ما بين سيون أسيدون وسماح إدريس
سيون أسيدون الذي عُرف كمناضل يساري ماركسي، رأى أنّ القضية الفلسطينية في صلب قضايا التحرّر التي تهم كلّ شعوب العالم، حيث كان يدرك أنّ الخطر الأكبر في المساواة بين الصهيونية واليهودية.
-
سيون أسيدون (1948 - 2025)
كثيراً ما كنت أسأل نفسي: هل نحن نقرأ الأدب الجيد أم الأدب المسوق جيداً؟ وهل ما تتمّ ترجمته من الآداب العالمية هو الأكثر قراءة أو شهرة، أم لأهداف تخدم سياسة النظم الشمولية القائمة، أو حتى القوى الاستعمارية المهيمنة على مقدّرات الشعوب؟
كنت أخرج بنتيجة مفادها هي أنّ كثيراً من أدب الضجة يتمّ عبر وسائل متعددة تحت عين العسس والأنظمة التي تحاول تسليط الضوء على أفكار بعينها، وذلك لأجل تمرير سياساتها القائمة أو المزمع تنفيذها، من دون الاهتمام بالأجود أو الأكثر إبداعاً، ينعكس ذلك أيضاً على الجوائز العربية للأسف، التي لم تكن منصفة في أغلب الأحيان. وكنت في هذا المضمار أقوم بعمل قياس بين فرع الفن والسينما وكذلك العلوم وغيرها، لأدرك أنّ النتيجة واحدة.
ونظراً لأنّ العربي منشغل بتوفير لقمة العيش، والبحث عن متطلّبات الحياة اليومية، استطاعت النظم القائمة تقديم واجهات ثقافية أو فكرية جديدة، وتجاهل أخرى، لذلك كان لا بدّ من تسليط الضوء على أحد أعلام مناهضة الصهيونية التي غابت نهاية الأسبوع الأول من شهر تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، وهو اليهودي المغربي، سيون أسيدون، لأنني وغيري الكثير لم نعرف بموت هذا الرجل إلا مؤخراً، لأنّ غزة لا يتوفّر فيها الإنترنت أو الكهرباء، ولأنّ أهلها يعيشون البحث عن لقمة العيش المغمّسة حرفياً بالدم.
وسيون أسيدون الذي عُرف كمناضل يساري ماركسي، رأى أنّ القضية الفلسطينية في صلب قضايا التحرّر التي تهم كلّ شعوب العالم، حيث كان يدرك أنّ الخطر الأكبر في المساواة بين الصهيونية واليهودية. فهو يهودي ينبذ التنظيم السياسي الصهيوني بأشكاله كافة، ويعتبر الصهيونية حركة استعمارية عنصرية يجب محاربتها بكلّ الوسائل المتاحة، وأسيدون أحد مؤسّسي حركة المقاطعة في المغرب، كان حاضراً دائماً في كلّ الحراكات والتظاهرات من أجل فلسطين، وليس كما هو الحال للأسف مع الكثير من النخب العربية المسلمة.
علماً أنّ المناضل اليهودي الديانة، المغربي الجنسية، عربي القومية، الراحل سيون أسيدون توفي مؤخراً، في مدينة الدار البيضاء بالمغرب، وذلك بعد 3 أشهر من دخوله في غيبوبة لأسباب لم تعرف حتى اللحظة، ولأنّ أسيدون كان صوتاً حرّاً من مؤسسي حركة المقاطعة ضدّ "دولة" الاحتلال (BDS)، كان لا بدّ من الإشارة إليه والحديث عنه، خصوصاً أنني كما أشرت عن وجع الفلسطيني، فهو منشغل بحماية الخيمة من الغرق، يكافح في ظلّ ظروف استثنائية، يحاول توفير رغيف الخبز للطفل مبتور القدمين، ويبحث عن سبيل للنجاة داخل المشافي المدمّرة.
هذا الرجل كان مناضلاً حقيقياً، قرّر اقتحام المألوف، وتكسير القوالب التي فرضها الاحتلال، عمل على إعادة تشكيل فكرة المقاومة ضدّ الاحتلال الصهيوني، وصبغ عليه معنى جديداً للمقاومة.
إنّ رحيل أسيدون يمثّل تتويجاً لمسار اختاره ليكون في صف الحقّ، مهما كان الثمن، وقد دفع طوال حياته ثمن تلك المواقف المشرّفة، من أجل إعادة صياغة الوعي العربي واليهودي معاً، فلا الهوية مبرّر للقمع، ولا الذاكرة التاريخية تسمح بتكرار المأساة على شعب آخر.
وما بين أسيدون الذي غابت شمسه الشهر المنصرم، وبين سماح إدريس، الذي توفّي عام 2021 في الشهر ذاته، نعرف أنّ المقاومة بأشكالها كافة مباحة لأجل الحرية، والتخلّص من براثن الاحتلال الذي يجثم على صدور الأمة حقّ، فهذا الاحتلال يجيد العيش في دور الضحية، مستخدماً شمّاعة معاداة السامية، كأداة وبروباغندا لتنفيذ المزيد من عمليات القتل والتهميش والاستيطان في كلّ الربوع العربية.
سماح إدريس، الكاتب والناقد والمثقّف اللبناني، والذي عمل رئيساً لتحرير مجلة "الآداب" البيروتية لعقدين من الزمن، ابن الراحل سهيل إدريس مؤسس "دار الآداب"، اشتهر بخلاف الكثير من رفاق القلم، بموقفه الواضح تجاه "دولة" الاحتلال، ودعم النضال ضدّ الصهيونية، مطالباً بتجديد الفكر القومي العربي. فقد كان عضواً مؤسساً في حملة مقاطعة داعمي "إسرائيل" في لبنان منذ عام 2002 حتى وفاته، يكرّس نشاطه لدعم القضية الفلسطينية، من خلال العمل على مقاطعة الأنشطة الأكاديمية والثقافية الداعمة للاحتلال، فاضحاً تواطؤ عشرات الشركات العالمية مع الاحتلال الصهيوني، وقد تعرّض بسبب مواقفه تلك إلى حملات منظّمة هدفها النيل من شخصه، حتى توفي في بيروت في 25 تشرين الثاني/نوفمبر 2021، تاركاً وصيته الأخيرة: "إذا تخلّينا عن فلسطين تخلّينا عن أنفسنا".
وهنا أسأل القارئ: أين المثقّف العربي من القضية الفلسطينية؟ لماذا لم نعد نسمع له أيّ صوت؟ أين الأدباء الذين يشبهون سماح إدريس وباسل الأعرج وإلياس خوري؟ أين مواقف المؤسسات الرسمية الثقافية العربية؟ وهل بات دم الفلسطيني رخيصاً لدرجة لم يعد فيها مهماً تسليط الضوء على مظلوميته؟ ثم أجيب نفسي بحسرة: نحن في زمن تفتيت الوعي العربي، وتطويع الذاكرة، وتكييف الإنسان ليقبل بالهزيمة.
بين سماح إدريس وسيون أسيدون يقف جيل كامل، يتعلّم أنّ الدفاع عن فلسطين ليس موقفاً سياسياً فحسب، بل موقف إنساني أخلاقي ثقافي، يحمله الأحرار لمقاومة تزييف الوعي، ويقتحمون الصمت ليقولوا للعالم الأصمّ، حتماً سيزول هذا الاحتلال.