"جاكارندا".. عن الــ"Call center" والنيوليبرالية ومدننا التي تفرغ
المسرحية تسلّط الضوء على مشاغل كثيرة منها دور مراكز الاتصال أو الــ "Call center" في اقتصاديات البلدان العربية ودور النيوليبيرالية في تفريغ المدينة من جذورها التاريخية، وهواجس جيل ما قبل الألفية الثانية.
تتويجات عديدة فازت بها مسرحية "جاكارندا" التي عُرضت في مناسبات ومهرجانات دولية ومحلية آخرها جائزة "التانيت البرونزي" ضمن فعّاليات مهرجان "أيام قرطاج المسرحية" في دورته الــ 26 التي عقدت بين 22 و29 تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، وهي من توقيع الدراماتورجي والكاتب عبد الحليم المسعودي، وإخراج نزار السعيدي.
المسرحية تسلّط الضوء على مشاغل كثيرة منها دور مراكز الاتصال أو الــ "Call center" في اقتصاديات البلدان العربية ودور النيوليبيرالية في تفريغ المدينة من جذورها التاريخية، وهواجس جيل ما قبل الألفية الثانية، وهل للجيل الجديد أو جيل "زد" مكان في هذا المشهد القاتم؟
عن الــ "call centers" وحصاد اليأس في أرواح العاملين بها
-
تطرح مسرحية "جاكارندا" مسألة الهوية والجسد
من خلال ديكور لا يخلو من العناصر الأساسية لخلق فضاء تدور فيه الأحداث وتمنح المتفرّج فرصة للتخيّل وجذب ما تراه ذاكرته/تجربته مناسباً للتفاعل مع الأحداث أو مقارنتها بالواقع، تبدأ المسرحية من خلال التركيز على الكلمة الإنكليزية "exit" المقلوبة كأنما لا خروج إلا بتدخّل قوة غير موجودة بين الشخصيات، وبينما يمعن الاسم الثاني في تأصيل الحكاية وهو "تانيت" فوق سطح بناية هذا المركز بالعاصمة تدور أحداث/اعترافات كأنما هي سجلّ ملاحظات وجرد لأفعال سابقة لزمن الأداء الركحي.
يمكن تفصيل المشاهد من خلال العودة إلى ظل التوحّش الاقتصادي الذي تمارسه بعض البلدان التي تقود العالم على من تحاول الخروج من تبعات مخططات هشّة تمنح البدائل العاجلة من دون حلول طويلة المدى.
في ورقتها البحثيّة "الاقتصاد السياسي لمراكز الاتصال فهم التداخلات بين الرأسمالية والثقافة والعولمة التي تقودها تكنولوجيا المعلومات"، تقول الباحثة الباكستانية، ليلى أيوب آصف، "تحقّق مراكز الاتصال المبتكرة والقائمة على تكنولوجيا المعلومات فوائد ثنائية ومتجدّدة للشركات الأميركية والبلدان المضيفة لها، ومنها التخفيف من حدة الفقر على الأقلّ على المدى القصير، ويسرّع هذا التوجّه عمليات العولمة من خلال تمكين الاقتصادات الأقل نمواً من الاندماج في شبكات الأعمال العالمية العابرة للحدود الوطنية".
هناك إذاً اقتصاد سياسي يحرّك هذه الفضاءات التجارية التي تتشكّل فيها علاقات قوة بين البلدان المالكة للبضاعة المعروضة ولثمنها وثمن العمل داخلها، وكذلك بين ممثّيلها والعاملين تحت إدارتهم.
وفي هذا الاطار تطرح مسرحية "جاكارندا" مسألة الهوية والجسد. هل أنّ العاملين في صلب "مركز تانيت للاتصال" أحرار جسدياً أم هم بالضرورة تابعين لسلطة المال؟ وتتكثّف المكاشفات حول الاستغلال الجسدي للعاملات مما ينتهي بالموت الفاجع لإحداهن، ليظهر بعد ذلك الصراع بين مالكي مركز الاتصال حول جدوى الحياة المشتركة في ظل الخيانات العاطفية والمالية (شخصية جويدة والكلاعي).
