"المعلم ومارغريتا": رواية في 7 أفلام
شكّل ظهور فيلم "المعلّم ومارغريتا" وانتشاره صدمة إيجابية، فهو ليس مجرّد "مسرحة" للرواية، بل إعادة تقديم للحبكة عبر رؤية مخرج جريء.
عادت رواية ميخائيل بولغاكوف (1871-1940) الشهيرة "المعلّم ومارغريتا" لتتصدّر قائمة الكتب الأكثر انتشاراً في روسيا وبلدان الاتحاد السوفياتي السابق، حيث أفادت وكالة "ليتريس" الأدبية الروسية أن الرواية من بين أكثر الكتب الرقمية شعبية في العام 2024، بعدما تصدّرت قائمة الكتب الرقمية والصوتية المباعة.
وكان عرض الفيلم الذي يحمل اسم الرواية نفسه، مؤخراً، السبب الرئيس وراء عودة القراء إلى ما كتبه بولغاكوف، مدهوشين بالسيناريو الجديد، وطريقة أداء الممثلين، على الرغم من أن الرواية حظيت بالظهور على الشاشات في 6 أفلام سابقة داخل روسيا وخارجها.
المُعلّم الجديد
تأخر إنتاج الفيلم المستوحى من الرواية 5 سنوات. فقد بدأ العمل فيه سنة 2018، وخلال هذه المدّة، تغيّر مخرج الفيلم إذ احتل ميخائيل لوكشين محل نيقولاي ليبيديف الذي أطلق المشروع. كما أعيدت كتابة السيناريو وتغيّر العنوان الأول المقترح "فولند" إلى الاسم الأكثر شهرة، أي اسم الرواية نفسها.
وشكّل ظهور الفيلم وانتشاره صدمة إيجابية، فهو ليس مجرد "مسرحة" للرواية، كما درجت العادة في بعض الأفلام السابقة التي حرصت على الاقتباس الحرفي، بل إعادة تقديم للحبكة عبر رؤية مخرج جريء. وقد تلقّاه النقاد السينمائيون بإيجابية كذلك، إذ رأى الناقد أليكسي كروموف أن "الفيلم الجديد يجعلنا نتذكر لعنة المعلّم ومارغريتا الأسطورية. وقد تبيّن أنه جميل ورحب وعاطفي. كما تختلف الحبكة فيه بشكل كبير عن الرواية من جهة، وإصدارات الشاشة السابقة من جهة أخرى، ما يجعل الفيلم غير متوقع، مع أنه يبدو في بعض الأحيان أن ساعتين ونصف الساعة لا تكفي للكشف عن القصة".
في الفيلم، أثناء وجوده في مستشفى للأمراض النفسية، يروي كاتب يطلق على نفسه اسم "المعلّم" (يفغيني تسيغانوف) قصة حياته للمريض في الجناح الملاصق. يحكي له أنه أصدر مسرحية بعنوان "بيلاطس" التي كان من المفترض أن تُعرض على خشبة المسرح في موسكو. لكن المعلّم يُتهم بأنه مناهض للسوفيات، ويتحوّل على الفور إلى "كاتب منبوذ". سرعان ما يلتقي الكاتب بمارغريتا (يوليا سنيغير) ويقع في حبها. ثم يبدأ المعلم في كتابة رواية، يختار شخصياتها من دائرته، أي أنه يبدأ بنفسه، وحبيبته، وقطة محلية، وزملاء سابقين وأجنبي غامض. وتتسبب له هذه الرواية بالوصول إلى مستشفى الأمراض النفسية.
في زحمة الأفلام
يضعنا الفيلم أمام نسخة جديدة من الرواية، حيث باتت رواية "المعلم ومارغريتا" نفسها جزءاً من السيناريو. الأمر ليس مستغرباً فحسب، بل يكاد يكون فكاهياً، فرواية بولغاكوف هي قصة داخل قصة في الأصل. قصتان تسيران بالتوازي في زمنين مختلفين ثم تتقاطعان، الزمن الأول في موسكو ثلاثينيات القرن العشرين مع المعلم وحبيبته ومعضلات المجتمع السوفياتي، والثاني في القدس قبل ألفي عام مع يشوع الغانوصري وبيلاطس البنطي وتزاحم السلطتين الرومانية الزمنية واليهودية الروحية.
وقد أتى الفيلم ليضيف طبقة جديدة إلى السرد، أي قصة تحتوي قصتي بولغاكوف معاً، وفيها أن المعلم بات راوياً يكتب مسرحية تمنعها الرقابة من العرض، ربما لو وصلتنا المسرحية المفترضة بشكل مطبوع لكانت مسلية أكثر. ومع ذلك، يرى النقاد أن لهذه الخطوة ما يبررها على الشاشة الكبيرة، وفيها الكثير من الجاذبية. لماذا؟
في العام 2005، وضع فلاديمير بورتكو سيناريو مكتملاً لمسلسل تلفزيوني مؤلفاً من 10 حلقات، حمل عنوان الرواية نفسه، وكان بورتكو المخرج والمنتج ولعب أحد الأدوار في المسلسل في الوقت عينه. وصل بورتكو إلى ذروة التماهي مع النص الأصلي للرواية ونقل محتواها إلى الشاشة بشكل كافٍ ووافٍ، ليس على صعيد الاقتباسات فحسب بل في المشاهد والديكورات والأزياء. وقد تابع المسلسل منذ حلقته الأولى آنذاك أكثر من 40 مليون مشاهد.
