"شامة سوداء أسفل العنق": رواية ثلاثيّة عن النضال الفلسطيني

ويقول الكاتب أن الأثر الأسود لا يذوب ولا يزولُ إلا بمراجعة تحليلية شاملة وعمليّة استئصال صحّي شامل لجسد الوطن المقبل.

  • "شامة سوداء أسفل العنق" لجهاد الرنتيسي

رواية "شامة سوداء أسفل العنق" للروائي الفلسطيني جهاد الرنتيسي تجسّد تاريخ النضال الوطني الفلسطيني في أماكن متعدّدة، من بيروت والجنوب حتى الكويت ودمشق، رواية مختلفة المسارات في شكلها الإبداعي، تضعُك في تفاصيل حياة القادة الفلسطينيين وتضيء على إيجابيّاتهم وسلبيّاتهم وتكشف لنا ما ارتكبوهُ من أخطاء وما فعلوه من صواب في التجربة الفلسطينية ونضالها الطويل في المراحل المتعدّدة، ولكنّها تركّز على مرحلة نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات من القرن الماضي. 

إنّها رواية رمزية وفلسفية تدخل في عمق الذاكرة الجماعية للنضال الفلسطيني، ولا سيما العنوان الذي يحمل دلالات كثيرة، كما تتشابك الشخصيات تشابكاً معقّداً على ما يبدو في الهوية الإنسانية للشعب الفلسطيني، حيث يبدأ البطل "جواد الديك" باستلام رسائل من الفنانة البريطانية فانيسا ردغريف وهي صاحبة فيلم جوليا الذي عُرض في لندن عن "الهوليكوست" والإبادة الجماعية، وإدانتها الواضحة للكيان الصهيوني ودعمها الكبير للقضية الفلسطينية، وهي التي كانت أيضاً تتبادل الرسائل مع "سعد الخبايا". 

هنا يذكر الروائي جهاد الرنتيسي القادة الفلسطينيين بأسمائهم الحقيقية من دون أيّ تركيب رمزي أو إيحاء، في تبادل الرسائل أيضاً دلالات كثيرة في الرواية، فالفنانة البريطانية فانيسا ردغريف كانت قد التقت بالقادة الفلسطينيين في الكويت وكان لها وجهة نظر نقدية حول ما ارتكبوه من أخطاء، قبل تبادل الرسائل معهم للدعم والمساعدة وتأكيد مناصرتها للقضية الفلسطينية من خلال هذه الرسائل، حين خرجوا من الكويت مع مسيرة الشتات المعقّدة هنا، كانت بيروت ومن ثمّ انتقلوا إلى دمشق، وتقول "فينسيا" في إحدى رسائلها لـ "سعد الخبايا" صفحة رقم 81:

"أخبرتُك خلال لقاءاتنا في الكويت عن التهديدات التي وصلتني مع حصولي على جائزة الأكاديمية، هل يكفي لقاء واحد بينهما للتطرّق إلى كّل المواضيع التي وردتني رسائلها، تثير إشارتها فضوله، لم يكن لقاء لوبي الشيرتون الوحيد يخمن. قدّم أحدهم عرضاً بجائزة مالية لمن يقتل كارهي اليهود، تخيّلها جثة في أحد شوارع لندن، حرقت رابطة الدفاع اليهودية دُمى تشبهني، أخبرتُك سابقاً عن المضايقات التي تعرّض لها المتعاملون معي، لا يخلو سردها من الإسهاب، اتصلوا بمنتج فيلم جوليا وهدّدوه بالاحتجاج على دور السينما التي تعرض الفيلم".

هكذا كانت تصل رسائلها إليه، وهكذا أراد كاتبنا جهاد الرنتيسي الإضاءة على المعنى الواضح والصريح، وربما المباشر للتفاصيل الذي سردها في الرواية، وما يشبه التوثيق التاريخي لمسار النضال الفلسطيني وقياداته التي تعرّضت للانشقاقات الكثيرة بين فصائلها، رغم اختلاف الأيديولوجيات فيما بينها، من اليسار إلى اليمين، فالمقاومة واحدة وواجب أخلاقي ووطني، وحتى النضال الفني والثقافي الذي كان حاضراً في الرواية، عدا عن قصة فيلم جوليا، ذكر رواية "رجال في الشمس" لـ غسان كنفاني، وذكر محمود درويش ودخولهُ على خط المصالحة بين القادة في بعض الأحيان. 

ونحن نسأل هنا: هل القادة هم أبطال الرواية الفلسطينية فعلاً؟ أم يوجد في الرواية بطل وحيد هو "جواد الديك" كما أسمتهُ "أم عامر" بطلي الوحيد، ولا يخلو الحب والنضال العاطفي من الرواية التي صوّرت المزج بين الحب والنضال في ثنائيّة العشق والانتماء ... رغم مسيرة النضال الطويلة ومتعدّدة الأمكنة في الشتات الفلسطيني، من الكويت وبيروت وسوريا، ويذكر بالتحديد مخيم اليرموك، حيث التيه واللا استقرار المفتوح على مصائر عديدة، ودائماً هناك لحظة الانتظار، الانتظار المقبل الذي لم يأتِ بعد.

السرد فائض باللغة الشعرية رغم المباشرة الواضحة في سياق النص الروائي المتداخل في حبكة متينة يذهب بكَ بعيداً ويعود إلى الخط الأوّل، وهناك ثوابت في الفكرة الجوهرية لا تتزحزح في الرواية، ومزج ثنائي مترابط بين المتخيّل والواقعي، في قوّة فائقة في التوثيق المكاني والزماني اللذين لا يغيبان عن النص الروائي، وهذا عادةً ما يُمتّع القارئ لأنّهُ جزء لا يتجزّأ من الشخصيات، وواحد من سكّان الأمكنة أو لاجئي المخيمات، وابن هذا النضال المتجلّي والملحمي، وهو يقرأ لا بدّ أن يردّد في سرّه: "أنا واحد منهم"، أو "هذه الرواية روايتي". 

يكاد الروائي جهاد الرنتيسي يمسك باللحظات التاريخية ويضعها لنا على طاولة التفكير الحسي والحدسي في آن، يخرج من المشهد ليدخل في مشهدٍ آخر أكثر دقّةً ممّا سبق، فهل نحن في صراع المشاهد والمراحل في النضال الفلسطيني، لكنّنا لا نصل إلى المشهد الأخير في مسيرة روايتنا الأخيرة؟؟.

الخاتمة:

كان للسلطة الرسمية نشيدها الرديء في هذه المسيرة، لأنّها لا تستطيع أن تقدّم أجوبة عن أسئلة المقاومة، ولا سيما حين أضاءت على الأجواء التهريجية في اجتماع القادة في الجزائر، في دورة المجلس الوطني، بأنّها تخفي الجوهر في حالة التهريج المضحك، وتتحمّل المسؤولية الكاملة في هذه الإخفاقات التي تعرّضت لها هذه المسيرة وهذا النضال الطويل، وكأنّهُ يُبيّن لنا ويقول: أنظروا أين كنّا؟ وإلى أين وصلنا بسبب إخفاقات وأخطاء القادة والسلطة؟ ربّما تكون فعلاً شامة سوداء أسفل العنق، الأثر الأسود الذي لا يذوب ولا يزولُ إلا بمراجعة تحليلية شاملة وعمليّة استئصال صحّي شامل لجسد الوطن المقبل.

اخترنا لك