عن الهويات الزائفة والمصانع الحديثة
-
مسرحية جاكارندا كارتوغرافيا الحزن والرفض
إذا عدنا إلى الدراسات الاجتماعية سنلاحظ أنّ طفرة "مراكز الاتصال" أو "Call center" كانت نتيجة البحث عن امتصاص لفائض السوق في مجالات الصناعة بما يضمن قدرة أكثر على الاستهلاك وتشجيعاً على وهم امتلاك أكبر ما يمكن من "الأدوات الضرورية لتحقيق الرفاه والعمل"، وبالتالي "الراحة النفسية".
بداية من النصف الثاني من تسعينيات القرن العشرين، عرفت بلدان شمال أفريقيا ومنها تونس تطوّراً ونمواً في عدد الــ "call center".
في مقال بحثي بعنوان "مراكز الاتصال ملاذ تكنولوجي أم شكل حديث من تدهور ظروف العمل؟" للمياء حسين وزينب بن عمار وإيمان بن راضية، تقول الباحثات: "هناك حقيقة أكثر سواداً. فقد أصبحت مراكز الاتصال مرادفة لحالة جديدة من تدهور ظروف العمل والأمن الوظيفي وتوصف بأنها مصانع حديثة. فهي توظّف عمالاً غير مهرة في قطاع الخدمات. الإجهاد والظروف الشاقة هي السمات الرئيسية المرتبطة بهذه المؤسسات. بينما يطلب من العاملين في هذه المؤسسات عدم إعطاء هوياتهم الحقيقية واستخدام لغات الشركات المانحة للمال. يتمّ بذلك سلب مكوّن هامّ من شخصيتهم والاستغناء عن كلّ ما يشوّش العلاقة التجارية البحتة بين صاحب السلعة ومستهلكها".
وجه تونس العاصمة الذي التهمته العولمة
-
لقطة من مسرحية "جاكارندا"
في مسرحية "جاكارندا" (إنتاج المسرح الوطني التونسي) استذكار لتونس في أواخر ثمانينيات وتسعينيات القرن العشرين من منظور جيل تربّى على علوية الثقافة والمعرفة واحترام المعالم الحضارية المتجذّرة في المعمار.
وكذلك في كيفيّة التفاعل الايجابي مع الفضاء العمومي باعتباره مسرحاً مفتوحاً للعلاقات اللطيفة والتسامح والتصالح مع الذات ومع الآخر.
هكذا نجد حديثاً عن عصافير الشارع الرئيسي وباعة الورد الذين انتقلوا الى مكان أبعد ونجد حديثاً عن أعياد ميلاد السيد المسيح في تونس، وعن الحياة كيف تضج في العشيّات الخريفية والشتائية. كلّ ذلك يقال بكثير من الحنين الذي يكاد يلامس البكاء ليهرب الى مكان أبعد في الذاكرة، الطفولة الأولى، الانصهار مع قوى الطبيعة للتخلّص من عبء المدينة الديستوبية.
الجيل الذي لم يجد متسعاً للأمل
-
تبدو المسرحية مليئة بالاستعارات
في المشهد الأخير من "جاكارندا" تقطع "ألفة" لسانها كأنما اللغة أداة تواصل غير مجدية وتتطاير حولها أوراق شجرة الجاكارندا. هذه الشجرة العملاقة التي تظلل بأغصانها أغلب شوارع العاصمة تونس. البطلة التي أحبت شاباً مهموماً بالفنّ المسرحي وبمحاسبة تاريخه الشخصي. إنه "يوسف" العليل بجروح نفسية وبدنية والمحاط بسياج الآلام وصورة الأم المتشظّية وجه آخر لدماء اللسان المقطوع. ذلك أنّ هناك دماء لا تراها العين لأنها تصل إلى الروح عبر معارج العاطفة والفكر.
