لماذا "يحصّن" اليمنيون بيوتهم الجديدة بالذبائح والطقوس الدينية؟

ما هي الطقوس والتقاليد الشعبية المرتبطة ببناء البيت الجديد وانتقال الأسرة إليه في اليمن ؟

لا يزال سائداً في كثير من القرى اليمنية - لا سيما البعيدة منها عن المراكز الحضرية - نوعٌ من الارتباط بين الثقافة الشعبية والبيت الجديد، سواء في مراحل بنائه، أو في مرحلة الانتقال إليه؛ للإقامة الدائمة فيه.

تقاليد تحصين البناء

تنطوي عمليةُ بناء البيت الجديد في اليمن، على نسقٍ من العادات الاحترازية في الثقافة الشعبية، بدءاً من المكان الذي سيُبنى عليه؛ إذ يحرص كثيرون على أن يكون هذا المكان مستحدثاً لا موضع خرابةٍ مهجورة، أو آثار أبنية قديمة. 

ويعود ذلك إلى الرغبة في السلامة من شر الكائنات الماورائية، تلك المختزلة في عوالم الجان والشياطين، وما يرتبط بها من حكاياتٍ عن امتلاكها للأماكن المهجورة، فتصير مسكونةً بها.

وعلى ذلك، فإنّ ارتفاع مُعدلات النموّ السُّكاني، وتنامي الحاجة إلى بناء بيوتٍ جديدة، قد جعل من هذه الأماكن خياراتٍ ممكنة، من غير أن يزول التوجُّس من شرها المحتمل. وهو ما أفضى إلى أن يكون البناءُ على هذه الأماكن أكثر حظوةً بالاحترازات والتقاليد الاجتماعية، التي تُعدّ في الثقافة الشعبية إجراءاتٍ مهمة، وفاعلةٍ في الحدّ من مخاطر الإقامة، في البيوت التي تُبنى في مواضعِ آثارِ ديارٍ قديمة.

من أهم تلك التقاليد، أن يتم ذَبْحُ خروفٍ، في وسط ساحة البيت قيد الإنشاء. وبمعية هذه العملية، يُؤخذ من الدم المُراق قدْرٌ كافٍ لأن تُمْسَحَ به واجهاتُ الحجارة الخارجية العليا من زوايا البناء. تلك الزوايا، التي يُتعارف عليها في المحكية اليمنية، باصطلاح "أركان البيت" الأربعة.

قد يكتفي بعضُ أصحاب البيوت قيد البناء، بممارسة هذا الطقس مرةً واحدة، سواء بعد مسافةٍ من ارتفاع الجدران الخارجية، أو في أيّ مرحلةٍ من مراحل البناء. بينما يحرص آخرون على تكرار هذه العادة أكثر من مرة، وفي أكثر من مرحلة.

وفي السياق نفسه، يأتي طقسٌ آخر، ذاك المُتَمثِّلُ في استضافةِ شخصٍ معروفٍ بعمله في مجال الطب الشعبي، الإيحائي والديني. تُوْكَلُ إليه مهمةُ تحصينِ البناء من تلك الكائنات، بطريقته المعتادة، التي تقتصر على أن يقف مُرَدِّداً آياتٍ قرآنية معينة، في كل زاويةٍ من الزوايا الخارجية للمبنى.

لا شكَّ في أنّ هذه المهمة مدفوعة، لكنها غير محددةٍ، وغير خاضعةٍ للمساومة، بل متروكة لصاحب الشأن، الذي يرتبط مقدارُ ما يدفعُه بمكانته الاجتماعية، وسخائه ومستواه المالي. 

كما أنّ هذه المهمة غير مرتبطةٍ بمرحلةٍ معينةٍ من مراحل البناء. إذ يمكن أن تأتي مُتزامنةً مع أيّ طقسٍ من طقوس الذبح، كما يمكن أن تأتي طقساً مستقلاً بذاته.

طقوس الإقامة الجديدة

لا تعني ممارسة تقاليد الثقافة الشعبية المتعلقة بتحصين البيت الجديد في مراحل بنائه، أنها كافية لتحقيق الغاية الوقائية، بل تُعَدُّ خطوة أولى، تمتدّ منها هذه التقاليد إلى المرحلة التالية، تلك الخاصة بانتقال الأسرة إلى البيت الجديد، بعد استكمال تفاصيل بنائه. مع ملاحظة أن هذه الطقوس - في هذه المرحلة - أكثر حيويةً، وأوسع تفصيلاً، وأخصبَ دلالاتٍ اجتماعية. 

كما ترتبط هذه المرحلة بتلك الرؤية الشعبية، التي تؤكد ضرورةَ تقليصِ الفترة الزمنية الفاصلة بين بناء البيت ومرحلة دخوله والإقامة فيه؛ لأن البيت الجاهز للسكن - وفقاً لهذه الرؤية - إن لم يُسارع صاحبُه إلى الإقامة فيه، فإنّ الجن سيسبقونه إليه، ولن يكون من السهل عليه التخلُّص منهم. 

