"النكبة المستمرة": إلغاء وجود السكان الأصليين ماديًا ورمزيًا

لا يقدم إلياس خوري، من خلال هذا العمل، "تحقيقًا" في النكبة فقط ، بل مشروعًا لتحرير سردية فلسطين من خطاب الهزيمة، وإعادة بنائها على أساس المقاومة والمعرفة والعدالة.

  • كتاب
    كتاب "النكبة المستمرة" لإلياس خوري

يُشكّل كتاب "النكبة المستمرة" لإلياس خوري إضافةً نوعيةً في دراسة الذاكرة الفلسطينية، حيث يتجاوز السرد التقليدي للتاريخ بوصفه أحداثًا منقطعة، ويُعيد قراءة النكبة بوصفها سيرورة مستمرة ومتجددة تتخلل الحاضر وتستشرف المستقبل. لا يكتفي خوري باستعادة أحداث عام 1948، بل يفكك مفهوم النكبة ويُعرّيها من أُحاديتها، ليقدّمها كبنية استعمارية متجذّرة في الواقع الفلسطيني.

إعادة تعريف النكبة: من الحدث إلى البنية

في هذا الكتاب، لا يتعامل خوري مع النكبة كذكرى أو كجريمة تاريخية منتهية، بل كـ"بنية" متواصلة، تشكّلت منذ النصف الأول من القرن العشرين وما زالت تُنتج مفاعيلها حتى اليوم. فسياسات القمع والتهويد والاستيطان والتمييز العنصري، تُفهم عند خوري كجزء من نظام احتلالي هدفه تفريغ الأرض من أصحابها، وإحلال سردية جديدة تبرّر الاحتلال وتمنحه شرعية زائفة.

هذا الفهم يتلاقى مع النظريات الحديثة في دراسات الاستعمار الاستيطاني، حيث يتم التركيز على مفهوم "الإلغاء"، أي إلغاء وجود السكان الأصليين ماديًا ورمزيًا، لا قمعهم أو استغلالهم فحسب.

الاحتلال بعد 1967: إعادة إنتاج النكبة

يركّز خوري على مرحلة ما بعد احتلال الضفة الغربية وغزة في 1967، بوصفها مرحلة جديدة من النكبة. فالنكبة لم تكن فقط طردًا قسريًا للفلسطينيين من ديارهم عام 1948، بل استمرارًا دائمًا لهذا الطرد بأدوات أكثر مؤسسية وقانونية. الاحتلال في الضفة، والحصار في غزة، والتجزئة الجغرافية، والتشريعات العنصرية، ليست كلها سوى أدوات لتعميق النكبة وتحويلها إلى "حالة دائمة".

وفي هذا الإطار، يتناول خوري الحكم العسكري الإسرائيلي كأداة للسيطرة المطلقة، تمارس شكلاً من أشكال "الإدارة بالكوارث"، حيث يتم استخدام القانون والحرب والعنف كوسائل متكاملة لإبقاء الشعب الفلسطيني في حالة هشاشة وجودية دائمة.

الذاكرة والمحو: معركة السردية

يشدّد خوري في تحليله على البعدين الرمزي والمعرفي للنكبة، وهو ما يُعدّ من أبرز إسهاماته في الأدب السياسي. فالمعركة، في جوهرها، ليست فقط معركة على الأرض، بل أيضًا على الذاكرة. فالمشروع الصهيوني لم يهدف فقط إلى طرد الفلسطيني من أرضه، بل أيضًا إلى محو وجوده الثقافي والتاريخي، وتدمير خرائط ذاكرته الجماعية، و"تأريخ" الأرض من جديد، بلغة المستوطن في هذا السياق، تُصبح الكتابة أداة مقاومة. والسرد، كما يفهمه خوري، ليس مجرد وسيلة لتوثيق الوجع، بل استراتيجية للبقاء والتحدي وإعادة امتلاك الحكاية..