تبدو المسرحية من هذا المنظار مليئة بالاستعارات بدءاً من ضوء الخروج الذي ينذر بالخطر وصولاً إلى الأسماء واللغة المحمّلة بمعجم احتجاجي، وهي من هذه الناحية نافذة الدراماتورجي الذي يتحدّث على لسان بعض الشخصيات.
رؤية إخراجية وكتابة متكاملة
-
المخرج نزار السعيدي
تبدو المسرحية كبناء محكم في تواصل مع نظريات مرجعية مؤسسة للمسرح المعاصر، ويبدو عبد الحليم المسعودي كمن يسطّر مصائر أبطال نصه عبر 6 فصول. يعاضده نزار السعيدي بإخراج أقرب إلى البناء البصري والذهني الدقيق لما أراد له الكاتب أن يكون.
استجوابات كثيرة وإبهار في التداعيات الشعورية لتعميق الهوة بين الشخصيات المقهورة، وثانية تمثّل السلطة في معناها الشامل، كما وصفها جيل دولوز، أي تلك التي يصفها بأنها "تتطلّب أجساداً حزينة. فهي تحتاج إلى الحزن لأنها تستطيع السيطرة عليه. الفرح إذاً مقاومة لأنه لا يستسلم. الفرح كقوة محيية يأخذنا إلى حيث لا يمكن للحزن أن يقودنا أبداً".
ولعلّ صوت الطاووس أحد ألغاز المسرحية. إذ تذهب التفسيرات الهندية إلى أنه رمز للمطر، في حين يبدو في بعض المعتقدات الغربية رمزاً للآلهة وللخصب والقوة على قهر الموت وإفشال فاعلية السمّ.
من هذا الاستنتاج يبدو سؤال المتفرّج. هل "جاكارندا" دعوة لإعمال العقل أثناء مواجهة الواقع المتأزّم أم أنها، رغم طابعها التراجيدي، تفتح كوة أمل صغيرة لقوة انبعاث الحياة مرة أخرى؟
وقد أشار المخرج نزار السعيدي إلى بعض السمات الفنية للمسرحية التي ستشارك قريباً في "مهرجان المسرح العربي" في القاهرة، من خلال الاجابة عن سؤال حول علاقة المسرح بالجسد واللغة والعلامات الخطابية وكيفيّة توظيفها في هذا العمل.
وقال إنه انطلق في "جاكارندا" بوصف الجسد طاقة مكثّفة وليس حاملاً للنص أو للملفوظ كما ذهبت إلى ذلك آن أبورسفيلد في كتابها "قراءة المسرح".
-
الكاتب عبد الحليم المسعودي
وأضاف أنه "ذاكرة نابضة ومجال روحيّ. ملك قدرته الخاصة على إنتاج المعنى. الجسد في المسرحية يتهشّم ويرمّم نفسه فيستعيد بذلك جوهر الممثّل العاري كما طرحه غروتوفسكي. ذلك الممثّل الذي يصنع حضوره في مواجهة مع ما يفرضه النص أو يحدّده الإخراج. من هنا كانت الحركة فعل مقاومة وكشفاً يعبّر عن التوتر الذي يسكن الشخصية قبل أن يعبر الكلام. بهذا المعنى نعتبر الصوت أيضاً جزءاً من المادة الجسدية لا إلى حامل للجملة.
وقد حرصت في "جاكارندا على أن يخرج الصوت من أماكن داخلية. فكانت الحشرجة والنفس المكسور والذبذبة، ليصبح الصوت امتداداً عضوياً للحركة. هذه العلاقة بين الجسد والصوت هي التي تجعل التعبير ينبع من الحقيقة الداخلية للطبيعة البشرية".
ويضيف "سعيت إلى خلق هذه المسافة بين العلامات لتوليد التوتر الدلالي الذي يحرّض المشاهد على المشاركة في بناء المعنى، ولم يكن هدفي أن أبني تطابقاً بين العلامات، بل أن أخلق تركيباً بينها وأن يكون الجسد نصاً أولاً والصوت ظله والكلمة أثراً، والصمت هو الحافة التي ينكسر عندها الخطاب ثم يعيد تشكيل نفسه".
