هل كانت الحرب على المخدرات أداة للهيمنة الأميركية؟
كيف تحوّلت الحرب على المخدرات إلى أداة بيد الإدارة الأميركية لاستهداف مجموعات سياسية وعرقية محددة؟ وكيف قدمت البرتغال وأوروغواي نموذجاً جديداً في مكافحة المخدرات؟
في العام 1971، وقف الرئيس الأميركي الأسبق، ريتشارد نيكسون، أمام "الأمة الأميركية" ليعلن أن المخدرات هي "العدو العام رقم واحد". بهذه العبارة، أطلق نيكسون حقبة جديدة في التاريخ الأميركي، تحوّلت فيها آفة تعاطي المخدرات من قضية اجتماعية وصحية إلى معركة سياسية وعسكرية واسعة النطاق.
هكذا، لم تعد الحرب على المخدرات مجرد أمر سياسي، بل صارت مؤسسة ضخمة تمتص مليارات الدولارات سنوياً، وتصنع العناوين في الصحف العالمية، وتغيّر مسارات حياة الملايين.
من الولايات المتحدة إلى العالم
-
في العام 1970، وقّع نيكسون على قانون المواد الخاضعة للرقابة الذي أدى إلى تخفيض تصنيف الماريجوانا إلى الجدول الأول، وهي قائمة من أخطر المخدرات وغير المفيدة طبياً (أ ب)
في أواخر ستينيات وأوائل سبعينيات القرن الماضي، كانت الولايات المتحدة غارقة في صراعات اجتماعية وسياسية. تصاعدت حركة الحقوق المدنية، واندلعت التظاهرات ضد حرب فيتنام، وظهرت ثقافة "الهيبيز" التي تدعو إلى التحرر من القيود الاجتماعية التقليدية. وسط هذا المشهد المتغير، وجد نيكسون فرصة لإعادة السيطرة على الشارع الأميركي. مستغلاً مخاوف الناس، شنّ نيكسون حملة شرسة على المخدرات، معلناً أنها "عدو داخلي" يهدد سلامة المجتمع.
لكن الحقيقة التي كشفتها السنوات اللاحقة كانت أكثر قتامة. وفقاً لمستشار نيكسون، جون إيرليكمان،إذ لم تكن الحملة على المخدرات تهدف فقط إلى حماية المجتمع، بل شكلت وسيلة لاستهداف مجموعات بعينها، مثل أصحاب البشرة السوداء وحركات السلام.
"ربطنا الماريجوانا بالهيبيز والهيروين بالسود"، قال إيرليكمان، مضيفاً أن الهدف كان واضحاً: "تشويه سمعتهم، وزجهم في السجون، وتحطيم مجتمعاتهم".
المال والعقاب: صناعة الحرب على المخدرات
-
الرئيس ريغان يسلم زوجته نانسي ريغان القلم الذي وقّع فيه على مشروع قانون لمكافحة المخدرات بقيمة 1.7 مليار دولار في البيت الأبيض عام 1986
مع مرور العقود، أصبحت الحرب على المخدرات صناعة قائمة بذاتها. أنفقت الولايات المتحدة ما يقرب من 50 مليار دولار سنوياً لمحاربة المخدرات، لكن النتائج لم تكن مشجعة. فقد ارتفع عدد السجناء الأميركيين من 300,000 شخص في سبعينيات القرن المنصرم إلى أكثر من 2.3 مليون شخص بحلول العقد الثاني من القرن الــ 21، مع أن نصف هؤلاء تقريباً سجنوا بتهم متعلقة بالمخدرات.
في الوقت نفسه، انتعش الاقتصاد الأسود الذي تغذيه المخدرات. وقدرت القيمة السنوية لهذه التجارة بمئات المليارات من الدولارات، ما جعلها واحدة من أكثر الصناعات ربحاً في العالم. وبينما كانت السجون تمتلئ بالشباب الأميركيين من أصول أفريقية ولاتينية، كانت تجارة كبار تجار المخدرات والكارتيلات الدولية تزدهر.
لم تبق الحرب على المخدرات داخل حدود الولايات المتحدة. مع مرور الوقت، امتدت إلى مناطق عديدة حول العالم، متحولة إلى نزاع عابر للحدود.