لذلك؛ ستجد كثيراً من أصحاب البيوت الجديدة مَنْ يحرص على زيارتها بشكلٍ شبه يومي. بل ستجد منهم من يُقيم فيها بمعية أصدقائه؛ تداعياً منهم مع هذه الثقافة الاجتماعية، التي ترى في ذلك بثّاً للحياة في أرجاء البيت وتبديداً لسكونه.

التصالح مع الكائنات غير المرئية

تمثّل مرحلة الانتقال إلى البيت الجديد - للإقامة الدائمة فيه - مناسبةً مهمّةً؛ لاتِّخاذ مزيدٍ من الإجراءات الوقائية؛ إذ عادةً ما يتم ذَبْحُ ذبيحةٍ، في المدخل الرئيس للبيت، بالتزامُن مع وصول الأسرة التي ستقيم فيه. وفي سياق ذلك، تُوجَّه الدعوةُ إلى الأهل والأصدقاء والأقارب، لحضور وليمةٍ تُقام في هذه المناسبة.

بعد استقبال الضيوف واكتمال وصولهم في وقت الظهيرة، تُقدّم لهم وجبةُ الغداء. ثم يبدأ بعدها مقيلُهم في مجلس البيت. منهم من يُغادرُه قبل حلول المساء، ومنهم من يمتدُّ به المقيلُ إلى وقتٍ مُتأخرٍ من الليل، يتخلّلُه أداءُ الصلوات وتناولُ وجبة العشاء.

عادةً ما يكون من بين الضيوف عددٌ من رجال الدين، وغيرهم ممّن يُعَوّل عليهم في إحياء طقوس هذه المناسبة، بتفاصيلها التي تتنوع بين مواعظَ، وأدعيةٍ، وتواشيحَ دينيةٍ ذات طابعٍ روحيٍّ أثير.

تختلف المدة الزمنية، التي تُقام فيها هذه التقاليد والطقوس. إذ يرتبط تقديرُ ذلك، بطبيعةِ المكان الذي بُني عليه البيت، فإنْ كان مستحدثاً فلا ضير من الاكتفاء بيوم واحد. أما إنْ كان موضعَ آثارِ أبنيةٍ قديمة، فإن ذلك غالباً ما يستدعي إطالةَ زمن هذه الطقوس، التي قد تمتدُّ مُمارستُها إلى يومين أو 3 أيام متتالية.

يربط الخيال الشعبي المتوارث بين غياب هذه التقاليد وما تتعرّض له الأسرة من مصائب في قادم أيامها. إذ استقرَّ في الثقافة الشعبية أنّ الجن والشياطين والأرواح الشريرة، تجد في وليمةِ دخولِ البيت الجديدِ نوعاً من التصالح الضمني مع الساكنين الجُدد. فإن تجاوزوا تلك الطقوس، فإنهم سيكونون عُرضةً لانتقامها، كأن يأتي سخطُها مُصِيْبةً في موتِ واحدٍ منهم، أو خسارةً في نفوقِ بعضٍ من مواشيهم. 

وفي هذا السياق، يمكن الإشارة إلى أن الثقافة الشعبية قد اعتادت على الربط بين هذه المصائب وسخط تلك الأرواح الشريرة، بغض النظر عن ممارسة تقاليد دخول البيت الجديد من عدمها. إذ لا يَحُوْلُ التزامُ بعضِ الأُسَرِ بتلك الطقوس دون تعرُّضها لشرِّ تلك الكائنات.

تُضفي مناسبةُ دخول البيت الجديد ووجود الضيوفِ فيها حالاً من زخم الحياة على البيت الجديد، لكن سرعان ما تزول هذه الحالُ، مع انتهاء مراسيم المناسبة وطقوسها. وهنا يحرص بعضُ الأهل على التناوب، في بقائهم مع أُسرة المنزل أيّاماً عديدة؛ حتى تعتاد على واقعها الجديد. كما أنّ من أصحاب هذه البيوتِ مَنْ يحرص على أن يكون من هؤلاء أمه، أو أبوه، أو كلاهما.

لقد تأثرت هذه التقاليد الشعبية والطقوس الاجتماعية، بمعطياتِ الحضارة المعاصرة، وما ارتبط بها من ثورةِ وسائلِ التواصُل الاجتماعي؛ حيث بدأت هذه العادات الشعبية بالانحسار المُتتابع في عددٍ من المناطق، إلى حدّ أن ينتقل بعضُهم إلى البيوت الجديدة، من غير مبالاةٍ منهم بهذه التقاليد، لا سيما الجيل الجديد، الذي نال قسطاً متقدماً من التعليم الحديث، واعتاد على التعاطي اليومي مع متغيرات الحياة المتسارعة. 

وعلى ذلك كُلّه، لا يزال لهذه الطقوس والتقاليد حضورُها الحيويُّ المتجدّد، الذي تتجلّى من خلاله نسقاً مُطّرِداً من أنساق الثقافة الشعبية، في كثيرٍ من المناطق الريفيّةِ في اليمن.

اخترنا لك