قبل مسلسل بورتكو، صدر شريط سينمائي ألماني سنة 1971 في ذروة الحرب الباردة للمخرج البولندي أندريه واغدا بعنوان "بيلاطس وآخرون - فيلم للجمعة العظيمة" والسيناريو مستوحى من الرواية. ثم ظهر عام 1972 فيلم "المعلم ومارغريتا" للمخرج اليوغوسلافي ألكسندر بتروفيتش، لكن هذا الفيلم حظر من العرض في يوغوسلافيا بعد فترة وجيزة.
ثم أتت مرحلة "البيريسترويكا". ففي سنة 1988 ظهر فيلم تلفزيوني من 4 حلقات يحمل اسم الرواية مبني على سيناريو ماسيغ فويتيشكو مع المحافظة قدر الإمكان على سير أحداث الرواية وحواراتها، وأدت موازنة الفيلم الضئيلة إلى تحويله إلى ما يشبه مسرحية متلفزة.
في المملكة المتحدة، ظهر سنة 1992 فيلم مقتبس من الرواية حمل عنوان "حادثة في اليهودية"، أعاد سرد الجزء التاريخي من الرواية. في روسيا، صوّر المخرج يوري كارا سنة 1994 فيلماً سينمائياً لم يبصر النور إلا سنة 2011، أي بعد مسلسل فلاديمير بورتكو الشهير. ومن نافلة القول إن المسلسل الذي حظي بشعبية كبيرة قضى على أي أمل بنجاح فيلم كارا، الذي بدا نسخة مشوّهة من الرواية وأقرب إلى التهريج.
وهكذا، بعد إنجاز بورتكو الذي مرّ عليه نحو عقدين من الزمن، لم يحاول مخرج الفيلم الجديد لوكشين، سنة 2024، مبارزة بورتكو في تجسيد الرواية وإظهار الدقة في مسارات السرد الثانوية في فيلمه السينمائي، بل عمد إلى تجاوزها، وكأنه يقول للمشاهدين: إن أردتم معرفة ما كتبه بولغاكوف عودوا إلى الرواية واقرأوها! لكن ملايين المشاهدين، بعدما بهرهم الفيلم الجديد لم يعودوا إلى الرواية فقط، بل أعادوا مشاهدة مسلسل بورتكو من جديد، وذلك عبر منصة "نحن مشاهد" الروسية، التي أتاحت المسلسل للجمهور عبر الإنترنت في نسخة رقمية عالية الجودة.
بولغاكوف وروايته
لم يخف بولغاكوف أن روايته هي عبارة عن جانب من سيرته الذاتية، ما يبرر للمخرج لوكشين أن يرسم أوجه تشابه أكثر وضوحاً في فيلمه عن علاقة المعلم بزوجته المستقبلية، والحظر المفروض على إنتاجه الأدبي، وعلاقاته بمجتمع الكتّاب في موسكو. وربما لذلك تحظى رواية "المعلم ومارغريتا" باهتمام كبير، وتعدّ واحدة من أبرز الروايات العالمية.
كتب بولغاكوف مخطوطته الأولى عام 1930 لكنه أحرقها لتيقنه من أنها لن تحظى بالنشر، ثم أعاد صياغتها من ذاكرته فانتهى من المخطوطة عام 1936، ثم نقحها وأنهى مخطوطة ثالثة في العام التالي، ثم أنتج المخطوطة الرابعة في آخر أيام حياته.
لكن الرواية لم تنشر إلى أن باشرت أرملته يلينا بولغاكوفا بنشرها على صفحات مجلة موسكو الأدبية بين تشرين الثاني/نوفمبر 1966 وكانون الثاني/يناير 1967.
وتجدر الإشارة إلى أن الفصول الأخيرة من الرواية كانت مسوّدات تركها بولغاكوف، ضمّتها أرملته يلينا إلى النصّ. وقد خضعت الرواية للتحرير وحذفت مقاطع منها بسبب التحفظات السياسية فاختفى نحو خُمسها، كما قيل. ثم انتشرت الأجزاء المحذوفة على نحو محدود في كتيبات مطبوعة، قبل أن يُطبع النص الذي وصف بأنه كامل في فرنسا، ثم في ألمانيا سنة 1969. ولم تظهر النسخة المعتمدة من الرواية إلا سنة 1989، وذلك على يد الباحثة ليدا يانوفسكا بناء على المخطوطات المتوفرة في كييف، على عتبة انهيار الاتحاد السوفياتي.