ففي هندوراس، أصبحت تجارة الكوكايين جزءاً لا يتجزأ من النظام السياسي والاقتصادي. العصابات المحلية، مثل Mara Salvatrucha (MS-13)، لا تعمل بمفردها، بل تتعاون مع مسؤولين حكوميين مدعومين من الولايات المتحدة. أما النتيجة فكانت تصاعد العنف، وانتشار الفساد، وتحول البلاد إلى "دولة مخدرات" بحكم الواقع.
أما في الفلبين، فقد تبنى الرئيس، رودريغو دوتيرتي، مقاربة دموية. منذ توليه الرئاسة عام 2016، شن دوتيرتي "حرباً على المخدرات" قتلت عشرات الآلاف، معظمهم من الفقراء. شوارع مانيلا، التي كانت تعج بالحياة، أصبحت مسرحاً لعمليات قتل خارج نطاق القانون، حيث تُركت الجثث في الأزقة كرسالة للآخرين.
وفي غينيا بيساو، الدولة الصغيرة الواقعة غرب أفريقيا، تحولت تجارة المخدرات إلى جزء من النسيج الاجتماعي. مع غياب الدولة القوية وضعف المؤسسات، أصبحت غينيا بيساو محطة رئيسية لنقل الكوكايين من أميركا الجنوبية إلى أوروبا. أما المسؤولون الحكوميون والضباط العسكريون فقد أصبحوا شركاء في هذه التجارة، ما جعل البلاد مثالاً حياً عن الكيفية التي يمكن أن تحوّل فيها تجارة المخدرات دولة بأكملها إلى رهينة.
الإعلام والثقافة: خلق صورة "العدو"
-
من تظاهرة للهيبيز ضد حرب فيتنام
كان للإعلام دور محوري في تشكيل التصورات العامة عن المخدرات ومتعاطيها، حيث تبنت الحكومات حملات دعائية تروّج لروايات مخيفة ومبالغ فيها، ما أدى إلى ترسيخ صور نمطية تصور المخدرات كتهديد وجودي. في الولايات المتحدة، مثلاً، قادت حملات مثل "Just Say No" في ثمانينيات القرن الماضي موجة من التخويف الشعبي باستخدام صور صادمة تحذر من أن المخدرات يمكن أن تدمر الحياة بمجرد تجربتها. ومع ذلك، تجاهلت هذه الحملات معالجة الأسباب الجذرية للإدمان، مثل الفقر والتمييز الاجتماعي.
أما وسائل الإعلام الترفيهية، من مسلسلات مثل Narcos إلى أفلام مثل Traffic، فقد عمقت هذه الصورة. حيث ركزت هذه الأعمال على تجار المخدرات والكارتيلات كأعداء خارقين ومصدر للشر المطلق، بينما أغفلت السياقات الاجتماعية والاقتصادية التي سمحت بظهور تجارة المخدرات، كالطلب المتزايد في الغرب. حتى الأدب والموسيقى ساهما في تعزيز هذه السرديات، إذ غالباً ما صورت المخدرات كجزء من نمط حياة متمرد أو كتهديد مجتمعي.
هذه السرديات الإعلامية كانت بعيدة عن الحياد، حيث ساهمت في خلق بيئة مواتية لتبني سياسات قمعية، مع التركيز على العقاب بدلاً من الفهم أو العلاج. كما دعمت خطاباً يربط المخدرات بالمخاوف الأخلاقية، ما عزز من دعم السياسات العقابية، وأدى إلى تجاهل الجانب الإنساني للمشكلة. في النهاية، رسخت وسائل الإعلام ثقافة الخوف والشيطنة، بدلاً من تسليط الضوء على الأسباب الجذرية للإدمان وضرورة إيجاد حلول شاملة.
تجارب بديلة: البرتغال وأوروغواي كنماذج للتغيير
-
لا تعتقل الشرطة في البرتغال الأشخاص الذين يستخدمون المخدرات، ولديها سجل حافل في إحالة الأشخاص المدمنين إلى الاستشارة والعلاج (غيتي ايميجيز)
في حين استمرت الولايات المتحدة ودول أخرى في التمسك بسياسات قمعية تعتمد على العقوبات الجنائية والعنف الممنهج في مواجهة أزمة المخدرات، برزت دول مثل البرتغال وأوروغواي كنماذج رائدة تبنت استراتيجيات جريئة مختلفة تماماً.