يطرح الكتاب سؤالًا ملحًا: كيف نقرأ النكبة وهي لم تنتهِ بعد؟ ويجيب خوري بأن النكبة ليست حدثًا تاريخيًا معزولًا، بل هي "الكلمة التي تلخص الحياة تحت الاحتلال وفي مخيمات اللاجئين". هذا التوصيف يضع النكبة في صلب التجربة الفلسطينية المعاصرة، ويجعل من استحضارها فعلًا يوميًا لا مجرد استعادة للماضي.

الفلسطيني كفاعل لا كضحية

على عكس كثير من الكتابات التي تُسقط الفلسطيني في فخ "الضحية الصامتة"، يعيد خوري الاعتبار للفلسطيني بوصفه فاعلًا في تاريخه، مقاومًا، صانعًا للمعنى. فالنكبة المستمرة لم تقتل الإرادة الفلسطينية، بل دفعتها لتطوير أشكال متعددة من المقاومة، منها المسلحة، ومنها الثقافية والحقوقية ويسرد الكتاب نماذج من الصمود الفلسطيني، بدءًا من مقاومة الجدار والاستيطان، مرورًا بمسيرات العودة، وصولًا إلى نضالات اللاجئين الفلسطينيين في الشتات للحفاظ على هويتهم وحقهم في العودة.

تفكيك خطاب "السلام" والتسويات

يأخذ خوري موقفًا نقديًا صارمًا من خطابات "السلام" و"حل الدولتين"، التي يعدّها جزءًا من استراتيجية لتفريغ القضية الفلسطينية من جوهرها التحرري، وتحويلها إلى "نزاع قابل للإدارة" بدل كونه مشروعًا لإنهاء استعمار. ويوضح خوري أن النكبة لا تُحل بالتسويات، بل بالعدالة التاريخية، التي لا تكون ممكنة إلا عبر تفكيك البنية الاستعمارية ذاتها، لا التعايش معها.

مقاومة اللغة: عن جمالية النص وتحليله

من اللافت في هذا الكتاب أن خوري، رغم طابعه التحليلي، لا يتخلّى عن لغته الأدبية، ولا عن شاعريته السياسية. فهو يستثمر أدوات الرواية في بناء النص التحليلي، بما يمنحه عمقًا إنسانيًا وأدبيًا فريدًا. فالنكبة ليست فقط واقعًا سياسيًا، بل تجربة وجودية يعيد خوري تشكيلها عبر سردية غنية بالصور والدلالات.

يُفكك خوري آليات الخطاب الصهيوني الذي يتلاعب باللغة ويُفرغها من دلالتها الإنسانية. ويكشف كيف أن "النار" (إيش بالعبرية) أصبحت أداة للسيطرة والقمع، وكيف أن اللغة ذاتها تحوّلت إلى ساحة للصراع. هذا الاهتمام باللغة بوصفها أداة قوة يتقاطع مع رؤية خوري في رواياته، حيث اللغة ليست مجرد وسيلة للتعبير، بل هي جزء من بنية السلطة.

نحو فهم شمولي للنكبة

يقدّم كتاب "النكبة المستمرة" مقاربة متكاملة لفهم الحالة الفلسطينية، تتقاطع فيها السياسة، والتاريخ، والذاكرة، والحقوق، والرمز. وإلياس خوري، من خلال هذا العمل، لا يقدّم فقط "تحقيقًا" في النكبة، بل مشروعًا لتحرير سردية فلسطين من خطاب الهزيمة، وإعادة بنائها على أساس المقاومة والمعرفة والعدالة، في زمن تتكاثر فيه محاولات التطبيع والمحو، يُعدّ هذا الكتاب صوتًا ضروريًا لإعادة الاعتبار للنكبة بوصفها جريمة مستمرة، لكنها قابلة للهزيمة بالمعرفة والسرد والمقاومة.

اخترنا لك