوجيا فحسب، بل تنتج نسخاً جديدة منها، مبرمجة على المقاييس الرقمية للربح والانفعال. توفر تقنيات الواقع الافتراضي تجارب حسية معززة تغرق العقل في سرديات مغلقة تخلق عوالم كاملة بلا اختلاف، كأنها جنة من وحدانية الرأي.
هذا الامتزاج بين التقنية والرمز يجعل الوعي المعاصر سائلاً، كما وصفه زيغمونت باومان؛ ينساب من شاشة إلى أخرى، ومن انفعال إلى آخر، حتى يفقد جذره الواقعي ويستحيل موجة من المشاعر المكررة. هكذا يصبح الوعي شبكة داخل شبكة؛ يظن نفسه حراً وهو يسبح في محيط لا يرى حدوده.
نحو وعي حر ومعرفة مسؤولة
الأيديولوجيا ليست مجرد أفكار؛ إنها منظومات معقدة تحكم عقولنا عبر التاريخ، وتتخفى اليوم في ثياب التكنولوجيا، تعيد صياغة الوعي بلغة من خوارزميات ووعود رقمية.
كما لو أن الأيديولوجيا صارت لغة العالم الخفية؛ من اللاهوت القديم إلى خوارزميات الحاضر، تغير شكلها ولم يتغير جوهرها: السيطرة على الخيال قبل الفكر.
لكن بوعي نقدي متجدد، ومرونة معرفية، وتأمل ذهني يقظ، يمكننا تحرير العقل من أسر هذه البرمجيات الفكرية وبناء فضاءات معرفية حرة ومتعددة الأصوات.
يذكرنا دريدا بأن التحرر لا يكون بقطع السلاسل، بل بفتح الأسئلة التي تربطنا بها، أما هايدغر فيرى أن الفكر الحقيقي يبدأ حين نتعلم الإصغاء لما لم يقل بعد؛ فربما يكون الخلاص في الإصغاء، لا في الإجابة.
إن أخطر سجن يسكنه الإنسان هو الصورة التي كوّنها عن نفسه. فحين يتحرر الفكر من وهم امتلاك الحقيقة، يصبح الإنسان كائناً مفتوحاً على احتمالاته، والكون دفتراً لا نهائياً من المعاني. عندها، لا يعود العقل ضد الأيديولوجيا، بل يتجاوزها إلى حرية أرحب، حيث يصبح السؤال ذاته فعل وجود.