في العام 2001، اتخذت البرتغال خطوة غير مسبوقة عندما ألغت تجريم جميع أنواع المخدرات، من الماريجوانا إلى الهيرويين. وبدلاً من معاقبة المتعاطين وسجنهم، ركزت البرتغال على إعادة هيكلة تعاملها مع المخدرات بوصفها مشكلة صحية واجتماعية، وليس جريمة يعاقب عليها القانون.
هكذا تم تحويل المتعاطين الذين يتم ضبطهم بحوزتهم كميات صغيرة من المخدرات إلى لجان تأهيل مكونة من أطباء نفسيين واختصاصيين اجتماعيين ومحامين. عملت هذه اللجان على تقديم الدعم اللازم لتوجيه المتعاطين نحو العلاج وإعادة التأهيل بدلاً من وصمهم بالعار أو زجهم في السجون.
أما النتائج التي حققتها البرتغال فكانت مدهشة على المستويات كافة. ففي السنوات الأولى بعد تطبيق هذه السياسة، انخفضت معدلات الوفيات الناتجة عن الجرعات الزائدة بنسبة 80% تقريباً. بالإضافة إلى ذلك، لوحظ تحسن كبير في الصحة العامة، حيث تراجعت حالات الإصابة بالأمراض المرتبطة بتعاطي المخدرات، مثل فيروس نقص المناعة البشرية (HIV) والتهاب الكبد.
أما من الناحية الاجتماعية، فقد شهدت البرتغال انخفاضاً ملحوظاً في معدلات تعاطي المخدرات بين الشباب. لم يعد الشباب يرون في المخدرات تحدياً للسلطة أو أداة للتمرد، بل باتوا أكثر وعياً بمخاطرها بفضل حملات التوعية المكثفة التي صاحبت هذه السياسة. وقد أثبتت البرتغال أن النهج الإنساني القائم على العلاج والدعم يمكن أن يكون أكثر فعالية من القمع والعقاب.
ثم في أوروغواي، وهي البلد الذي اختار مساراً آخر مبتكراً، لتصبح في عام 2013 أول دولة في العالم تقنن إنتاج وبيع الماريجوانا بشكل كامل. كانت الخطوة جريئة ومثيرة للجدل، لكنها جاءت استجابة للوضع المتأزم الذي فرضته الكارتيلات والجرائم المرتبطة بسوق المخدرات غير القانونية. من خلال تقنين الماريجوانا، أرادت أوروغواي أن تحرم الكارتيلات من أرباح السوق السوداء، وتوفر بديلاً آمناً ومنظماً للمستهلكين.
لم تكن أهداف أوروغواي اقتصادية فحسب، بل كان التركيز على خلق نظام قانوني شفاف يضع الأولوية للسلامة العامة، حيث وضعت الحكومة معايير صارمة لتنظيم الإنتاج والتوزيع، وألزمت البائعين بالالتزام بجودة المنتجات وتقليل المخاطر المرتبطة بالاستهلاك. كما أُنشئت برامج تعليمية لتوعية المواطنين بالاستخدام المسؤول للماريجوانا، مع التركيز على الحد من تعاطي الشباب وتوفير بدائل علاجية لأولئك الذين يعانون من الإدمان.
على الرغم من الجدل الذي أثارته هذه السياسات في البداية، فإن أوروغواي نجحت في تحقيق عدة مكاسب ملموسة، وأهمها انخفاض معدلات الجريمة المرتبطة بالمخدرات بشكل كبير.
أثبتت كل من البرتغال وأوروغواي أن السياسات التقليدية القائمة على التجريم والعقاب ليست الخيار الوحيد للتعامل مع مشكلة المخدرات. من خلال تبني مقاربات مبتكرة تركز على الصحة العامة وحقوق الإنسان، قدمت هاتان الدولتان للعالم دروساً قيمة حول إمكانية تحقيق نتائج إيجابية من خلال نهج إنساني شامل. هذا النهج يعكس تحوّلاً جوهرياً في التفكير: من قمع المخدرات إلى فهم أعمق لجذور الإدمان ومحاولة علاجه من أساسه.